(1)
«كنت في كربلاء
قال لي الشيخ إن الحسين
مات من أجل جرعة ماء».
— أمل دنقل، مفتتح الورقة السابعة من قصيدة من «أوراق أبي نواس»
(2)
رجل صالح، لا ليس رجلًا صالحًا وإنما هو نبي، نبي ومعه أهل بيته وثلة من المؤمنين الخائفين، لم يدخل الإيمان لقلوبهم إلى من وقت قريب، هم الآن محاصرون، بعدما سمعوا أن العدو سيغشاهم في أية لحظة، وليس أمامهم إلا البحر، راجلون ليس تحتهم خيل ولا ركاب، والنبي أعزل ليس معه إلا عصا ويقين بأنه منصور، بأن معه ربه سيهديه. ويهديه ربه فيأمره بضرب البحر بعصاه فيبرز لهم طريقٌ يبسٌ يمرون عليه فينجون، ويمر عليه عدوهم فينطبق على جنده ويهلك.
...
رجل صالح، لا ليس رجلًا صالحًا بل هو ابن نبي، ابن نبي ومعه أهل بيته وثلة من المؤمنين رابطي الجأش، دخل الإيمان قلوبهم منذ أعوام وأعوام، هم الآن محاصرون، عطشى في الصحراء، يحول العدو بينهم وبين شربة ماء، بأيديهم سيوفهم، وتحتهم خيولهم، وفي أي وقت يمكن أن تصلهم نجدة العراق، أو يخرج على إثرهم أهل السلاح من مكة التي غادروها منذ أيام، أو أن يبرز لهم أعداؤهم– وهم على دينهم– فتسقط سيوفهم من أيديهم، وتلين قلوبهم أما كلمات أصحاب بيت النبوة، أو أنهم يكسرون سيفه دون أن يقربوا من دمه أو عرضه، يحملونه معززًا مكرمًا إلى حيث يشاء وينتهي الأمر، لكن كل هذا لم يحدث. بعد قرون من فرق عصا موسى البحر، ينكسر سيف الحسين، ويهراق دمه الطاهر على أرض كربلاء، ودم أصحابه وأهل بيته، ويساق من تبقى منهم من الحرائر والعيال حاسرى الرؤوس مغبري الثياب في مشهد تطير منه القلوب.
(3)
«نحن لا نطلب إلا كلمة فلتقل «بايعت» واذهب بسلام لجموع الفقراء..
فلتقلها وانصرف يا ابن رسول الله حقنًا للدماء..
فلتلقها ما أيسرها من كلمة..».
— من حوار الوليد للحسين في «الحسين ثائرًا» لعبدالرحمن الشرقاوي
...
«يمكن لحماس أن تستسلم، وينتهي الأمر».
— وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن
(4)
لقد كانت محاولة الحسين، هي المحاولة الأهم من بين محاولات استرداد الخلافة من اختطاف الأمويين لها، وكان رد السلطة العربية حاسمًا وواضحًا، لا كرامة، سنحمي هذه الدولة ونحافظ على هذا الملك، بأي ثمن كان، لا، بل بأعلى كلفة ممكنة، حتى لا يتكرر ذلك، ولكن أين الناس، أين الأمة، كيف يتخيل هذا، أن يسفك دم ابن بنت رسول الله وبضع وعشرون من أهل بيت رسول الله حتى كادوا يفنوا، ولم ينعهم الناس!
وليس العجب هنا في عدم النصرة حال الوقعة نفسها، فمن يقرأ في يوميات هذه الحوادث يجد محاولات متفرقة لجموع من المسلمين كانت بالقرب من الواقعة حاولت الوصول ولكن جيش يزيد كان يهزمهم، وبالطبع يُعرف من ذلك الزمان أن وصول الخبر المتأخر بالأيام كان حائلًا أمام التجهيز والنصرة لهم، فقد بدأ الأمر كله في الثاني من محرم وانتهى في العاشر، أي في ثمانية أيام فقط، وكانت رحلة الحسين نفسها من مكة إلى كربلاء أربعة وعشرين يومًا.
ولكن العجب هنا هو عدم خوف السلطة من غضب الناس وثورتهم العامة الشاملة في ربوع البلاد الإسلامية، إذا ما تناهت إلى سمعهم هذه المقتلة لأصحاب بيت النبوة، نعم هناك ثورات خرجت على فترات، لكنها لم تعم الناس كل الناس، ولم تشتعل في الأمصار كل الأمصار كما يمكن أن أتخيل أنا لو أني أقرأ كتاب التاريخ، وأتوقع الفصل القادم فيه بعد موقعة كربلاء، لكن ما حدث كان ثورات متفرقات خرجت أحيانًا للثأر من الحسين، وأحيانًا لطلب نفس مطلبه من بني أمية، أخمدت بشق الأنفس كثورة ابن الزبير في مكة، أو بأيسر من ذلك مثل ثورة التوابين أو ثورة زيد بن علي، وقضى عليها كما قضى على ما قبلها.
(5)
«ثم سار، فلما انتهى إلى الصفاح لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: أعطاك الله سؤالك وأمَّلك فيما تحب
فقال له الحسين: بين لي خبر الناس خلفك.
قال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.
فقال الحسين: صدقت، لله الأمر يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه،
وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتدِ من كان الحق نيته، والتقوى سريرته».
— ابن الأثير، «الكامل في التاريخ»
(6)
«يا أبناء شعبنا العظيم المبارك
يا مجاهدينا الأبطال الميامين في ثغور القتال ومواقع الرباط المقدس، في غزة
وفي كل ساحات القتال والمواجهة في فلسطين وخارجها
يا جماهير وشعوب قوى أمتنا العظيمة الكبيرة الممتدة
يا أحرار العالم في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
يبدأ أبو عبيدة (المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام) خطابه دومًا بهذه النداءات، يبدأ بشعب فلسطين وغزة على وجه الخصوص، ثم يثني بالمجاهدين على مستوى غزة ثم على مستوى الساحات الأخرى (ربما خص ذكر الضفة وحدها في بعض الخطابات) ثم يذكر في خطابات أخرى (لبنان واليمن والعراق)، ثم جماهير الأمة العريضة ويخص منها أحيانًا أهل الأردن، ثم أحرار العالم كله.
بهذه الطبقات الخمسة أخذت المقاومة تعُد السيوف التي معها، والقلوب التي معها أيضًا، وتتحاشى الحديث عن السيوف التي عليها (جماعة لا سمح الله) إلا تلك الواضحات البينات (الاحتلال ومن ورائه أمريكا وبريطانيا)، أما الخناجر التي لم تزل تطحن في سائر الجسد فهي من فئة (السيوف التي مع بني أمية) تخشى ما تعدهم المقاومة، تعدهم الفقر كما خرج علينا نديم قطيش وهو يقارن بين مجاعة غزة ورفاهة أبوظبي، تعدهم حربًا غير مأمونة العواقب، وتحرشًا بقوى عظمى، ومنحها الذرائع المناسبة كي تبيد الغزيين كبيانات السلطة الفلسطينية إثر كل مجزرة، وتحديًا لأنظمة قارة وأخرى تحاول أن تكون كذلك، وصعودًا لحركات لا نأمن معها على أنفسنا، ولا على أن تغتر بانتصارهم شعوبنا وتجر المنطقة مرة أخرى إلى كابوس 2011 المخيف.
إن حركة التاريخ دومًا تبدو لي كالتالي، قوى عظمى وكبرى تصنع الدول والإمبراطوريات والأنظمة، ودعوات وحركات تقاوم وتثور وتحاول تصحيح حركة التاريخ، تفلح أو تفشل، وهناك طريق ثالث ربما هو الأكثر حظًا، أن يأتي من رحم السلطة من يصحح مسارها
لا، سنمنعهم إذن شربة الماء، وسنعلق فوق رؤوسهم الذهب، لا كي يموتوا –معاذًا الله– ولكن كي يثوبوا إلى رشدهم، يعطوا ظهورهم للمقاومة، وتصبح غزة سنغافورة جديدة، لم لا يعم السلام، وتسود الرفاهة، وينعم الجميع؟
(7)
«وتساءلت:
كيف السيوف استباحت بني الأكرمين
فأجاب الذي بصرته السماء:
إنه الذهب المتلألئ في كل عين».
(8)
إن حركة التاريخ دومًا تبدو لي كالتالي، قوى عظمى وكبرى تصنع الدول والإمبراطوريات والأنظمة، ودعوات وحركات تقاوم وتثور وتحاول تصحيح حركة التاريخ، تفلح أو تفشل، وهناك طريق ثالث ربما هو الأكثر حظًا، أن يأتي من رحم السلطة من يصحح مسارها، جزئيًا أو كليًا، عمر بن العزيز في عدة أشهر، أو صلاح الدين يستولي على السلطة ويحارب الأنظمة التي تستفيد من بقاء الصليبيين قبل أن يحارب الصليبيين، وأغلبها محاولات لا تحدث نمطًا ولا تستمر.
والدعوات والحركات في كل عصر وفي كل جيل قد رفعت عنها عصا موسى منذ عهد النبوة الأولى، ولم يعد هناك سوى سيوف الحسين، أمام ذهب الأمويين، وإن السيوف التي مع بني أمية هي المستمرة إلى اليوم ضد أي مقاومة، سواء أكانت لاستعادة مسار خلافة هادية أو لتحرير أرض من عدو غاصب، ففي كلا الحالين هذه الفئة تريد تحرير الأمة كلها من هذا الأسر، والمقاومة هنا ليست لهذا العدو وحده، ولا لم يقف خلفه من كل أمم الدنيا المعادية، ولكن المعركة هنا كما تتضح يومًا بعد يوم منذ السابع من أكتوبر مع أنظمة القضاء على المقاومة أحب إليها من القضاء على الاحتلال، ولسان حالها هو لسان حال بلينكن: «يُمكن لحماس أن تستسلم وينتهى الأمر»، وحاشا لله، لسنا نرضى بالاحتلال، ولكن نرضى بسلطة من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، نرضى بعباس والذين معه، نرضى بأن يسلم لنا الحسين ونحن نهرع إليه وإلى أهله فورًا بشربة ماء، بل بنهر من الماء واللبن والعسل إن أمكن.
(9)
إن تكن كلمات الحسين..
وسيوف الحسين..
وجلال الحسين..
سقطت دون أن تنقذ الحق من ذهب الأمراء؟
أفتقدر أن تنقذ الحق ثرثرة الشعراء؟
والفرات لسان من الدم لا يجد الشفتين؟!
(10)
لكن من قال إن الحسين انهزم، أشعر أحيانًا بأن كربلاء قد أنقذت الحسين وآل البيت من التاريخ، وقد أتمت آية النبوة {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}، فماذا لو فاء أهل العراق جميعهم إليه، فانتصر بهم، وانتصروا به، وحكم باسمهم وكان له منهم بطانة، ثم ماذا يحل بالأمويين، ثم من يخلف الحسين وهل يكون فوق أحد من بيت آل النبوة إنسان كائنًا من كان، ومتى يخرج الناس إن أحدث باسمهم المظالم، ماذا لو نجحت الثورة وسقطت السلكة، فأصبحت الثورة هي السلطة الجديدة، واستمرت كسلطة ودولة، ربما لو قرأنا عن الثورات التي نجحت لعرفنا شيئًا من الجواب، لكننا على كل حال لن نعرف الإجابة.
ستظل دماء الحسين تنزف في غزة، سيظل ينزف، وسيظل أصحاب الحسين يموتون في الشمال والجنوب بثرثرة السلاح في يد عدوهم، وبصيام السلاح في يد قومهم وإخوانهم، دون جرعة ماء. وسنظل نحاول أن نتناسى الدماء.
ربما الإجابة التي نعرفها ستكون على سؤال: ماذا لو استسلم الحسين؟ إجابة نعرفها جيدًا كما نعرف ما الذي حدث عندما خرجت المقاومة في 20 أغسطس 1982 من بيروت واستسلمت، بشروط، بضمانات، بإبعاد، بكل الأوراق الممكنة بدلًا من الرصاصات، استسلمت ثم تفاوضت، ثم لم تصبح بعد مقاومة، أصبحت سلطة، وحتى هذه لم تكن إلا كلمة لم يتحقق منها إلا في كونها جهاز شرطة يعمل لدى الاحتلال، لهذا تعرف المقاومة الجديدة، أنها لا تستسلم، ولهذا يختتم أبو عبيدة خطاباته دومًا: «وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد»، ولهذا فإن دماء الحسين ستظل تنزف في غزة، سيظل ينزف، وسيظل أصحاب الحسين يموتون في الشمال والجنوب بثرثرة السلاح في يد عدوهم، وبصيام السلاح في يد قومهم وإخوانهم، دون جرعة ماء. وسنظل نحاول أن نتناسى الدماء.
(11)
مات من أجل جرعة ماء
فاسقني يا غلام.. صباح مساء
علني بالمدام..
أتناسى الدماء!!
— أمل دنقل، مختتم الورقة السابعة من قصيدة من «أوراق أبي نواس»