ربما لم يحظَ أحد في العالم العربي، بعد الزعيم المصري جمال عبد الناصر، بمثل ما حظي به السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، من احتفاء من قبل الجماهير العربية، فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود قاد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، النشاط المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي، ونجح خلالها في هزيمته مرتين، الأولى عندما أجبر الإسرائيلي على الانسحاب من بيروت جاراً أذيال الخيبة في مايو 2000، والثانية كانت عندما أجبر الإسرائيلي مرة أخرى في يوليو 2006 على الانسحاب من جنوب لبنان مخلفاً وراءه خردة ثقيلة من حطام الدبابات. إنه ذلك الطراز من الرجال الذين يظلون حتى حال رحيلهم رقماً صعباً يشغل الخصوم والأنصار على حد سواء.
يعد نصر الله الرجل الأقوى في لبنان، ويملك قرار الحرب والسلم به، وتنتشر قواته في سوريا، ويحظى بنفوذ عابر للحدود في العالم العربي وخارجه، ويتمتع بعلاقات وثيقة مع المقاومة الفلسطينية، وهو ألمع شخصية في المحور الإيراني بسبب شخصيته الكاريزمية وقوة نفوذ حزبه؛ لذلك خططت إسرائيل لاستهدافه منذ فترة طويلة.
ولِد نصر الله عام 1960 في حي الكرنتينا الشعبي بالضاحية الشرقية لبيروت، لأسرة شيعية بسيطة تنتمي لآل البيت، لذلك يُلقب بالسيد ويعتمر عمامة سوداء للدلالة على هذا الانتساب العائلي. عمل والده، عبد الكريم نصر الله، في تجارة الخضار والفاكهة مع إخوته، ثم استطاع افتتاح بقالة صغيرة في الحي نفسه، وساعد حسن والده في عمله هذا.
مع اشتعال الحرب الأهلية عام 1975، وعودة أسرته إلى قرية البازورية في الجنوب اللبناني، التحق حسن بالمدرسة الثانوية في صور، ثم انضم مع أخيه حسين إلى حركة أمل الشيعية التي أسسها الإمام موسى الصدر لاستعادة حقوق الطائفة الشيعية المهمشة في لبنان ودفعها للانخراط في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وعُيِّن في هذه السن الصغيرة مندوباً للحركة في القرية التي كانت معروفة بنشاط الحزب الشيوعي اللبناني فيها.
بعد عدة أشهر، وبدلاً من إكمال مسيرة دراسته النظامية، سافر حسن إلى العراق قبل إتمام سن السادسة عشرة ليدرس العلوم الدينية في مدينة النجف، عملاً بنصيحة محمد الغروي، وهو رجل دين من أتباع موسى الصدر، فذهب بتوصية منه إلى المرجع الشيعي محمد باقر الصدر، فأوكل به تلميذه اللبناني عباس موسوي، فتولى تعليمه ورعاية شئونه ونفقاته.
في عام 1978، أنهى نصر الله المرحلة الأولى من دراسته الحوزوية، لكن النظام العراقي بقيادة صدام حسين أخذ في ملاحقة رجال الحوزة ضمن حملته القمعية في ذلك العام، وكان نصر الله واحداً ممن جرت مداهمة مسكنه، لكنه لم يكن موجوداً، ففر إلى بلده. أما موسوي، فقد كان في لبنان حين اقتحم الأمن العراقي منزله في النجف، فلم يعد إليها وأنشأ مدرسة دينية في بعلبك انضم إليها نصر الله منذ البداية.
تزوج نصر الله عام 1978 من فتاة من ريف الجنوب، أنجبت له بعد ذلك أولاده الخمسة: هادي، وزينب، ومحمد مهدي، ومحمد جواد، ومحمد علي. ثم سرعان ما استعاد نشاطه في صفوف حركة أمل حتى تم تعيينه مندوباً سياسياً للحركة في البقاع عام 1982، بجانب عضويته في مكتبها السياسي المركزي.
مع الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وقع انشقاق في حركة أمل مع موافقة أمينها نبيه بري على المشاركة في لجنة الإنقاذ الوطني التي دعا الرئيس اللبناني المتحالف مع إسرائيل إلى تشكيلها لإدارة البلد برعاية الاحتلال الإسرائيلي. رأت العناصر المتدينة في حركة أمل أن تلك الخطوة تمثل خروجاً على مبادئ الحركة، مما دفعهم إلى تأسيس تنظيم خاص برعاية إيرانية.
انضم موسوي ونصر الله لهذا الكيان الجديد منذ تأسيسه، وفي فبراير عام 1985، أعلنت المجموعة عن نفسها تحت اسم حزب الله، وأطلقت رسالة مفتوحة إلى المستضعفين، أوضحت فيها أنها حركة مقاومة مسلحة ضد إسرائيل.
ترقى نصر الله حتى تم تعيينه نائباً لمسئول بيروت في الحزب، وهو لم يزل في الخامسة والعشرين، ثم أصبح المسئول الميداني لبيروت، ثم اختير لعضوية مجلس شورى الحزب في وقت لم يكن فيه منصب الأمين العام قد تم استحداثه بعد، وعُين مسئولاً تنفيذياً عاماً للحزب، وهو أول من تولى هذا الموقع عام 1987 ووظيفته تنفيذ قرارات مجلس الشورى.
كان نصر الله واحداً من قادة حزب الله البارزين عندما خاض الحزب حرب الأخوة ضد حركة أمل للسيطرة على معاقل الشيعة في الضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق الجنوب اللبناني، هذا في الوقت الذي تمسك فيه أخوه حسين بعضويته في حركة أمل.
في عام 1988، ذهب نصر الله للدراسة في حوزة قُم الدينية في إيران، وقيل حينها إن مغادرته لبنان جاءت على خلفية خلافات داخلية، لكنه عاد في العام التالي بعد أن تولى الشيخ نعيم قاسم منصب المسئول التنفيذي، بينما انتُخب صبحي الطفيلي عام 1989 كأول أمين عام لحزب الله. في عام 1991، جرى استبعاد الطفيلي وحل محله عباس موسوي الذي أصبح الأمين العام الثاني للحزب، وفي هذا الوقت عاد نصر الله ليتولى منصب المسئول التنفيذي لحزب الله بعد تعيين قاسم نائباً للأمين العام.
بعد اغتيال إسرائيل لعباس موسوي في 16 فبراير 1992، تم اختيار حسن نصر الله ليكون الأمين العام الثالث للحزب. تحت قيادة نصر الله، أخذ الحزب يتحول من حركة مقاومة مسلحة إلى تنظيم سياسي واجتماعي يهيمن على المجتمع الشيعي في لبنان ويسعى نحو حضور ساطع في الحياة الوطنية اللبنانية. وسرعان ما حظي نصر الله باحترام جماهيري مضاعف بعد استشهاد نجله هادي في مواجهة مع قوات الاحتلال عام 1997، وقد ظل جثمانه أسيراً للاحتلال الإسرائيلي على مدى عام كامل قبل استعادته ضمن صفقة تبادل.
في مايو 2000، أعلنت إسرائيل انسحابها غير المشروط من جنوب لبنان بعد سنوات من المواجهات الضارية مع حزب الله الذي تقدم وسيطر على المناطق المحررة. كما احتفظ الحزب بسلاحه وخاض مواجهات تالية مع إسرائيل لعدم انسحابها من مزارع شبعا التي أصر الحزب على لبنانيتها. استمر ذلك إلى أن اندلعت حرب يوليو 2006، حين اجتاحت إسرائيل لبنان رداً على أسر الحزب لجنديين من جيش الاحتلال.
رغم الدمار الهائل بسبب القصف الإسرائيلي، فإن الحرب شكَّلت انتصاراً سياسياً كبيراً لحزب الله على خلفية إخفاق الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه واضطراره إلى عقد صفقة تبادل مع الحزب، وارتفعت شعبية أمينه العام لأقصى درجة بين الجماهير العربية على خلفية خطاباته الحماسية واستهدافه للعمق الإسرائيلي وإجباره الاحتلال على الانسحاب.
تم الاتفاق على تشكيل منطقة عازلة على الحدود، لكن الحزب أعاد انتشاره هناك رغم وجود قوات دولية تابعة للأمم المتحدة.
تضخم نفوذ الحزب بعد حرب 2006، وفي السابع من مايو 2008 اجتاح بيروت بقواته في مواجهة مع خصومه اللبنانيين، ووقعت مواجهات راح ضحيتها العشرات من القتلى، وانتهت الأزمة بتوقيع اتفاق الدوحة الذي فرض قانوناً انتخابياً قريباً من رؤية حزب الله، وصار نصر الله الرجل الأقوى في لبنان، رغم عدم شغله لأي منصب رسمي.
في عام 2011، انتفض الشعب السوري ضد نظام الرئيس بشار الأسد الشمولي، فقررت إيران دعم نظامه في مواجهة المحتجين، وتم إرسال قوات إيرانية وتشكيل ميليشيات مسلحة لمحاربة المعارضة، وقرَّر المرشد الأعلى الإيراني إسناد الإشراف العام على هذه القوات إلى نصر الله، بحسب رواية الجنرال حسين همداني، قائد القوات الإيرانية في سوريا آنذاك، في مذكراته التي نشرت بعنوان رسائل الأسماك.
خاض الحزب معارك عنيفة ضد قوى الثورة السورية، وقع فيها الكثير من القتلى من الطرفين، ولم يعترف نصر الله بتدخله علناً إلا عام 2013 الذي قام فيه الحزب بهزيمة فصائل المعارضة السورية في القصير على الحدود بين لبنان وسوريا، وأكد نصر الله أنه لن يتخلى عن النظام السوري بحجة أن هذا النظام عضو مهم في محور المقاومة. سيطر الحزب على الطريق البري الذي يربط بين البلدين والمعابر الحدودية التي يتدفق منها الدعم الإيراني للحزب.
في عام 2019، عمت لبنان مظاهرات تتهم الطبقة السياسية بالفساد، وأعلن عدد من الشيعة تمردهم ضد نصر الله، ووجَّهوا له انتقادات حادة، ووُجهت اتهامات للحزب باستهداف المظاهرات، لكن حسن نصر الله تجاوز الأزمة دون أن تُمَس سيطرته على الدولة اللبنانية.
مع قيام حركة حماس بهجماتها ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، قرر حزب الله قصف المستوطنات الإسرائيلية الشمالية ضمن ما أطلق عليه جبهة إسناد المقاومة في قطاع غزة، وتعهد نصر الله في خطابه بأنه لن يسمح بهزيمة المقاومة، وحركة حماس على وجه الخصوص. ومنذ الثامن من أكتوبر انخرط الحزب في اشتباكات يومية عبر الحدود مع إسرائيل، لإشغال قواتها وتثبيتها على الجبهة الشمالية. تكبَّد الحزب خسائر أكبر ولكن الطرفين حافظا أغلب الوقت على ما عُرف بقواعد اشتباك، والتي خرقتها إسرائيل أكثر من مرة، إلى أن تفجر الوضع بشكل غير مسبوق في شهر سبتمبر الجاري.
نفذت إسرائيل عمليات نوعية ضد الحزب، واغتالت أهم قياداته، فيما بقي مكان نصر الله سرياً كما كان الحال طيلة السنوات الماضية، ورغم محاولات الاحتلال الحثيثة للكشف عن مخبئه، وسط تردد شائعات عن ذهابه إلى إيران، لكنه كان يخرج من مكان مجهول من حين لآخر بخطابات تُبث على الشاشات في الأماكن العامة وتنقلها القنوات الإخبارية بشكل مباشر.
على الرغم من الاختفاء الدائم لنصر الله فإنه أكَّد في تصريحات إعلامية سابقة أنه يخرج كثيراً للشارع ويشاهد الناس عن قرب لكن بشكل متخفٍّ؛ إذ يُعد مكانه من أخطر أسرار حزب الله ويحظى بحراسة مشددة، ويتعرض زواره لإجراءات أمنية صارمة نظراً لأهمية موقعه. لذلك، شكَّلَ إعلان إسرائيل عن استهدافه في مقر حزب الله في 27 سبتمبر 2024، خبراً مفزعاً، خاصة أنه أتى عقب سلسلة اختراقات عميقة استطاع جيش الاحتلال خلالها توجيه أقسى الضربات للحزب، حتى صار استهداف نصر الله هدفاً متوقعاً.
وعلى الرغم أن نصر الله نفسه، ذكر في خطاب ألقاه في 1 أغسطس 2024، أن الحزب يعين سريعاً خليفة كلما قُتل أحد قادته، فإن غيابه هو نفسه عن المشهد لن يكون سهلاً بأي حال من الأحوال؛ ليس فقط لأن إسرائيل استطاعت خلال الأسابيع والشهور الماضية اغتيال قادة عسكريين تابعين للحزب على أعلى مستوى، مثل فؤاد شكر وإبراهيم عقيل؛ ولكن لأن هوية حزب الله وتاريخه قد تشكَّلا على يد نصر الله.