ريادة أعمال

رونالدو على يوتيوب: هل يجب ألا نتوقف عن تحقيق النجاحات؟

الفكرة التي تطرح من قصة رونالدو دائماً هي أنه يجب علينا السعي دائماً لتحقيق النجاحات دون توقف وأن ذلك هو النموذج الأمثل للحياة، لكن هل هذا صحيح فعلاً؟

future كريستيانو رونالدو مع درع الـ«يوتيوب»

مليون مشترك هو عدد المتابعين الذي حصل عليه كريستيانو رونالدو لقناته على «يوتيوب» في خلال 90 دقيقة فقط من انطلاقها، وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات تخطى عدد المشتركين في القناة 50 مليون مشترك.

وبالطبع لم يكن هذا الموقف ليمر من دون تحليل واستخراج للدروس المستفادة، وكيف أن رونالدو يقدم نموذجاً يُحتذى به في الرغبة الدائمة لتحقيق النجاحات المستمرة، فهو رغم أنه حقق كل شيء تقريباً في عالم كرة القدم، لكنه لا يتوقف أبداً عن السعي لتحقيق النجاح.

ورغم خصوصية حالة رونالدو وعدم إمكانية تعميمها على جميع المجالات، لكن الفكرة التي تُطرح من قصته دائماً بحسب ما يرى كثيرون هي؛ النجاحات المستمرة. والحقيقة هي ليست فكرة رونالدو وحده، بل هي فكرة يتبناها عديد من الأفراد، ويؤمنون بأنه يجب عليهم السعي دائماً لتحقيق النجاحات طوال حياتهم من دون توقف، ويصدّرونها على أنها النموذج الأمثل لحياة الإنسان، لكن هل هذا صحيح فعلاً؟

ثقافة العمل الشاق: لأن العمل هو كل شيء!

ثقافة العمل الشاق Hustle Culture هي ثقافة تشجع العمل الدائم لتحقيق النجاحات باستمرار، حتى لو ترتب على ذلك تضحية الشخص بحياته الشخصية، كما لا تضع هذه الثقافة حدوداً لما يمكن إنجازه، أي لا نهاية محددة لسلسلة الإنجازات.

مثلاً، اليوم حصلت على ترقية، ابدأ مباشرة بالتفكير في الترقية التالية. بنهاية الشهر حققت 100% من مستهدف المبيعات، هذا لا يكفي والشهر القادم عليك تحقيق 150%. وغيرها من المواقف التي تشترك في صفتين: تشجيع العمل المستمر من دون توقف، البحث عن نجاحات أكبر طوال الوقت.

ظهرت هذه الثقافة ابتداء في القرن الماضي، وانتشرت بكثرة في القرن الحالي، وسبب أساسي لشيوعها هو انتشار الشركات في وادي السيليكون، وتشجيع نمط معين من الإنجاز مصدره هذه المنطقة، ويتبناه كثيرون حالياً.

تغريدة لـ هارديك بانديا نائب الرئيس الأول للتصميم في شركة Unacademy

مثلاً، هذه التغريدة كتبها هارديك بانديا نائب الرئيس الأول للتصميم في شركة Unacademy، واختصاراً يقول فيها إن أولئك الذين يقولون إنه لا يجب عليك العمل في عطلة نهاية الأسبوع، ربما لم يتذوقوا أبداً ما يبدو عليه العمل الرائع، فمن كثرة التركيز على عملك الذي تحبه لن تهتم في أي يوم أنت، وأنك ببساطة إذا قررت العمل في وقتٍ محدد فهذا شأنك، لكن لا تحزن عندما ترى من يسبقك ويحقق نجاحات أكثر منك.

وهذه الفكرة وإن كنا قد نراها أحياناً بهدف السيطرة على الموظفين، وتشجيعهم على العمل خارج المواعيد المحددة، لكن الحقيقة أنها أيضاً قناعة يؤمن بها أصحاب الأعمال في شركاتهم الخاصة، وخير دليل عليها هو بيل جيتس مؤسس شركة «مايكروسوفت» الذي في بداية الشركة نادراً ما كان يأخذ أي إجازة، وكان يقول إنه في هذه المرحلة لم يكن يؤمن بالإجازات ولا بعطلات نهاية الأسبوع.

المشكلة الرئيسة في ثقافة العمل الشاق هي استنادها إلى مبادئ جيدة في ذاتها ما يصعب نقدها ورؤية الجوانب السلبية بها، فهي تقوم في الأساس على تشجيع النجاح وتحقيق الإنجازات، فمن الذي يكره هذا الأمر أو قد يرى به جانباً سلبياً؟

وبالطبع في عالم التواصل الاجتماعي يزداد التقدير لهذه الثقافة، فمثلاً عندما ينشر أحد الأشخاص صورة له وهو يعمل ليلاً في وقتٍ متأخر، مع عبارات حماسية عن شغفه في العمل وأحلامه التي يعيشها، لا شك وأنك ستجد مع هذا المنشور كثيراً من التعليقات التي تغبطه على هذا العمل، وكيف أن هذا يعبر حقاً عن الإصرار والشغف، فهو نموذج يُقتدى به، وبالتبعية ستجد آخرين يتحمسون لأن تكون هذه حياتهم.

هوس الإنجاز: تحول الذات من موضوع إلى مشروع

يعرّف الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ تشول هان المجتمع الذي نعيش به على أنه مجتمع الإنجاز، وفي تحليله لهذا المجتمع يوضح كيف تحولت الذات من كونها موضوعاً حراً إلى مشروع دائم للتحسين الذاتي المستمر، وهو ما يؤدي إلى ظاهرة الاستغلال الذاتي تحت قناع الحرية.

وفقاً لهان، يُدفع الأفراد لتحقيق أقصى أداء وإنتاجية باعتبار ذلك شكلاً من أشكال الحرية، لكن هذا السعي المستمر نحو الإنجاز يخلق مجتمعاً من الأفراد المفرطين في العمل، فتصبح حياتهم مُوجهة بالكامل نحو العمل من دون اعتبار لرفاهيتهم الحقيقية، وبدلاً من أن يكون العمل وسيلة للحرية يصير أبعد ما يكون عنها.

وبحكم وجودنا في بيئات تدعم هذه الصورة من الحياة، وبالربط مع ثقافة العمل الشاق، إضافة كذلك لهيمنة مبدأ المقارنة المستمرة بين الأفراد على حياتنا، فكان من المنطقي بمرور الوقت أن تصبح فكرة هوس الإنجاز فكرة شخصية فعلاً ينشدها عديد من الأشخاص في حياتهم، من دون رؤية جوانبها السلبية، بل وأحياناً إنكار وجودها تماماً.

أي ببساطة، لم يعد الأمر متوقفاً فقط على ما يفرضه العالم علينا، ولكن أصبحت هذه الفكرة التي تتحكم في دوافعنا، حتى تجد أن هناك عديداً من الأشخاص المهووسين بالإنجاز، لدرجة يصبح معها الأمر إدماناً حقيقياً.

لذا، فالشخص فعلاً لا يقدر على عيش لحظة النجاح الحالية، ويجد نفسه مدفوعاً نحو التفكير في ما هو قادم، والانتقال إلى رحلة النجاح التالية، وكأنه يبحث عن جرعة الدوبامين التالية التي ينتجها تحقيق الإنجاز، لكنه في الوقت ذاته يشعر بأن هذا لا يكفيه أبداً، ويؤمن بأن عليه الاستمرار في هذا الطريق طوال حياته.

ومرة أخرى لأنها فكرة إيجابية فقد نشعر بأنه لا مشكلة في قضاء الإنسان وقته سعياً نحو تحقيق النجاح، لكن الإشكالية الأكبر التي تتجاهلها هذه الفكرة؛ هل فعلاً يمكننا المواصلة في هذا الطريق دائماً؟ وهل هو الطريق الأفضل لنا حقاً؟

ما بين الإنجاز وهوس الإنجاز: الحد الفاصل بين النجاح والاحتراق

صحيح أن الإنجاز أمر إيجابي، لكن مع التحول إلى هوس الإنجاز وعدم الاكتفاء من تحقيق النجاحات مهما فعلنا، فإن المشكلة الأساسية التي ينتجها ذلك هي خلق اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، وبمرور الوقت قد نشعر بالإرهاق الذي يصل بنا إلى الاحتراق الكامل، وهي حالة قد تؤدي بك بمرور الوقت إلى التوقف عن العمل تماماً.

في كتابها «أسطورة النجاح: هوسنا بالإنجاز هو فخ. إليك كيفية التحرر منه» تتحدث الكاتبة إيما جانون عن التكلفة الحقيقية للنجاح، وأثره على الصحة النفسية للفرد ورضاه. وتذكر إيما أنها بعد تحقيقها لنجاحات عديدة في مختلف المجالات، فإنها أعادت اكتشاف مفهوم النجاح بعيداً عن الهوس بالإنجاز.

تناقش إيما أيضاً مفاهيم النجاح التقليدية والأساطير المتعلقة بها، وتفكك كيفية تشكيل هذه المفاهيم وأثرها على تصوراتنا الفردية للنجاح، وتشجع القراء على إعادة تقييم ما يعنيه النجاح بالنسبة لهم، والتركيز على ما يجلب السعادة والرضا الحقيقي فعلاً، بدلاً من السعي وراء المعايير الخارجية التي قد لا تكون مرضية لهم حقاً.

وهذه الفكرة الأساسية التي أناقشها هنا، بالطبع الإنجاز في ذاته أمر إيجابي من الجيد السعي إليه، والتفكير دائماً في حاجتنا لتحقيق النجاح في العمل مسألة حميدة لا مشكلة فيها. لكن من المهم حدوث ذلك في إطار يناسب إمكانياتنا وقدراتنا الشخصية، وألا ينبع من رؤية مجتمعية تفرض علينا نمطاً محدداً للنجاح، مع معرفة الضريبة الحقيقية للإنجاز، وما قد يأتي بعد ذلك من مشكلات نفسية عميقة.

والأهم هو إدراك الحد الفاصل بين الإنجاز وهوس الإنجاز، فالأول يمنحك حياة مليئة بالرضا ويحقق لك التوازن مع المشاعر الأخرى في حياتك، لأنك تدرك بأن الإنجاز جزء من حياتك لا محورها الوحيد، بينما الثاني يجعلك تدور في حلقة مفرغة من المحاولات التي لا تتوقف أبداً، لأنك لا بد وأن تستمر في تحقيق النجاحات، والمشكلة هي أنك رغم ذلك لا تشعر بالرضا في نهاية الأمر.

في الفيديو التالي، وتحديداً من بدايته حتى الثانية 26 يتحدث رجل الأعمال سميح ساويرس عن أنه بعد تحقيق أول 100 مليون، فإن ما يأتي بعد ذلك لا يهمه كثيراً، لأنه لا يصنع فارقاً كبيراً في حياته.

وبعيداً بالطبع عن أن لحظات كتابة هذا المقال تتزامن مع نهاية الشهر، أي إنني لا أملك سوى جنيهات قليلة أتمنى أن تكفيني حتى نهايته، لكن الحقيقة أن رؤية سميح هذه في تصوري رؤية منطقية جداً، فهو يطرح فكرة بسيطة عن أن هناك لحظات يمكن أن يشعر فيها الإنسان بالاكتفاء حقاً.

وما سيأتي لاحقاً ليس بالضرورة هو التوقف عن العمل، لكن إعادة التفكير في الأمور بصورة تناسب الوضع الحالي، مع الأخذ في الحسبان أنه فعلاً يمكن للإنسان في لحظات معينة من حياته أن يقرر التقاعد أو يقلل من حجم عمله، وأنه يمكن أن تأتي لحظة ما -يختلف موعدها من شخص لآخر- ونشبع من النجاحات.

ختاماً، هذه ليست دعوة للتوقف عن تحقيق النجاحات في حياتك، لكنها دعوة للتفكير في ما يعنيه النجاح بالنسبة لك أولاً، وثانياً دعوة لإدراك أثر محاولات النجاح عليك وعلى حياتك، فليس شرطاً أن تسير في طريق النجاحات طوال الوقت، فلا بأس من أن تشبع أخيراً من النجاحات.

# كريستيانو رونالدو # ريادة أعمال # يوتيوب

هل المبادر الأول في السوق «First mover» الأكثر نجاحاً؟
5 استراتيجيات مهمة لاحتراف هندسة الأوامر
كيف تطور نموذج العمل المناسب لشركتك الناشئة؟

ريادة أعمال