في عام 2005 أعلنت «دار الشروق» عن صفقتها الكبرى، وهي حصولها على حقوق نشر أعمال نجيب محفوظ. انتظر الجميع بترقب للشكل الذي ستقدم به «الشروق» أعمال الكاتب الكبير. ثم كانت المفاجأة في الأغلفة التي أحاطت بنصوص محفوظ، فأغلفة حلمي التوني مختلفة تماماً عما اعتاده جمهور وقراء محفوظ في إصداره السابق بأغلفة جمال قطب.
غلاف من مجموعة نجيب محفوظ
كانت لوحات التوني تجريدية تماماً، رسمت بخطوط حرة، زهوراً وطيوراً وشخصيات وآلات موسيقية وأهرامات وخيولاً ونخيلاً وأسماكاً.
فهم حلمي التوني فلسفة نجيب محفوظ فرسم أغلفة مدهشة تعبر عما وراء السرد وما بعد القصة.
غلاف آخر من مجموعة نجيب محفوظ
كان ذلك دائماً أسلوب حلمي التوني في أغلفة الكتب التي رسمها. فقد قام التوني بإثراء المكتبة المصرية والعربية عبر رسم وتصميم ما يزيد على غلاف 4 آلاف كتاب لمختلف الأدباء المصريين والعرب، عبر أكبر دور النشر المصرية والعربية كداري «الهلال» و«الشروق» بمصر و«دار سعاد الصباح» بالكويت التي عمل أيضاً مستشاراً فنياً لها.
ولد حلمي عبدالحميد التوني في 30 أبريل 1934 بمحافظة بني سويف، حصل على البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحي عام 1958 ودرس فنون الزخرفة والديكور.
تولى التوني عديداً من المناصب، وأقام وشارك في عديد من المعارض المحلية كما شارك في عديد من المعارض الدولية في ألمانيا - البرتغال - اليابان - لبنان - العراق - سوريا.
عاش بالقاهرة وبيروت التي كانت زيارته الفنية الأخيرة لها لمدة 3 سنوات، يقتني متحف الفن المصري الحديث بالقاهرة عدداً من لوحاته القيمة.
أما أنا فقد تعرفت على أعمال التوني عندما كنت في الـ18 من عمري، وذلك عبر تصميمه الفريد لرواية «100 عام من العزلة» في طبعتها المنشورة بـ«دار سعاد الصباح».
كان الغلاف غريباً ومبهجاً، تتوسطه زهرة برية ضخمة ورجل نائم كما لو كان يحلم وامرأة حلت شعرها ووقفت في الركن تنتظر. أحببت الغلاف وأحببت البساطة الآسرة التي رسم بها. تلك البساطة التي «تبدو» في أعمال حلمي التوني وتخفي خلفها عالماً شديد الثراء اللوني والتكويني.
غلاف رواية «مائة عام من العزلة»
التيمات التي يستخدمها حلمي التوني في لوحاته كالسمكة والزهرة والهلال والهدهد والمرأة البضة ذات العينين الواسعتين والحصان والسيف وعروسة المولد لها رموزها الثابتة المعروفة ذات الدلالة الشعبية الواضحة إضافة لألوانه القوية الجريئة، مما يجعلهما يضفيان على لوحاته بعداً ملحمياً يغوص في الحكايات الشعبية المصرية التراثية كحكايات أبوزيد الهلالي والجازية والزناتي خليفة وحكايات عزيزة ويونس.
فالتشكيلات والتكوينات التي يصنعها بخصوصية فائقة من تلك الرموز تقترب بلوحاته من مصاف الأحلام والأساطير.
موتيفات حلمى التوني
في حلقته بالبرنامج الشهير «معكم منى الشاذلي» التي عرضت بتاريخ 9 نوفمبر 2022، أكد التوني أنه يرفع شعار البهجة في تفاصيل حياته كلها، حيث قال، «اللوحات تفيض بالحب عشان أنا رافع شعار البهجة طول الوقت والله العظيم... الناس محتاجة البهجة باستمرار، بطبيعتي أنا بصحى الصبح أغني وأرسم، الأغاني اللي بحطها ومعاها اللوحات دي بتجيلي الصبح، فبقول لازم أشارك مع الناس الفرحة واللطافة دي باللوحات».
ثم أضاف، «عملت معرض لوحات عن الأغاني.. كل أغنية عملت لها لوحة.. مبعملش لوحة مطابقة للنص، لكن بعمل لوحة في جو الأغنية... أنا بحب الغناء جداً، لذلك بقول دايما إن اللي مبيغنيش لازم نخاف منه شوية، زمان كان صوتي حلو.. دلوقت ودني بس اللي حلوة».
إحدى لوحات الأغاني
ورغم تخصيصه لمجموعة كاملة لعالم الأغاني، فإن شأنه شأن كل مصري أحب صوت أم كلثوم وسمع فيها صوت مصر. حتى إنه رسم لها خصيصاً مجموعة من ثلاث لوحات زيتية تؤرخ تقدمها العمري.
لوحة أم كلثوم
ما أحبه ويجذبني في أعمال حلمي التوني أن لها بصمتها البصرية المميزة، فلا أخطئ أبداً تعرف لوحاته بمجرد النظر، فأعماله شديدة المصرية بتركيباتها الغنية بصرياً بكل ما هو منتمٍ للتراث الشعبي المصري، فمصر عنده هي البهية، المرأة شديدة الحسية والجمال، وهي أيضاً الأم مصدر الحنان التي تقدم سمكها الذي يرمز للحب والخير لكل أولادها من المصريين، التي يرسمها في كل لوحاته كما قال عبر صفحته على «فيس بوك»، «تذكرت أمي التي ترملت وهي في الأربعين من عمرها فكرست حياتها لتربيتنا نحن أولادها الثلاثة، وهذا أمر معتاد يتكرر كثيراً ـ هذه هي أمي البيولوجية التي لم تخترني ولم أخترها، لكن أمي التي اخترتها واختارها كل أبنائها المصريين هي ’بهية’ التي نغني لها ’مصر يمه يا بهية’ التي أرسمها في كل لوحاتي والتي تقدم قلبها وكل حبها لأولادها المصريين».
فرادة حلمي التوني وتميز أسلوبه واختلاف العوالم التي تبحر ريشته عبرها عن غيره من الفنانين أهله للعمل بكثير من المناصب الإدارية، حيث عمل مشرفاً فنياً على المجلات بدار الهلال، ومخرجاً فنياً لعديد من دور النشر، وعمل كرسام ومصمم جرافيتي.
إضافة لعمله رئيس تحرير فني لمجلة «وجهات نظر»، وهي مجلة شهرية مصرية. كذلك أشرف على إخراج الأعداد الثلاثة الأولى لمجلة «شموع» 1986 وصمم عدداً من الملصقات الحائطية للمسرحيات والأفلام. كما ألف وصور عديداً من كتب وملصقات الأطفال التي نشرت بعدة لغات بواسطة المنظمات التابعة للأمم المتحدة.
كما صمم لمسرح العرائس شخصيات مسرحية (صحيح لما ينجح) التي ألفها صلاح جاهين.
أما المثير في عوالم حلمي التوني الفنية فهو اهتمامه برسومات الأطفال والتصميم والإخراج الفني لكتبهم، فضلاً عن الرسومات الخاصة التي أنجزها بوحي من عالم الطفولة.
فقد اهتم بنقل وتوصيل التراث المصري الأصيل للأطفال، فقام برسم وتصميم مجموعة كبيرة من قصص الأطفال إضافة لمجموعة كبيرة من كتب التلوين المرسومة خصيصاً لهم بالتعاون مع «دار الشروق». وعدة دور نشر مصرية وعربية أخرى.
هذا إضافة إلى قيامه بإنجاز مجموعة كبير من اللوحات التي تجسد عالم الطفولة، وعبر موتيفاته المعروفة حملت لوحاته قصص التراث الشعبي المصري
لهذا صرح في لقائه ببرنامج «معكم» لمنى الشاذلي بأن عالم الصغار هو الأقرب إلى قلبه. فقد حاول من خلال رسوماته تلك أن يجسد عالم الأطفال من خلال مجموعة من اللوحات وسماها «عالم الصغار»، حيث كان لتلك المجموعة من اللوحات فريد طابع خاص بها، التي حاول بها تجسيد عالم الأولاد والبنات الذين عبر عنهم بكلمة الصغار.
وتضمن المعرض الذي أقيم لمجموعة «عالم الصغار» 30 لوحة من اللوحات التي تم تنفيذها بخامة الزيت، في أول معرض فردي يخصصه لهذه الفئة العمرية، بالاعتماد على عدة طرق وأساليب فنية متعددة تجذب عين الطفل.
ورغم مصريته التي لا يُختلف عليها، والتي كرس حياته الفنية لتخليدها وتخليد تراثها وأسطورتها الشعبية، فإن القضية الفلسطينية أيضاً احتلت حيزاً من تفكيره وانسابت عبر لوحاته، إذ عبر عن فلسطين الوحيدة وشجر البرتقال الحزين والصبارات ومفاتيح الدور المهجورة في عدة لوحات رائعة.
كذلك رسم السيدة العذراء ووليدها أكثر من مرة، أما ما أدهشني حقاً فكان قيامه بمحاكاة لوحة بنات بحري الشهيرة لمحمود سعيد، التي قدم فيها بخطه المميز تحيته إعزازاً وتقديراً له بوصفه واحداً من أهم الفنانين التشكيليين المصريين، ورغم جدية أعماله فإنه صمم ورسم الكاريكاتير السياسي الذي يعبر عن فهمه للواقع المصري وطبيعة الصراعات السياسية فيه.
أقام حلمي التوني كثيراً من المعارض الفنية في مصر وكثيراً من دول العالم إلا أن أكثرهم تميزاً كان معرض «ليه يا بنفسج» الذي أقيم في قاعة بيكاسو بالزمالك في مارس 2018، ويعود سبب تميز هذا المعرض للون البنفسجي الذي سيطر على فضاء اللوحات كلها، الذي يعد اللون الأقل والأندر في استخدامه فنياً.
لوحة من معرض «ليه يا بنفسج»
أمس توفي حلمي التوني بعد حياة حافلة بالفن والجوائز والتكريمات إذ حصل على عدة جوائز عن لوحاته في صالون القاهرة، كما حصل على جائزة سوزان مبارك الأولى للتميز في الرسم لكتب الأطفال 3 مرات. إضافة لعدة جوائز دولية كجائزة الـ«يونيسيف» عن تصميم ملصق للعام الدولي للطفل عام 1979، وجائزة معرض بيروت الدولي للكتاب لمدة ثلاثة أعوام متتالية منذ عام 1977 حتى 1979، وجائزة معرض «بولونيا لكتاب الطفل» عام 2002، كما فاز بميدالية معرض «ليبرج الدولي لفن الكتاب» الذي يقام مرة كل ستة أعوام.