لم يذكر اسم الإمام الطبري الذي يُعد من أكبر أئمة أهل السنة إلا وتتبعه موسوعاته الكبرى التفسيرية والتاريخية، فهو علاوة على أنه من أوائل مفسري القرآن، اشتهر كذلك بالتأريخ إلى الحد الذي لُقب، بأبي التاريخ الإسلامي، عُرف عن تفسيره الموسوم بـ«جامع البيان عن تأويل القرآن»، أنه تفسير بالأثر، وهو «التفسير الذي يعتمد على المنقول والآثار سواء الواردة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة والتابعين، وكان يُبغض التفسير بالرأي والهوى، ولا يزال يشدد في الرجوع إلى الصحابة والتابعين والمنقول عنهم نقلاً صحيحاً، ويرى أن ذلك وحده، على حد تعبيره، هو علامة التفسير الصحيح. فلماذا ثار الحنابلة عليه ورموه بالزندقة والإلحاد، حتى ردموا بيته بالحجارة إلى أن مات؟!
لطالما جرى الإجماع في ما يتعلق بتفسير الطبري الذي يُعتبر أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا، على أنه النموذج الأمثل للتفسير بالمأثور المعني بنقل ما أُثرّ أو رُوي عن الصحابة والتابعين من التفسير، ولعل هذا بالفعل ما نجده ظاهراً جلياً في تفسيره، معرباً هو ذاته عن نقده للتفسير بالرأي بنحو ما أقر بقوله في تفسيره جامع البيان: تحت باب «الأخبار التي رُويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي»، «عن ابن عباس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»، مشدداً على ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو التابعين والمنقول عنهم.
وعلى هذا النحو، بحسب ما جاء في كتاب «مذاهب التفسير الإسلامي» لجولد تسهير، انتظم في تفسيره، آية بعد آية، التفسير بالروايات المروية عن العلماء المعتبرين وحدهم، وأيّد ذلك بالأسانيد المختلفة بالرجال الذين وصلت إليه المعرفة عن طريقهم، فهو يلاحظ في الدرجة الأولى المعنى الظاهر الواضح الذي لا يصح العدول عنه في التفسير، وقد تكون هناك مواضع أخرى في القرآن تستدعي تفسيراً آخر، ففي هذه الحالة يرجع إلى أقوال السلف، الصحابة والأئمة والتابعين وعلماء الأمة.
فنراه يجنح، بحسب ما أقر دكتور محمود النقراشي في كتابه «مناهج المفسرين»، إلى بيان التيارات الفكرية ممثلة في تيار قوي تتحكم فيه النزعات العقلية التي أتاحت لنفسها تفسير النص القرآني وفق الهوى العقلي أو المبدأ الفكري للمذهب الذي تدين له كما هي الحال عند المعتزلة والشيعة وبعض الفرق الأخرى فيحشد أمامنا النصوص النقلية للنهي عن التفسير بالرأي.
وكذلك فإنه في الأمور الاعتقادية، كالمتعلقة بالصفات والذات الإلهية، ورؤية الله تعالى يوم القيامة، كان يقف في تفسيره عند مذهب أهل السنة، مخالفاً المتكلمين، وعلى وجه خاص المعتزلة، ولعل أشهر مثال يوضح ذلك، بل يوضح بالأحرى مدى الاختلاف بين المعتزلة، أصحاب الرأي وأهل السنة، أصحاب الأثر، هو تفسير قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» (المائدة: 22، 23)، فالمعتزلة لا تفسر هذه الآية بالمعنى المادي وإنما مجازاً عن الثواب الذي يعده الله للصالحين، واحتجوا بقوله تعالى «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (الأنعام: 103)
أما أهل السنة فتفسر هذه الآية بأن الصالحين يوم القيامة يرون ربهم جهراً بأعينهم، وهذا هو قول الطبري محتجاً كذلك بروايات عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فبعد أن يسرد الاختلافات حول معنى الآية، يقول في ما جاء في جامع البيان، «وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب القول من أن معنى ذلك تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة، لمن ينظر في ملكه ألفي سنة، قال: وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله كل يوم مرتين: قال: ثم تلا (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) قال: بالبياض والصفاء، قال: (إلى ربها ناظرة) قال: تنظر كل يوم في وجه الله عز وجل».
بحسب ما أقر د. محمود النقراشي في كتابه «مناهج المفسرين» فإن تفسير الطبري كان جامعاً بين الأثر والرأي، فقد أدرجه ضمن عنوان «التفسير بالأثر مخلوطاً بالرأي»، ولئن اكتفى النقراشي بإيراد هذا العنوان الجامع في تفسير الطبري للأثر والرأي معاً دون بيان مواضع ذلك في كتابه، واكتفى بذكر ما دل على الأثر فحسب، فهو مع جولد تسهير كان عندما يظهر له الحديث يقصد «الأثر في ما روي عن النبي والصحابة» غير موثوق به، فإنه يصرح برأيه فيه بما يناسبه».
ولعل من النماذج الدالة على تفسير الطبري خارج حدود المأثور، إن جاز القول، ما تعلق «بمسألة الاستواء على العرش» وهي مسألة كانت ولا تزال من أكثر المسائل إشكالية بين المفسرين والمتكلمين، خصوصاً بين أهل السنة والجماعة والمعتزلة، وتندرج هذه المسألة في سورتين مختلفتين في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة: 29)، وقوله: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» [طه:5]
وفي حين جرى اعتبار الاستواء لدى المعتزلة على أنه «مجاز»، أو صورة تمثيلية (تمثيل)، وأنه ليس هناك عرش ولا استواء بمعنى الجلوس، وهذا التفسير أو بالأحرى التأويل يتوافق مع نفيهم للتشبيه والتجسيم الذي يستحيل اعتماده على الله عز وجل، وفقاً لما تجلى في قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ»، فإن فقهاء السنة وأصحاب الحديث قد تمسكوا في المقابل بالمعنى الحرفي للاستواء على العرش، مكتفين باعتماد القول المنسوب إلى مالك بن أنس في حين أو إلى ابن حنبل في حين آخر بأن «الاستواء معروف والكيف مجهول والحديث عنه بدعة».
فالطبري حين يتطرق لهذه المسألة يقوم بتفسير الاستواء الذي جاء في سورة البقرة بقوله: «ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات» أي «علا إلى السماوات السبع وهي دخان، فسوَّاهنَّ وحبَكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه»، ولعل هذه الآية لا تثير إشكالية مثل التي تثيرها الآية الأخرى المعنية بالاستواء على العرش، وهي الآية التي يسكت عن تفسيرها الطبري بقوله، «لقد شرحنا الاستواء في ما مضى فلا حاجة لإعادته هنا»، متجاهلاً وللغرابة الإشكالية الكبرى المُثارة حولها، فلماذا سكت الطبري عن هذه الآية وما دلالة ذلك، ولماذا لم يتفق مع مذهب أهل السنة والجماعة؟!
هل كان الواقع الذي عاصره الطبري بظروفه السياسية والمذهبية أثراً في ذلك وبخاصة أنه عاصر عصر ازدهار الحنابلة التي كانت من أكثر فرق أهل السنة والجماعة تشدداً في معتقداتهم الفكرية والعقائدية، وسيطرتهم على الواقع الفكري آنذاك!
لا سيما يوضح جولد تسهير ما عاصره الطبري في هذا الشأن فيقول: «ففي الأقاليم التي تسود فيها الآراء السنية ويعترف بها مذهباً رسمياً، تعتمد على جماهير الشعب الساذجة في محاربة الأقليات من أهل العقل، وفي غالب الأحيان تصاحب حركات الجماهير القسوة والغلظة، وأحياناً ما يأتون بأعمال وحشية تذهب فيها أرواح الناس، فأي مسألة من مسائل الخلاف في تفسير القرآن لا تجعل خاصة العلماء فقط فرقاً، بل تجعل الشعب الجاهل كذلك شيعاً وأحزاباً تتشاجر في الطرقات، وقد فهم الحنابلة المتعصبون هذه الغريزة في الجماهير التي لا تحسن النظر، وعرفوا كيف يثيرونها ضد الثائرين من أهل البدع، ويجعلون من ذلك نزاعاً يمس العقيدة.
مثال آخر يندرج ضمن خروج الطبري بتفسيره عن المأثور، وهو يتعلق بالأحكام، المواريث منها على وجه الخصوص، ففي قوله تعالى «للذكر مثل حظ الأنثيين» سكت القرآن عن تحديد ميراث الأنثيين، فقد حدد ميراث ما فوق الأنثيين بالثلثين في قوله: «فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ..»، وحدد ميراث الأنثى الواحدة بالنصف في قوله: «وإن كانت واحدة فلها النصف...»، وسكت عن حظ الأنثيين، وقد مثلَّ هذا الغياب لميراث الأنثيين، معضلة عظيمة على حد تعبير ابن العربي أقرها المفسرون واختلفوا فيها.
وفي حين راح العلماء يُجمعون على أن ميراث الأنثيين في حالة الانفراد هو الثلثان، فإن الطبري سكت عن تحديد هذا الميراث بقوله: فإن قال قائل: «فأين فريضة الأنثيين؟ قيل فريضتهم بالسنة المنقولة نقل الوراثة التي لا يجوز فيها الشك». وعلى الرغم من وجود رواية مأثورة عن النبي يستند إليها القرطبي دون غيره من المفسرين، تحدد ميراث الأنثيين، فإن الطبري أبى أن يستند إليها وارتأى له السكوت، وهذا أمر تعجب له محقق تفسير الطبري (محمود محمد شاكر)، بحد قوله: «وعجيب أن يترك أبو جعفر سياق الأثار، لحجته في هذا الموضع... وهذه أول مرة يخالف أبو جعفر نهجه في تأليف هذا التفسير».
اختلف الباحثون حول الصدام الذي حدث بين الطبري والحنابلة، فيقر جولد تسهير بأن الصدام قد جرى نتيجة الخلاف في تفسير آية من القرآن في سورة الإسراء «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً» (الإسراء: 79)، فماذا يعني المقام المحمود؟ فأما الحنابلة، فقد قالوا في تفسيرها: إن الله سبحانه وتعالى يُجلس النبي صلى الله عليه وسلم معه على العرش، وذلك جزاء لتهجده، وقالت الطائفة الأخرى ممن تأثر بالمعتزلة، إن ذلك كناية فليس المراد به مكاناً محدوداً ولكنه عبارة عن درجة «الشفاعة» التي أنعم الله بها على النبي لتهجده.
وحينما أبدى الطبري رأيه في التفسير الشائع لهذه الآية مصرحاً بأن «هذا القول غير مدفوع صحته»، مؤكداً أن حديث الجلوس على العرش محال، ثم أنشد «سبحانه من ليس له أنيسُ... ولا له في عرشه جليس»، ثار عليه الحنابلة المتعصبون، فرموه بمحاربهم وكانت ألوفاً، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وروي في غير موضع أنهم لم يفكوا الحصار حوله حتى بعدما بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحابه إلى أن يدفنوه في بيته.
أما، آدم مِتز في كتابه «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع»، يرى نقلاً عن كتاب «الكامل» لابن الأثير، أن الحنابلة قد تعصبوا على الإمام الطبري، إلى أن ثار عليه العامة بتأثير منهم، لأنه جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فسُئل في ذلك فقال: لم يكن فقيهاً، وإنما كان محدثاً.
ويذكر الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن العداوة التي نشبت بين الطبري وأبي بكر بن أبي داوود (817-888م) صاحب «السُنن» الذي كان ذا سلطة على الحنابلة، هي ما أدت إلى تعصب الحنابلة عليه، وسبب تلك العداوة هو أن أبا بكر هذا كان ناصبياً مُبغضاً لعلي بن أبي طالب، وآل بيت رسول الله عليه السلام. وحمله نصبه هذا على تأليف كتاب يقدح فيه حديث غدير خم، وغدير خم موضع بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، على مقربة من الجحفة، التي هي من المواقيت التي يُحرِمُ منها الحجاج للحج أو العمرة.) وكان ذلك في اجتماع حاشد. وبعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم، من أداء مناسك حجة الوداع، رفع النبي صلى الله عليه وسلم، يد علي بن أبي طالب، وقال: «من كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه».
فألَّف الإمام الطبري مؤلفاً أورد فيه الكثير من الأسانيد والحجج التي تسند هذا الحديث. فما كان من أبي بكر بن أبي داوود، وقد غلبته حجة الإمام الطبري وأفحمه بيانه، إلا أن لجأ إلى إثارة عامة الحنابلة عليه. وكان هو في مقدمتهم في بغداد. ورمى الإمام الطبري، بالتشيّع، والرفض، بل والإلحاد. واستمرت العداوة بين الطبري وابن أبي داوود إلى حين وفاة الطبري. إذ لم يتمكن أحد من الصلاة عليه. أو إخراجه من بيته وتشييعه. فما كان من أصحابه، على قلَّتهم، إلا أن صلّوا عليه، ودفنوه في داره ليلاً، خوفاً من عوام الحنابلة.
وذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن وفاة الطبري، فقال: «ودُفن في داره؛ لأن بعض الرعاع من عوام الحنابلة منعوا من دفنه نهاراً، ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من هذا ومن ذاك أيضاً، بل كان أحد أئمة الإسلام في العلم بكتاب الله وسُنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن أبي داود، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم ويرميه بالرفض». وعبارة «تقلدوا ذلك عن أبي بكر بن أبي داود» تختصر قصة التعصب: جهل وتقليد وعاطفة غير راشدة».