بينما يسخر رواد السوشيال ميديا من الشيخ عبدالغني العقالي الذي أصبح «ترند» من العدم فجأة، رغم نشاطه منذ أعوام على منصات التواصل الاجتماعي، نجد أن في تلك الفيديوهات التي يظهر فيها الشيخ عدداً كبيراً من الناس الذين يستمعون بإجلال، ويكبرون ويهللون بعد كل قصة يحكيها الشيخ تحمل لطفاً من الله ومعجزة كتبها لأحد عباده، أو تحمل قبساً من رحمة نبيّه محمد وصحابته.
يبدو ذلك الجمع من الناس ملفتاً للنظر، لكون ظاهرة عبدالغني العقالي ليست مجرد سخرية يتداولها رواد التواصل الاجتماعي يومياً، فبالطبع لا يقوم الرجل بأداء تمثيلي من أجل تسلية من يتناوبون على تداول تلك الفيديوهات سخرية من أمثال السلفيين المتحمسين الذين يزعجهم أي تمظهر للتدين يبتعد عن الأصول ويحيد عنها قيد أنملة، وكذلك نظراؤهم من الذين يتعاملون مع الشيخ وجمهوره على أساس أنهم رمزية لما تحمله منظومة التدين من جهل وتخلف في طياتها تُمثل كل رذائل المجتمع وتخلفه في مختلف المجالات.
يؤكد الباحث عبدالله شلبي في كتابه «التدين الشعبي لفقراء الحضر» أن الدين دائماً حاضر في نشاط الفقراء في مصر ويوجه ويراقب تأملاتهم وأفعالهم كافة ويشكل نظرتهم لأنفسهم وللآخرين ولعلاقتهم بذواتهم والآخر ورؤيتهم للعالم.
فالتدين الشعبي هو محصلة لتكيف تاريخي بنائي متبادل بين الرسالة الدينية ومضمونها من عقائد وعبادات ومعاملات وطقوس من جهة والهياكل والأبنية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية للمجتمع في المقابل.
كانت محصلة ذلك التكيف جملة من الظواهر الاجتماعية البشرية المتغيرة من مكان وزمان لآخر، وهي في مجموعها ليست من الدين الإلهي بشيء سواء كانت موافقة لثوابت هذا الدين الإلهي أم مخالفة له، وفي هذا النمط من التدين، نواجه الدين كما يعاش وكما يمارسه الناس في حياتهم اليومية بما يتعارفون عليه خلال هذه الممارسات من رؤى وتصورات وأعراف وتقاليد أُلحقت بالتدين وهي ليست منه، أي إنه تدين يصدر عن الظروف الحياتية التي يوجد فيها الأفراد والجماعات.
لذلك يحوي ذلك النمط من التدين خطاباً وتصرفات شعبوية دائماً ما تُتهم من الأصوليين بأنها منحرفة، وفي أقصى الأحوال أنها كفر وتجديف. وتعتنقه القطاعات الشعبية الفقيرة في عصور الانحطاط لتسجل هروبها من مواجهة واقع اجتماعي شديد القسوة والعداء لهم ويحفل بكل أنواع الحرمان والتفاوت والظلم الاجتماعي والاستبداد، وواقع تتسيده حداثة قاتلة حرموا ثمارها.
كما يكتسي هذا النمط من التدين بطابع فولكلوري، وهو يتقاطع بين المسيحي والمسلم وليس حكراً على المسلمين فقط، فجميع المصريين يشتركون في وجود مساحة واسعة كبيرة من التسامح الديني تجمعها معتقدات وأساطير شعبية تتعلق بقوى الطبيعة والإيمان بالعجائب الخارقة وشخصنة القوى المقدسة والوسطاء بين الله وعباده إلى حد تركز التعبد في أحيان كثيرة حول شخص الولي أو القديس.
كما أن ذلك النمط من التدين لا يشترط تمسكاً بالأصول والفرائض بحذافيرها وحضور النص الديني الرسمي، ففكرة الدين والإله في البنية الثقافية المصرية هي أكبر من طقوس وشعائر الأديان على اختلافها على مر التاريخ المصري، فنحن هنا بصدد الدين ليس كنظام معياري كما هو موجود في الكتب والأسفار المقدسة ونصوصها وتأويلاتها وشروحها، وإنما بصدد الدين التاريخي الاجتماعي المتضمن في ثقافة المجتمع الذي يتخلل كل بنياته.
يذكر شلبي في كتابه أن ذلك النمط دوماً ما يظهر ويتكرر ظهوره، حيث إن الطرق الصوفية كانت هي وبشكل تاريخي الإطار التنظيمي والعقائدي للتدين الإسلامي الشعبي، وتتشابه الطرق الصوفية إلى حد كبير مع الأطر التنظيمية التي اعتاد عليها الشعب المصري تاريخياً بعيداً عن سلطة الدولة، أن يعيش وينتج في نظام للطوائف الحرفية القديم، لكل طائفة تنظيم هرمي شبه إداري.
تمكنت تلك الطوائف عبر تنظيمها أن تحتوي الشرائح الدنيا المصرية التي رأت أن الفقر شعار الصالحين، وأن الجاهل الأمي الفارغ قلبه من المعرفة والعلوم الدنيوية يمكنه الوصول بسهولة لأن يكون ولياً صالحاً لله، لأنه وحاله هذه يصبح من السهولة بمكان أن يمتلئ قلبه بالعلوم الربانية وحيث لا تنكشف الحجاب ولا تزال الأستار إلا للفقراء الصالحين لأنهم عيال الله وأحبابه. يبدو ذلك النمط من التدين تربة خصبة دائماً قادرة على أن تنتج العُقالي بشكل لا نهائي.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية فقط، تكررت حالة الداعية الريفي الذي يقيم الدنيا ويقعدها كـ«ترند» على السوشيال ميديا، هنا تأتي حالة المسمى العارف بالله إبراهيم أبو حسين المرفوت من وزارة الأوقاف وخطبه التي يتجمع حولها الناس ومقولته الشهيرة «دي نورانيات تأتي على القلب ويتلقفها العقل ولا يعلمها الدارسون».
في أحد فيديوهاته المنتشرة، يتحدث عبدالغني العقالي عن شخص لا يقدر على دفع مصاريف علاجه عند أحد الأطباء، وبينما يحمله أبناؤه ينزلق منهم على السلم وعلى إثر تلك الضربة يستقيم اعوجاجه ويعود صحيحاً بأمر الله وقدرته.
يحمل ذلك الفيديو مثالاً مهماً عن الحالة الشعورية كشرط أساسي من شروط دائرة التدين التي يمثلها هذا النموذج. فرواد الشيخ الذين أغلبهم من الفقراء حيث لا يقدرون على ثمن العلاج أو حج بيت الله أو الزواج يتفاعلون بشدة مع تلك القصص التي يروجها عبدالغني عن أعاجيب قدرة الله إذا أراد للشيء أن يكون فيكون.
في تلك الحالات، حيث لم يعد سوى الأمل بالله منجٍ لهؤلاء المُعدمين الذين لا يملكون قوت يومهم، وهم يتناسون عجزهم عن فعل الشيء بصبرهم وأملهم اللذين يستمدانهما من تلك العظات والعبر، فبينما يتعامل الساخرون مع ذلك كونه وهماً، يعد المؤمنون تلك العبر طوق نجاة.
إن تلك الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعانيها أمثال هؤلاء الرواد، بالتضافر مع حالات أخرى من انعدام الثقة في المؤسسة الدينية الرسمية والأوقاف وشيوخها وخطبهم يوم الجمعة، وكذلك غياب ثقافة النقد الديني أو بساطتها في أكثر الأحوال تفاؤلاً نتيجة لسنوات من التعليم المدرسي الذي لا يحمل منهجاً جاداً، أو نتيجة للأمية من الأساس، كفيلة بأنه لو لم يكن هناك عبدالغني العقالي ونموذجه لخلقته من العدم.
يؤكد ذلك أستاذ علم النفس مصطفى حجازي في كتابه «التخلف الاجتماعي» عن الدور الذي تلعبه الأدعية والتمائم والتبرك بالأولية في سيكولوجية الإنسان المقهور، وكيف أن تلك الوسائل هي الآلية الدفاعية التي يواجه بها المقهور حياته المعيشية التي يزداد سعارها يوماً بعد يوم من غلاء الأسعار وزيادة القهر وفقدان الحيلة تجاه القدرة على تغيير ذلك المصير السيئ بالوسائل المادية الممكنة.
لذلك يلجأ هذا الإنسان دائماً إلى السلوى في هذا النمط من التدين الذي يؤكد حضور المُعجز في اليومي. ويؤكد ذلك ما لاحظه الباحث سيد عويس في دراسته المنشورة في كتاب «رسائل إلى الإمام الشافعي» أن أغلب الرسائل التي تأتي إلى مقام ضريح الإمام الشافعي يُحقر فيها الأشخاص من شأن أنفسهم ويصفون أنفسهم للإمام بشكل بالغ الضعف والهوان.
لا يمكن أن تتفاعل تلك الفئة ونمطها من التدين إلا مع نص تفهمه، لا مع نص تعجز أمام قوته اللغوية بشكل قد ينغلق عليها فهمه. نحن إذا نظرنا إلى جماهير عبدالغني العقالي وأمثاله، نجد أننا بصدد التعامل مع كتلة كبيرة تشيع فيها الأمية التي حالت دون استظهارها للنصوص الدينية إلى درجة أن تلك النصوص تكاد تنمحي من ذهنياتها، كما يزعم شلبي في كتابه.
وبإزاحة هذه الجماهير الفقيرة من مجال النص الديني الرسمي وانتقاله إلى يد موظفي المؤسسة الدينية الرسمية وفي مقابلهم الجماعات الانفصالية الجهادية، لم يعد ليبقى في ذهن الجماهير الأمية من النصوص الدينية إلا أشباح مبهمة تتذكرها فحسب في المناسبات الدينية والترحم على موتاها.
والحال هكذا، يعد التدين الشعبي تديناً غير نصي ويتصل في وعي الناس ووجدانهم بالماضي القديم الأسطوري والممارسات الطقوسية. إن تلك الفئة من الجماهير تحتاج إلى تلقي الدرس الديني بلغة مبسطة تبتعد كثيراً عن ضوابط لغة الضاد وألفاظها الجزلة.
في حادثة أسرى بدر الشهيرة التي استشار فيها النبي الشيخين أبا بكر وعمر عن رأيهما قال له أبو بكر، «قومك وعترتك فخلِ سبيلهم»، وفي مقابل ذلك الرأي قال عمر، «أرى أن تمكنني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان فيضرب عنقه، حتى يعلم الله، عز وجل، أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين».
إن تلك الحادثة حينما رواها عبدالغني العقالي لحضوره استخدم لغة مبسطة إلى أبعد حد إذ يقول أبو بكر على لسانه، «ناسنا وأهلنا يا رسول الله طب إحنا يعني هندبحوهم هنقتلوهم؟ بلاش من الدم» وفي روايته عن عمر يقول، «والله العملية مافيهاش هزار لو ملكونا هيدبحونا.. طب إحنا مالكناهم نستنوا ليه عليهم؟ إحنا هنهزر يا رسول الله؟ إحنا هنؤسسوا دولة».
إن ذلك التبسيط لا يستهجنه أحد من المستمعين، وتلك الكلمة ذات الوقع الهائل «إحنا هنهزر يا رسول الله؟» التي هوجم بسببها الشيخ وتحول إلى مسخة، لم تثر حفيظة أحد من المستمعين كذلك، لأن ما يفعله الشيخ العقالي ونماذجه العديدة هي محاولة لصناعة مزيج بين القصة التراثية بألفاظها الأصيلة والحديث اليومي لجمهور تسيطر عليه الأمية بعد أكثر من ألف سنة على حدوث تلك القصة.
لا يتطلب الأمر سوى قليل من الإلمام بالدين وقصصه وأحكامه ليتحول المرء إلى رمز ديني في الريف بالأخص، وتحفل مذكرات طه حسين «الأيام» بعديد من نماذج هؤلاء الشيوخ ومقامهم العالي في الريف رغم ضآلة علمهم وتواضع لغتهم، وسر شهرتهم أنهم يتشابهون وجمهورهم ولا يشعرونهم بأي نوع من أنواع التعالي الذي قد يمارسه شيخ مبجل أو أحد المثقفين.
كما أن المستمع حينما يبادر إلى التفاعل مع الرسالة بحد ذاتها فإنه لا يحتاج أكثر من أن يتحدث بلغته العامية البسيطة، لقد لاحظ أستاذ علم الاجتماع سيد عويس أن أكثرية الرسائل المرسلة للإمام الشافعي التي حلل مضامينها كتبت بعامية منطوقة بل وتتنوع لهجاتها الريفية بحسب مكان المرسل.
عند التعامل بهدوء مع ظاهرة عبدالغني العقالي وهؤلاء الأئمة ووصفتهم السحرية التي تجعل منهم نجوماً، ومراعاة تجنب الهجوم والنجاة من فخ التقديس، نجد أن الجدية التي يلقاها الشيخ في الواقع تفوق السخرية التي يتلقاها في الواقع الافتراضي، يمكن فهم ذلك إذا تعاملنا مع العقالي ليس بصفته شخصه، أي الحكم عليه كونه «هجاصاً» أو صادقاً ، بل بقدر ما هو ظاهرة يمكن دائماً الانطلاق منها لطرح عدد من الأسئلة التي تخص الحالة الدينية في مصر، وفي الريف بشكل أخص في كثير من الأحيان.
ليست جديدة على مجتمع كالمجتمع المصري حالة الشيخ النجم، بل إنها تتكرر دائماً على مر القرون، وتحفل بها المائة عام الأخيرة بالتحديد نظراً لما حفظته الذاكرة البصرية أو الصوتية لنا بفضل التكنولوجيا، وما أقرب حالة الشيخ النجم التي مثلها وظل يمثلها طيلة 30 عاماً على المنابر «الشيخ كشك».
لقد كان الشيخ كشك أو كما عرفوه «فارس المنابر» واحداً من أكبر نجوم المشايخ الذين جمعوا حولهم الناس ليستمعوا عن واقعهم المعيش من خلال أعين رمز ديني، وليستمعوا إلى كثير من القصص الشيقة عن المعجزات التي تحيط بالمتدين وتحميه مثل قصة الأسد الجائع الذي أبى أن يأكل العارف بالله حين وجده ساجداً لله.
مثل نموذج الشيخ كشك في عصره مواجهة بين إسلام الشارع أو إسلام الجماهير في وجه الإسلام الرسمي ذي المنابر التي تم تأميمها والخطاب الديني الذي احتُكر تجديده من قبل المؤسسات الرسمية، وفي الواقع لا تنحسر المواجهة بين هذين النمطين من التدين، فهناك نوع ثالث هو التدين السياسي الجهادي المعارض الذي تنفر منه العامة وتكرهه بقدر ما يحاربه التدين الرسمي المؤسسي.
كان الشيخ كشك اختياراً شعبياً جماهيرياً يواجه شيوخ المؤسسات الرسمية الذين تختارهم الحكومات ويواجههم العامة بأعين الشك دائماً بأنهم ما كانوا ليصلوا إلى ذلك المكان وتلك المكانة إلا لخدمة راعيهم. كما أن شيوخ المؤسسة الرسمية دائماً ما ترددت مواقفهم وفقاً للمزاج الحاكم.
ففي الستينيات خرجت كثير من الأدبيات عن جذور الاشتراكية في الإسلام، سرعان ما ارتدت في السبعينيات للهجوم على ذلك المذهب، وكذلك كان الأمر مع الحالة الرسمية للدولة، فالناظر في سيرة شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية السابق محمد سيد طنطاوي يجده قد ألف مؤلفاً حصل به على الدكتوراه عام 1969 عن بني إسرائيل في القرآن والسنة وهو الذي يُمكن أن يُعد بياناً معادياً لليهود نظراً لما فيه من دعوة لأن هناك جوهرية في الشخصية اليهودية تحتم عليه أن يكون لئيماً وقاتلاً ولا يؤتمن إليه، أما في عهد طنطاوي ذاته في دار الإفتاء، فقد استضاف عام 1994 مؤتمراً للاتحاد العالمي للصحة العقلية كان أحد زواره حاخاماً إسرائيلياً ضمن وفد إسرائيلي كامل، وجوبه بهجوم شديد آنذاك.
إن تلك العدائية التي قد تنشب بين المؤسسة الرسمية والعامة قد تتطور أحياناً لأن تجعلهم يقبلون بالأذى لأنفسهم على أن يتبعوا أوامر المؤسسة الرسمية. وربما أبرز مثل هنا ما حدث في فترة الشيخ النواوي كشيخ للأزهر عام 1896 الذي لاحقته الاتهامات بكونه ميالاً للاستعمار في خططه الهادفة إلى تهديم الدين من خلال القضاء على نقاء المنهجية التعليمية في الأزهر وخلطها بالعلوم الجديدة الإمبريقية.
كانت فترة الشيخ النواوي هي ذروة وباء الكوليرا في مصر، وحينما أخذت السلطات الصحية مهمة التعامل مع ذلك الوباء في أروقة الأزهر قوبلت بمقاومة شديدة استدعت على أثرها الشرطة ورجم محافظ القاهرة محمد ماهر باشا بحجر في وجهه فما كان من الشرطة إلا أن ردت بإطلاق النار الذي أودى بخمسة طلاب، وألقي القبض على المئات. كما يذكر الباحث جاكوب بيترسون في كتابه «إسلام الدولة المصرية».