شهد كتاب «فرقة العمال المصرية» الصادر عن المركز القومي للترجمة في مصر ترحيباً لافتاً من قبل الوسط الثقافي المصري لمؤلفه كايل جون أندرسون المتخصص في تاريخ العرب الحديث وأستاذ التاريخ المشارك في جامعة ولاية نيويورك بأمريكا. يحكي الكتاب عن تجنيد نحو نصف مليون مواطن مصري في الحرب العالمية الأولى وإجبارهم على إنجاز الأعمال اللوجيستية بالسخرة في أوروبا لصالح الجيش البريطاني. وفي إطار البحث عن أسباب تهميش قضية الفيلق المصري نلتقي في هذا الحوار المؤرخ الأمريكي مؤلف الكتاب للحديث عن مؤلفه الذي أعاد إحياء قصة العمال المنسية ومعرفة مؤلفاته المنتظرة.
الذي دفعني للكتابة عن فرقة العمال المصرية، يأتي في مقدمته اهتمامي بالفلاحين المصريين منذ 2008، حينما سافرت إلى أسوان بالقطار أحببت الفلاحين المصريين بشدة، في ذلك الوقت خططت لكي أصبح مؤرخاً يسرد بعناية شديدة تاريخ فلاحي مصر، حين اكتشفت تهميشهم في تاريخ العرب الحديث، بعد عودتي لأمريكا أجريت بحثاً للحصول على درجة البكالوريوس حول الإصلاح الزراعي في مصر في عهد جمال عبدالناصر واستكملت أبحاثي بدراسة الدكتوراه.
في هذه الفترة اكتشفت أن مئات الآلاف من المصريين خدموا مع الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، وهذه الفرقة غابت تماماً من كتابات التأريخ وأصبح لدي شغف شديد لاكتشاف الحقيقة، أريد أن أحكي الحكاية فهم فلاحون من دلتا مصر وصعيدها واجهوا عنصرية ومعاناة موجعتين لم يحكهما أحد.
نحن المؤرخين دائماً لا نستطيع أن نرى الناس الذين قرأنا عنهم، فهم رحلوا وانتهى الجيل المنتمون إليه، انتهى بثقافتهم وأسلوب حياتهم، ولذلك فإننا لا يمكننا لمس ثقافة وطباع ذلك الجيل المنتهى إنما نرصد ما كُتب في الوثائق التاريخية حولهم، بينما الفلاحون الحاليون استطاعوا اكتشاف كثير من المعلومات عن العالم فهم سافروا لفرنسا وإيطاليا وغيرهما، فالفلاحون الآن يشاهدون التلفاز ويقرؤون الصحف فهم أكثر تفتحاً من الجيل السابق.
هناك فرق بين الاستعباد والعمل بالسخرة، الفارق هو منح أفراد فرقة العمال المصرية أجور يومية ستة قروش لكل عامل مقابل خدمته، وهذا كان أجراً مناسباً في ذلك الوقت في ظل ارتفاع نسبة البطالة داخل الأقاليم المصرية، إبان الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى وجود تعاقد بين العمال والحكومة البريطانية، والعقود حددت مدتها بين ثلاثة وستة أشهر وبعدها يمكنهم العودة إلى مصر، لكن التشابه الوحيد بين ما جرى مع الفيلق المصري والاستعباد هو عنصرية الضباط الإنجليز ضدهم؛ إذ كان لكل فرقة رئيس إنجليزي أبيض وتبين لي من قراءة مذكرات الضباط الإنجليز ومراسلاتهم أنهم استخدموا أساليب عنصرية ضد العمال.
عند بداية التجهيز لكتابي لم أحدد الفكرة الرئيسية للكتاب، لكن كان واضحاً الفعل العنصري بحقهم من قبل الضباط الإنجليز، وأن هناك حالة من التشابه بين حركة حياة السود التي نشطت عام 2013 وتوغلت احتجاجاتها في شوارع نيويورك 2020 بالحي الذي أسكن فيه، حاولت الربط بين الحالتين ومن دون الحديث عن العنصرية أو وجودها لن يكون للحديث عن فرقة العمال المصرية أي قيمة، وهذه الفرقة ضمن فرق عدة تعود إلى الصين والهند وأفريقيا تم دفعها للعمل بالإجبار لصالح الجيش البريطاني.
في الحقيقة تعد فترة الاحتلال البريطاني لمصر، جزء أصيل من تاريخ مصر الحديث، وهنا لا أقصد أن الاحتلال البريطاني كان جيداً أو سيئاً، فمهمة التأريخ والمؤرخين هنا هي رصد ما جاء ذكره في الوثائق والأدلة التاريخية، ومن الحق القول إن المؤرخ عليه أن ينقل ما توصل إليه خلال البحث وأن يقارن بين أوضاع مصر في ظل الاحتلال الإنجليزي وأوضاعها في ظل الاحتلال الفرنسي، كذلك فإن نقل التاريخ يتجرد كلياً من وجهات النظر التي قد يتبناها كتاب الرواية أو الأدب السياسي، يكتب التاريخ من دون تحيز ومن دون إبداء الآراء فيه.
وهنا أكون كمؤرخ على عكس ما كتبه كثير من «الأفندية» المصريين الذين كانوا موالين للاحتلال البريطاني لمصر ضد الاحتلال العثماني، لقد كتب أحمد زغلول باحترام عن الاحتلال البريطاني لمصر على الرغم من كونه شقيق سعد زغلول قائد ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي، كذلك يذكر التاريخ أن أحمد لطفي السيد مؤسس حزب الأمة كان موالياً للاحتلال البريطاني ضد العثمانيين، خصوصاً في حادث طابا بسيناء عام 1906، ونحن كمؤرخين نركز على نقل التاريخ كما حدث فقط.
أعتقد أن الأفكار العنصرية ليس موطنها أمريكا أو أي بلد معينة إنما هذه الأفكار توجد في العالم كله، ولقد رأينا أثر هذه الأفكار، لقد رأينا تأثير هذه الأفكار العنصرية على فرقة العمال المصرية كمثال، وهناك سرديات صدرت منذ 20 عاماً تحدثت عن تأثير العنصرية في العالم العربي والشرق الأوسط. حتى إن بعض الأفكار وصلت من تاريخ الثقافة الإسلامية، وهذا ما تحدثت عنه في الفصل الثامن من كتابي، إن بعض المؤثرين مثل سلامة موسى ومحمد صبري قد أعادوا صياغة أفكار تتناول قضية العرق.
لا.. ليس هذا بالضبط، لقد قرأت النصوص الإنجليزية التي شملت مواقف عنصرية ضد المصريين وأيضاً قرأت الكتب التي تحمل أفكاراً عنصرية ضد الأفارقة، ومهمتي هي رصد تاريخ العنصرية ضد الأفارقة وضد المصريين تاريخياً، وخصوصاً ما جاء في تاريخ العرب الحديث، وليس ذلك يعني أنني قريب أو بعيد من فكرة المركزية الأفريقية.
إن الضباط الإنجليز هم من صنعوا المفارقات، وهم أول من زعم أن المصريين مثل الزنوج أو زنوج مباشرة حتى إن سلامة موسى نفسه قال، إن المصريين يشبهون الزنوج، وليس وحده من تبنى هذه الفكرة ومما يلفت الانتباه أن ثمة تشابهاً بين الضباط الإنجليز وأفكار نخبة المثقفين المصريين في ذلك الوقت.
عندما عرفتُ خبر ترجمة كتابي إلى اللغة العربية شعرت بالامتنان للمترجم الشاب محمد صلاح الذي قدم مجهوداً جيداً ظهر بوضوح في النسخة المعربة.
إنه حقاً أجمل وقت مررت به في حياتي، إنني أكتب منذ 10 سنوات وحيداً.. وعندما صدرت النسخة الإنجليزية من فرقة العمال المصرية عام 2021، لم يحظَ الكتاب بالاهتمام إلا بعض المقالات القليلة للتعليق على ما جاء فيه، لكن لم أُدعَ لمحاضرة تناقش الكتاب ولقاءات صحفية وتلفزيونية كالاهتمام الذي حظيت به من قبل المصريين.
لقد جئت لمصر بترحيب واستقبال كبيرين من أهلها، فعندما ناقشت الكتاب في ندوة ثقافية رأيت جمهوراً كبيراً مهتماً بالكتاب كان الأمر مفاجئاً بالنسبة لي أن أرى هذا الاهتمام والإعجاب الكبيرين أضافا لي شعوراً مضاعفاً بالسعادة، لكل هذا فإنني أتشوق لزيارة مصر مرة أخرى.
كتابي القادم يركز على تاريخ حركة الاغتيالات، وهي التي شملت اغتيالات أو محاولات اغتيال لكثير من الشخصيات المصرية المؤثرة في المشهد السياسي المصري خلال القرن الماضي، يبدأ كتابي بالحديث عن محاولة اغتيال سعد زغلول عام 1924، أعتبر أن شخصية هذا الزعيم السياسي العنصر الرئيس للحديث عن الاغتيالات بشكل عام، التي تمثل جزءاً مهماً من تاريخ مصر الحديث، الجزء الثاني من الكتاب يتحدث عن الحركة الراديكالية، وتتناول تأثير الانفتاح الثقافي على الشخصية المصرية، سوف أعتمد في شرح جوانب وتفاصيل هذه الحركة وتأثير الثقافة الغربية على المثقفين المصريين بالحديث عن منصور رفعت العضو البارز في الحزب الوطني القديم، والسبب هو اعتباره شخصية راديكالية، عاش بين أمريكا وأوروبا «فرنسا وألمانيا» وتأثر بثقافات هذه الشعوب.