أثناء فرارها من مصير مجهول بعد انقلاب عربة الترحيلات تجد ليلى نفسها في منزل رجل شارف على العمى الكلي، يخوضان معاً رحلة نجاة من موت وشيك، يبقى كل منهما على قيد الحياة في عدمية دائرية لا تنتهي، هكذا سرد المخرج والكاتب الإيراني Vahid Jalilvand أحداث فيلمه «وراء الجدار - Beyond the Wall» إنتاج 2022 الذي يشتبك من خلاله مع واقع المدينة والبلاد ويكشف كيف تفرض المدينة مصائر مأساوية لقاطنيها؟ ويحضر سؤال آخر يطرح نفسه وهو ماذا لو لم يكن هؤلاء الأشخاص من قاطني هذه المدينة هل كانت لتتغير مصائرهم؟ يتكرر السؤال، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مع عدد من الأفلام المقبلة من بلاد فارس التي تشتبك بدورها هي الأخرى بطروحات فنية مختلفة مع حالة الاحتقان والتي تحاصر الحاضرين في أحضانها.
تتباين أشكال التعامل مع المكان وحضوره إذ تختلف معطيات التعامل مع المحيط باختلاف تأثيره على الأفراد، قد يكون المكان منبع ثقة وملاذاً آمناً وربما يكون احتواء زائفاً إن كان يحد من الطموح المنتظر وهو ما يجعله مصدراً للثقل لا الثقة، كما حال علي في فيلم «وراء الجدار» الذي كان يعمل سائق عربة ترحيلات تقل عدداً من المتمردين في نظر القانون، هؤلاء المطالبون بأجورهم المتأخرة في بلد تشهد تضخماً خانقاً وتراجعاً في قيمة العملة، يصادف وجوده ليلى القادمة للمطالبة بمستحقاتها مع ابنها من ذوي الاحتياجات الخاصة، لا يعرف كل منهما الآخر لكن يجمعهما مكان واحد.
داخل عربة الترحيلات يستيقظ شعور بداخل علي، شعور إنساني يدفع ثمنه حياته، من خلال أحداث مبعثرة كالكولاج يدخل المشاهد حياة علي متلصصاً وكيف اقتحمت ليلى حياته داخل البيت الذي يسكنه، مع إرهاصات مستمرة تدفع المشاهد في النهاية إلى التيقن أن علي يعيد تمثيل التجربة التي عاشها سابقاً، من خلال تكوينات بصرية ومشاهد ملائمة مع حالة التوتر المستدامة التي يعيش فيها.
ذكرى ساقته إلى مصير قاس ارتضى أن يكون فيه خلف جدران السجن الانفرادي، تتكرر سيناريوهات تخيلية بتنويعات مختلفة عن الصحوة الإنسانية التي يعيشها علي داخل عربة الترحيلات استجابة لاستغاثة ليلى المتوسلة للضابط المسؤول عن نقلهم إلى قسم الشرطة للبحث عن ابنها المعاق بعد أن تاه وسط الحشود المتظاهرة، يتحول علي في تلك اللحظة من مجرد سائق يبدو أنه غير مبال في بداية الأحداث إلى مشارك في صياغة الحدث.
تهرب ليلى ويدفع علي ثمن هذه اللحظة الإنسانية التي مزقته بين الواجب والرحمة، ببصر أوشك على المضي وخطابات من دون عنوان ترسلها ليلى تشكره على ما فعل، يعكس الفيلم معنى البطولة بعيداً عن مظاهر الملحمية الصاخبة، إن البطولة ربما تتجسد في بعض اللحظات في الصراخ في وجه الظلم الذي يشهده مواطن بسيط.
تحت وطأة السلطة الأبوية غير الحكيمة تعيش ليلى مع إخوتها الذكور الأربعة، منوچهر، علي رضا، بافيز وفرهاد، يعاني هؤلاء الإخوة من تردي أوضاعهم الاقتصادية التي تزداد سوءاً بفعل والدهم إسماعيل الذي يسعى لاهثاً خلف الحصول على لقب شيخ العائلة لا لشيء إلا الشعور بالاحترام مرة في حياته، هذا الرجل الذي برع في اتخاذ القرارات الخطأ طوال حياته وجعل من أبنائه ضحايا حيث يكرهون أنفسهم قبل أن يكرهوا الآخرين من حولهم.
يقدم المخرج سعيد روستايي في فيلم «إخوة ليلى - Leila's Brothers» إنتاج 2022 خطة نجاة ترسمها ليلى ببراعة ويشارك بها إخوتها للنجاة من الفقر المميت وبلوغ مستقبل أفضل، تدرك ليلى أنها حتى تحقق ما تريد عليها أن تشرك إخوتها الذين تشفق على مستقبلهم، نرى ذلك في عدد من المشاهد على مدار أحداث الفيلم لا سيما مع أخيها الأقرب علي رضا الذي يفتتح الفيلم وهو يهرع من الأمن خائفاً من تفاقم المظاهرات المطالبة بالرواتب المتأخرة، تسهم ليلى دون أن تدري بتغيير علي رضا إذ يصبح إيجابياً نحو نفسه على أقل تقدير.
يعيش الإخوة داخل سجن ثقيل متعدد الطبقات، يتجسد في البداية ظاهرياً من خلال البيت المكتظ الذي تتكدس فيه الأجساد داخل غرفة واحدة يفتقر لأي شكل من أشكال الخصوصية. يتفاقم الثقل من خلال حالة الغضب وتراكم الكذب والكراهية الدفينة داخل الإخوة، وفي لحظة انفعالية ترمي بها ليلى المثقلة تصفع والدها في لحظة تتجلى بها تهشيم السلطة الأبوية ذات القرارات الخطأ والتي أودت بتلك العائلة إلى الهاوية.
عادة ما يطرح روستايي أزمات اجتماعية مع لهجة ذات نقد لاذع للسياسات التي أودت بهؤلاء إلى الهاوية ممثلة في السلطة الحاكمة التي تشكل السلطة الأبوية المطلقة، كما الحال مع فيلم «إخوة ليلى» وأفلامه الأخرى، إذ تتداخل الرغبات ويتصادم الصغار/ الإخوة مع قرارات الكبار الطائشة/الأب، لهذا تعتبر الصفعة التي تسقطها ليلى على وجه أبيها مع اقتراب نهاية الفيلم بمثابة صفعة على وجه النظام الأبوي السلطوي الذي يتخذ قرارات يدفع ثمنها الأبناء/المواطنون.
يربط روستايي بين الواقع المعاش بأحداث الفيلم بطريقة سلسة إذ يتعرض الإخوة لهزة بعد ارتفاع سعر الدولار وتضخم العملة وتصبح ثروتهم المتواضعة دون قيمة تذكر، تمتاز أفلام روستايي برصد الواقع وانتقاد السلطة دون الحكم على الأبطال، وهو ما يعزز تصوراً في ذهن المشاهد أن هؤلاء الأبطال يتصرفون بطبيعية وفق الموقف واللحظة التي يمرون بها، مما يخلق سخطاً ضمنياً على هذا الواقع المفروض عليهم ويضطرون أن يعيشوا فيه.
يتحدى روستايي القيم المجتمعية والسلطة الأبوية بجعل ليلى الأخت هي البطلة التي تتحرك من خلالها الأحداث، يموت إسماعيل الأب في مكانه بعد أن تسبب في خسارة أولاده كل ما يملكون، بصورة ما يحرر أبناءه بموته، في لحظة يصبح إسماعيل منسياً ويغرق الجميع في فرح احتفالاً بمولود الأخ الأكبر بافيز، في رمزية مبطنة بميلاد مستقبل جديد بعيداً عن السلطة الأبوية الطائشة.
في فيلم «الحرب العالمية الثالثة World War III» إنتاج 2022، يرسم الكاتب أزاد جعفريان Aza Jafarian الذي شارك في كتابة فيلم «إخوة ليلى»، ملامح شخصية شكيب مع المخرج هومن سیدي/Houman Seyyedi، يحيى شكيب حياة مزدوجة بين الواقع والخيال، إذ يتنقل بين كونه عاملاً باليومية في بناء مواقع لتصوير فيلم تاريخي ولعب أدوار داخل الفيلم، فمن يهودي يتعرض للاضطهاد إلى هتلر الذي يتربع على عرش العالم.
هذا التدرج الذي تمر به شخصية شكيب داخل الفيلم/ الخيال يعيشه أيضاً في حياته إذ يتحول من مجرد عامل في موقع التصوير إلى بطل الفيلم الذي يسعى الجميع لراحته، لكن هناك سراً، يخفي شكيب سر وجود حبيبته في قبو المنزل/ موقع التصوير كما يخفي القائمون على الفيلم عدم احترامهم الحقيقي له أو بالأحرى لإنسانيته، يتحول شكيب من مفعول به إلى فاعل ويصبح الانتقام لديه هواية كما حال هتلر.
من التخيل إلى الواقع يرسم شكيب ملامح جديدة لقدرته ويقتل طاقم العمل بأكمله الذي أجبره على عدد من الأشياء التي لم يرد أن يفعلها، ويرى أنهم السبب في وفاة حبيبته، تداخل ومفارقات يعيش بها مشاهد فيلم «الحرب العالمية الثالثة» ما بين الواقع والخيال وانصياع شكيب إلى قواعد المكان التي حولته لمنتقم عطش لمشاهدة ضحاياه يسقطون أمام عينيه بعد أن فقد كل شيء ولم يبقَ منه إلا شارب هتلر.
كما حال ليلى الساعية لانتشال نفسها وإخوتها من الفقر يفعل ناصر الشيء نفسه لتحقيق النجاة لعائلته سالكاً مساراً غير قانوني، في فيلم «قانون طهران - Law of Tehran» إنتاج 2019 أو 6.5 فقط كما يعرف داخل إيران يقدم الكاتب والمخرج سعيد روستايي تنويعة جديدة لما يدور داخل تلك البلاد، يرى روستايي ضرورة كفاح الفرد للارتقاء بنفسه وعائلته داخل البلاد، يوجه بصورة غير مباشرة لضرورة التمسك بحق الفرد في بلاده وأن يعيش حياة جيدة.
يفرض المكان واقعاً مغايراً لما يأمله أبطال روستايي في حين يعانون لتغييره، من بين الساعين للتغيير صمد الذي يعمل ضابطاً في دائرة مكافحة المخدرات يفتتح الفيلم مع زملائه الذين يتتبعون تجار المخدرات تتدفق الخيوط للوصول إلى ناصر الاسم الأبرز في هذا العالم الغامض، يسير الفيلم في رحلة متوازية بين رغبات الأبطال، إذ صمد الذي يطمح في الارتقاء الوظيفي لتحقيق استقرار عائلي وناصر الذي يفعل ما بوسعه للخروج من السجن تحقيقاً للأفضل لعائلته، والمحقق وحامد الضابط الذي فقد ولده على يد تجار المخدرات ويريد الثأر لابنه.
بعد رحلة طويلة يعيشها المشاهد بين الأحداث والشخصيات المتنوعة يرسم روستايي صورة عن مدى القسوة التي تغلف حياة الجميع، يقضي ناصر حكم الإعدام ويحظى حامد بترقية بعد أن يغادر صمد الوظيفة التي بات يشعر أنها لن تجدي نفعاً، محاولاً بلوغ سلام داخلي لا يجده في حياته الوظيفية، للحظة يشعر المشاهد أن صمد قد استسلم لكنه يدرك في النهاية رغبته في الوصول إلى حالة هدوء لا نراها على مدار أحداث الفيلم الصاخبة.
حينما وجد البوليس ناصر في شقته الفارهة كان قد تناول لتوه حبوباً للانتحار وشارف على الموت أُنقذ ليواجه الموت أيضاً لكن دون رغبته، السواد الأعظم من أبطال روستايي مضطرون إلى المضي في طريق لا يريدونه إذ إنهم أشخاص دون حول أو قوة كما هو الحال مع سمية في فيلم «الحياة ويوم - Life and a Day» إنتاج 2016 تنصاع سمية إلى قرار أخيها الكبير مرتزى لتزويجها في مقابل حصوله على أموال لافتتاح مطعم يحقق الرخاء للعائلة التي تعاني، في حين يرفض الأخ الأصغر محسن هذه الصفقة، ما يضعف موقف محسن أنه مدمن ويبيع المخدرات ولذا لا يعتد برأيه.
يفرض الواقع التضحية سواء بمصير سمية أو العائلة بأكملها، كل شيء على المحك تختار سمير العودة إلى العائلة وأن يعاني جميعهم معاً ترفض السفر والنجاة بمفردها، قد يكون تصرفاً رومانسياً غير عملي لكن ما قيمة الحياة في وحشة دون العائلة، من المرح أن دائرية الألم مستمرة لكن تفضل سمية هذا الألم على الشعور بالذنب كونها حققت الخلاص الظاهري.