معرفة

دفتر الرحيل والإقامة: محمد صابر عرب

مؤرخٌ عالي المقام، امتلك رؤيةً تطويريةً حقيقية، وترك بصماتٍ غائرة في أساليب الإدارة والتحديث، وتجربةً ثقافيةً جديرةً بالتأمل؛ في وداع الدكتور محمد صابر عرب.

future وزير الثقافة الأسبق الراحل الدكتور محمد صابر عرب مع الأستاذ إيهاب الملاح

«وما زال يستقبل الراحلين من ذريته المنتشرة في أنحاء القاهرة»

—السطور الأخيرة التي اختتم بها نجيب محفوظ درته «حديث الصباح والمساء»

لست ممن يستهويهم الاستغراق في التعبير العاطفي الجارف في حالات الفقد والرحيل والغياب. درجتُ منذ حداثتي على استيعاب هذا الحدث المهيب، أو بإحساس الطفولة، حينما كنا نمر وقلوبنا تكاد تنخلع من الخوف والرهبة من تحت قطار البضاعة المتوقف على القضبان (لم تكن هناك وسيلة أخرى!) دون أن نعلم أنه يمكن أن يتحرك في أية لحظة ويقع ما يقع! هذا بالضبط إن جاز التشبيه شعوري في هذه السن بالموت! أهابه وأعلم أنه القضاء المحتوم، لكني ودون قصد أو تخطيط، اتخذت ردة فعل تبدو غريبة بعض الشيء، وتكرست ردة الفعل هذه بعد أن احترفت الكتابة، وصارت مهنتي وحياتي كلها.

التدوين عن لحظة الفقد

فإذا حُمَّ القضاء وأزف الرحيل، وأُعلن عن ارتقاء عزيز أو غالٍ، أو ذي قيمة أو مكانة (على الأقل من وجهة نظري)، أسارع بتسجيل ما حضر في نفسي في التو واللحظة، أسجل كل صغيرة وكبيرة ترد على خاطري.. استعادة ذاتية، خبرة علمية، قراءة ما، انطباع حي.. إلخ، ما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى شكل خاص لا أعلم بم أصفه أو ما هي حدوده الشكلية والأسلوبية!!

وأكتشف مع الوقت أن هذه الدفقة الداخلية تحمل ما هو أكثر من مشاعر وتأبين ووداع! إنها لحظة خاصة رهيفة، أقف عندها خاشعًا متأملًا مستسلمًا للمشيئة الإلهية الجليلة، وصار هذا الخشوع والتأمل -وأضيف عليه قدرًا من الاستبطان الداخلي- هي الآلية الدفاعية اللاإرادية التي أواجه بها هذا الحدث فجيعة الموت وإعلان الرحيل، والفقد، والوجع.

كل ذلك استعدته وعشته بزخم كبير وجياش، مع إعلانات رحيلٍ توالت خلال أسبوع واحد بغياب أسماء لها قدرها ومكانتها في نفسي؛ مكانة تكرست بالأدوار التي مارسها كل منهم، وبالقيمة التي سجلها كل غائب أو راحل بعمل سيبقى من بعده، وإنجاز سيخلد ذكره ما شاء الله ذلك، وبأسطر سُجلت ووثقت هذا الدور في مدونة الأعمال وسجل الوقائع والأيام في دائرة الثقافة والفكر والمعرفة والإنسانية..

في أسبوعٍ واحد، فقدنا المترجمة الراحلة أماني فوزي حبشي، والناشر الكبير محمد هاشم، مؤسس وصاحب دار «ميريت»، التي لا يمكن لتاريخ دقيق وموثق عن النشر في مصر والثقافة في العالم العربي أن يهمله أو يتغاضى عنه أو يتجاهله!

وآخر هؤلاء كان الإعلان عن رحيل الدكتور محمد صابر عرب (1948-2025)، المؤرخ والأكاديمي والمثقف الكبير، ورجل المهام والمسؤوليات الصعبة في الأوقات الصعبة، وزير الثقافة المصري الأسبق في حكومتين مختلفتين، خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة..

ربما كان الإحساس بوطأة رحيل الدكتور صابر عرب مضاعفًا لعلاقة إنسانية خالصة وصافية جمعتني به منذ العام 2010، وتوطدت وتوثقت على الأعوام التالية حتى وصلت إلى ما أستطيع أن أدعي أنها كانت أبوة خالصة وحانية من جانبه، وبنوة وتلمذة صادقة من جانبي!

مسؤول ثقافي في زمن صعب

لم أكن قد قرأتُ شيئًا للأستاذ الدكتور محمد صابر عرب؛ المسؤول الثقافي البارز، حينما كُلِّفتُ من قبل المجلة التي أعمل بها محررًا ثقافيًا آنذاك «مجلة أكتوبر القومية الأسبوعية» في مطلع العام 2010، أن أجري معه حوارًا مطولًا لمناسبة ثقافية ما (لا أتذكر الآن ما هي!)

أثناء إجراء الحوار بين الأستاذ الدكتور محمد صابر عرب والأستاذ إيهاب الملاح

كل ما كنت أعرفه عن الرجل الذي كان يتولى رئاسة أهم مؤسسة ثقافية حافظة للتراث القومي المصري، ووثائقه الرسمية، وذاكرته الوطنية عبر العصور «دار الكتب والوثائق القومية»، أنه أحد أنجح القيادات الثقافية في ذلك الوقت، وأنه ترك بصماتٍ غائرة في أساليب الإدارة والتحديث لهذه المؤسسة التي تعاقب على رئاستها أكثر من مثقف وأكاديمي في غضون سنواتٍ قليلة حتى استقر الأمر في النهاية لدى الدكتور صابر عرب، وبدا أن الرجل لديه رؤية كاملة وسياسات طموح للانتقال بهذه المؤسسة من حال إلى حال!

وأخذ هذا الصرح الهائل يتخذ موقعه الذي يستحقه بين مؤسساتِ الثقافة المصرية الرسمية؛ وكان أبرز ما تحقق من وجهة نظري خلال فترة إدارة الدكتور صابر عرب، هي عودة الهيبة والاحترام لهذه المؤسسة في الوجدان العام، ولدى وسائل الإعلام، كان الرجل ذكيًا وذا حضور ولباقة وقدرة على مخاطبة الرأي العام، وبالمناسبة فالدكتور صابر عرب من أفضل وأذكى المسؤولين الثقافيين خلال تلك الفترة تعاملًا مع وسائل الإعلام المختلفة، ومن أكثرهم لباقة وفصاحة وحسن بيان وتعبير؛ وهو ما صار استثناء وليس قاعدة في هذا الزمان العجيب!

وخلال سنواتٍ قليلة من تولي الدكتور صابر مهام منصبه، أصبح الدكتور صابر عرب من ألمع الوجوه الثقافية والفكرية في حياتنا الثقافية المعاصرة، إذ أثبت حقًا وصدقًا أنه من القلائل المجيدين والبارزين في مجال الإدارة الثقافية عمومًا وإدارة المؤسسات الثقافية الكبرى.

المهم، أنني قررت أن أقرأ كل ما أستطيع أن أصل إليه من مادة تعريفية بالرجل؛ فضلًا على كتبه وما تيسر من إنتاجه العلمي، ومقالاته المنشورة، فما زلتُ على قناعةٍ واقتناع بأن المحرر الثقافي والصحفي الحقيقي ليس محض جامعٍ للمعلومات، ولا ناقلٍ لها، إنما هو بالأساس وسيط ذكي وفاعل بين القارئ وبين مصادره الحية الذين يحاورهم من أجله، ويقدم له صورة واضحة الملامح مكتملة الأركان للموضوع الذي يعالجه أو عن الشخصية التي يحاورها، ويصوغ كل هذا في النهاية ببراعة وسلاسة، فيما يمكن أن نطلق عليه الشكل الصحفي المثالي.

المهم. أنني وقبل اللقاء المرتقب لإجراء الحوار تمكنت من قراءة حوالي ثلاثة كتبٍ علمية للدكتور صابر، فضلًا على عددٍ لا بأس به من مقالاته المنشورة، وعددٍ من الحوارات التي أُجريت معه في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية..

رؤية تطويرية حقيقية

والحقيقة أن أول ما لفت نظري في شخصيته (فضلًا على ما قرأت له) هدوء الرجل الشديد، وتأنيه، وصبره، ودقته في الحديثِ عما يتعرض له من موضوعات؛ سواء كانت علمية أم تاريخية، أم تتعلق بمسؤوليات الإدارة الثقافية، والخطط والرؤى والسياسات المتصلة بتلك الإدارة.. كان شديد الدقة، وهو يحدثني بكل تفاصيل المؤسسة التي يرأسها؛ كيف كانت.. وإلام صارت.. وما يخطط لكي تصل إليه في المستقبل القريب أو على المدى البعيد.

كان من الواضح تمامًا أن الرجل يمتلك رؤيةً تطويرية حقيقية، ولم يكن يقول كلامًا للاستهلاك المحلي أو الإعلامي؛ إنه يعي موضع كل كلمة يتفوه بها، مدركًا تمامًا مسؤوليته الكبرى تجاه الحفاظ على أثمن وأغلى ما تملكه مصر على الإطلاق؛ تراثها وعقلها وحافظتها من الوثائق والأرشيف الذي لا يقدر بمال أو ثمن أو كنوز، ولربما كانت وضعية الرجل الثقافية والأكاديمية قد أهلته ليكون (في ذلك الوقت) أفضل من يتولى مسؤولية دار الكتب والوثائق القومية في تلك المرحلة.

أما ثاني ما لفتني في شخصية الدكتور عرب؛ فكان طبيعة تخصصه العلمي الدقيق (التاريخ؛ وبالدقة التاريخ الحديث والمعاصر) وإسهاماته العلمية فيها؛ إذ وجدت أمامي مؤرخًا كبيرًا قديرًا وعالمًا جليلًا، ضمن الزمرة المضيئة من المؤرخين المصريين المعاصرين الذين قدموا إسهاماتٍ كبيرة ومحترمة ومقدرة؛ سواء منهم من تخصص في التاريخ القديم بتشعباته، أو التاريخ الوسيط بتقسيماته وفروعه، أو التاريخ الحديث والمعاصر، وهذه الدائرة الأخيرة هي التي أدلى فيها الدكتور صابر عرب بدلوه، وقدم فيها ما يشهد بأستاذيته وتمكنه واقتداره.. (وهذه الجزئية تقتضي التفصيل المستوعب لأنها لم تنل ما تستحقه أبدًا من تأمل وقراءة وإضاءة).

مؤرخ عالي المقام

أغلفة كتب: من اليمين «بين الثقافة والسياسة»، «المفكرون والسياسة في مصر المعاصرة»، «الدين والدولة في الفكر الإباضي»، «قضايا لها تاريخ»

وكان ثالث ما استوقفني، يتصل بالخصيصة السابقة؛ إذ وجدت وأنا أقرأ بعض نتاج الدكتور صابر العلمي (كتابه عن «عباس العقاد والسياسة»، وكتابه عن «الدين والدولة في الفكر الإباضي»، وكتابه «قضايا لها تاريخ» الذي جمع فيه طائفة معتبرة من مقالاته العلمية وافرة الثراء والمعرفة والإفادة، ونشرت طبعته الأولى في 2012) أنه مؤرخ عالي المقام، استوفى شروط الكتابة التاريخية، وقدّم أعمالًا تشهد برسوخ القدم، وطول الباع، ووفرة المعرفة، وامتلاك المنهج؛ كل ذلك فضلًا على المتعة المصاحبة للكتابة، وهذه الخصيصة أصبحت شحيحة جدًا الآن فيما نطالعه من كتب ودراسات باحثين جدد ممن يكتبون بجفاف وغلظة وخشونة (ربما لضعف الملكة اللغوية واضمحلالها من ناحية، ولسوء وضعف التكوين الثقافي والأدبي من ناحية ثانية، ولتردي الأوضاع بشكل عام من ناحية ثالثة!! أو كل هذه الأمور مجتمعة! وهذا حديث يطول وليس هذا مجاله الآن)..

(وللحديث بقية)

عن «إنقاذ السيناريست» والذي ليس بسيناريست
محمد جلال كشك يكتب: كفاح هادف ولكن ضد الوجود العربي
عائشة عبدالرحمن تكتب: اللغة العربية وعلوم العصر

معرفة