فن

ثنائية «Smile»: كيف يصنع فرويد فخًا سينمائيًا؟

يحاول المقال مقاربة ثنائية «Smile» التي نجحت في مجاوزة مبدأ اللذة والألم الذي يضمن النجاح العابر لأفلام الرعب التجارية.

future ملصقي الجزء الأول والثاني لفيلم «Smile»

الوحش الكامن وراء اللذة والألم

«هناك رغبة مخيفة بداخلنا لتدمير ذواتنا، رغبة أكثر بدائية وغريزية من مبدأ اختبار اللذة وتجنب الألم الذي يحكم علاقتنا بالعالم».

— سيجموند فرويد

في أطروحته «ما وراء مبدأ اللذة» يصف فرويد نمطاً متكرراً وغرائبياً واجهه في مرضاه، وهو رغبة عقولهم الملحة في إعادة اختبار الصدمات التي تعرضوا لها، في القيام بزيارة جديدة لأكثر التجارب روعاً في الماضي، حتى لو قوضت تلك الزيارة مستقبل شفائهم!

يرى فرويد أن العقل البشري لو كان يحكمه مبدأ اللذة والألم فقط، لجعله ذلك حارساً محترفاً لحماية صاحبه من اختبار ألم ما مر به، لماذا يدفع العقل محارباً عائداً من الحرب الكبرى لاختبار لحظات الحرب في أحلامه مجدداً؟ لماذا يعمل العقل على تذكير امرأة في حداد بكل ما يتعلق بابنتها المتوفاة؟

قدَّم فرويد في أطروحته فناءً خلفياً للعقل، وحش يختبئ وراء مبدأ اللذة والألم البسيط، سماه «ثاناتوس»، وهو إله الموت في الميثولوجيا الإغريقية الذي يجر البشر إلى العالم السفلي لاختبار الجحيم.

ثاناتوس يمثل رغبتنا المظلمة في الموت، كحل ثوري للتخلص من كل صور الشعور، بتفكيك الذات نفسها التي تختبر العالم.

لا يفهم المريض في البداية أنه يمتلك وحشاً ميثولوجياً بداخله يحرص على إفنائه؛ لذلك يرى فرويد أن ثاناتوس يجعل المريض في البداية يصدِّر قلقه للخارج في صورة عدوان على الآخرين، ولكن يتعاظم العدوان بالتدريج حتى ينعكس على ذات صاحبه في النهاية، ويجعله في بعض الأحيان يقتل نفسه.

في عام 2019 أراد المخرج الشاب باركر فين صناعة فيلم رعب قصير، يدور جوهره حول اللحظات القصيرة التي يختبرها المرء بعد استيقاظه من كابوس مروع، الشعور بالهلع والاختناق المصاحب لسيناريو سادي أعده عقلك لتدمير ساعات الراحة والنوم. أراد باركر فين أن يحول مؤقتية تلك اللحظات التي سرعان ما تزول إلى شيء أكثر روعاً وديمومة، وهو ما قاده إلى تحويل فيلمه القصير إلى فيلم smile الطويل.

لم يتخيل باركر أن شركة بحجم باراماونت سوف تتحمس لفيلمه، وكانت توقعات الكثيرين داخل الشركة أنه فيلم معد لمنصة Paramount+، ولن يصل لقاعات العرض أبداً، ولكن وجد باركر فيلمه يستقبل ميزانية قدرها 17 مليون دولار، وبعد وصوله لقاعات العرض في العالم عام 2022 حقق أرباحاً قدرها 200 مليون دولار، أي 11 ضعف ميزانيته.

بعد عامين من نجاح smile يحقق الجزء الثاني متتالية الأرباح نفسها، ليقدم صاحبه باعتباره صانعاً محتملاً لـ franchise أو سلسلة سينمائية جديدة يمكن أن تحيا لعقود بعشرات الأجزاء. وتحتل مكانتها في سينما الرعب.

يحاول المقال مقاربة ثنائية smile، التي نجحت في مجاوزة مبدأ اللذة والألم الذي يضمن النجاح العابر لأفلام الرعب التجارية، عبر اختبار لذة الإطلال على تجربة مؤلمة دون التورط فيها، والشعور بالتطهر الكامل؛ لأننا نراقب الرعب من مرفأ آمن، يموضع smile نفسه ببراعة في الفناء الخلفي للمبدأ الذي رآه فرويد حاكماً للحياة، ورآه السينمائيون حاكماً لجونرة الرعب؛ لأن smile ببساطة يستدعي ثاناتوس بداخلنا للحضور لإفساد تجربة المشاهدة وتوريطنا بالكامل فيما هو أبعد من اختبار آمن للروع.

أن يصير ثاناتوس الفرويدي وحشاً سينمائياً

«لم أحتل عقلك لقوتي، كان عقلك داعياً ومرحباً، لا يمكن للمرء الهروب من عقله».

— smile

يدور smile حول الطبيبة النفسية روز كوتر التي تستقبل مريضة ذهان تخبرها عن كيان مخيف لا يمتلك تجسداً بعينه، لكنها تشعر به يلاحقها، ويطبع حضوره على مَن حولها في صورة ابتسامة مخيفة تظهر على شفاههم، ليخبرها أنه يراقبها عبر تقمص وجوه كل أحبائها، أملاً في أن يدفعها في النهاية لقتل نفسها.

تحاول روز بالتدريج تعريف مريضتها بطبيعة الذهان وألاعيب العقل التي تدفعنا لتصديق هلاوسنا، لكن تفاجئها المريضة بتحطيم مزهرية ونحر عنقها ببطء بإحدى الشظايا. لا يثير هلع روز أن الذهان استحوذ على مريضتها حد إقناعها بقتل نفسها، ما يثير الهلع أن مريضتها لم تظهر إحساساً بالألم وهي تنزف حتى الموت، إنما ابتسامة تلذذ شيطانية.

مشهد من فيلم Smile

فيما بعد تختبر روز بالتدريج كل الضلالات التي أخبرتها بها مريضتها، وتتمظهر الابتسامة الشيطانية على وجوه البشر حولها، يدفعها حضور غير مرئي ببطء للجنون، وتتذكر وجه مريضتها لتدرك النهاية التي ستصل لها، وهي الموت بشفاه مبتسمة.

لا يحمل smile في بدايته عناصر تفرد واعدة، حيث يموضع نفسه ببساطة في جونرة التقمص الشيطاني وأفلامها الشهيرة مثل The Exorcist-1973، بدلاً من المنازل المسكونة بكيانات خوارقية، يسكن الخوارقي أجسادنا ويسلبنا إرادتنا.

تلعب تلك الجونرة على مخاوفنا من فقدان حس التحكم في ذواتنا، الضحية هنا لا تختلف عن متلقي فيلم الرعب، فهي تتابع وحشاً يستحوذ على ذاتها بالتدريج، وهي لا تملك سوى مشاهدته دون أي سلطة لإيقافه، حتى يدفعها في النهاية لإيذاء نفسها والآخرين.

تصنع تلك الجونرة وحوشها، ثم تصنع قوانين للعبة تختلف من فيلم لآخر، لكن لا بد من وجود قوانين تعد باحتمالية طرد الوحش واستعادة التحكم، حتى لو تراوحت بين طقوس طرد الأرواح أو تتبع تاريخ الوحش ومنبع ظهوره في مهمة نبش تاريخية تنتهي دوماً لمقبرة قديمة أو منزل مهجور بدأت منه اللعنة. وهنا يقدم smile عناصر تفرده، حيث يقدم لعبة تقمص شيطاني بقوانين أكثر تعقيداً مما تقدمه الجونرة، قوانين فرويدية أكثر بساطة في ظاهرها، وأكثر روعاً في جوهرها.

في smile يتغذى الكائن الشيطاني على الخوف والتروما في نفس صاحبه، والتي تتعاظم عندما تفقد الضحية شعورها بالتحكم في ذاتها، وكذلك التحكم في عالمها، عندما تطبع الهلاوس حضورها على الواقع وتختفي ببطء الحدود بين ما هو خيالي وما هو حقيقي، والذي يعبر عنه باركر بثيمة بصرية مكررة، وهي قلب الكادر رأساً على عقب، ليخبرنا أننا لا نرى العالم الحقيقي، إنما العالم بعيون ضحية مشوشة الإدراك.

مشهدان من فيلم Smile

عندما يفرغ الكائن من التغذي على مخاوف ضحيته يدفعها لقتل نفسها أمام شاهد، لتصير التروما الناشئة عن شهود مأساة جسراً يعبر منه إلى الضحية الجديدة، لذلك انتقل الكائن بسهولة من المريضة إلى الطبيبة روز.

يحرص باركر فين على سلب كيانه الشيطاني أي هوية تاريخية، تجعله شيطاناً قوطياً أو إنجيلياً، لا تستطيع الطبيبة روز تتبع الضحية الأولى له، فهو قادم من سلسال صدمات نفسية انتقلت من شخص انتحر أمام شاهد ثم آخر ثم آخر. لا يهدف الكيان لاحتلال منزل بعينه وطرد أصحابه، أو منح ولائه للشيطان، إنما فقط نبش الصدمات الكامنة في دواخل ضحاياه وإعادتها إلى السطح ليتغذى عليها.

يبدو الكيان في smile تجسداً سينمائياً لفكرة ثاناتوس الفرويدية، فهو كيان يكاد يكون غير موجود إلا في شهادات ضحاياه، لا نرى حضوره المادي إنما أثره في أفعال وهلاوس الملعونين به.

لا يملأ الكيان ضحاياه بشروره إنما ينقب عن الخفي بدواخلهم لاستعادته، وعندما يظهر المكبوت، لا تمتلك الضحايا قدرة على هضمه أو التحكم فيه، إنما يقومون بعدوانية بإيذاء الآخرين، ثم يقومون في النهاية بقتل أنفسهم.

مشهد آخر من فيلم Smile

ما يثير الرعب في كيان smile أنه يبدو تمظهراً خارجياً لعملية داخلية لا تحتاج في كثير من الأحيان إلى دافع خارجي أو لعنة شيطانية لتبدأ، فالمكبوت بداخلنا قد يظهر في كوابيسنا أو في استثارة تردنا إلى ماضينا الذي جاهدنا للهروب منه، عندما تطفو التروما على السطح تدفعنا إلى العدوان على الآخرين وإسقاطها عليهم لنتحرر منها كأنها لعنة، وعندما نعجز عن ذلك، قد تلجأ الذات في النهاية لتفكيك حضورها بالموت، أملاً في إنهاء الألم.

يبدو smile تحذيراً مخيفاً من غريزة ثاناتوس الفرويدية، التي تخبرنا عن وحش كامن بداخلنا، ينتظر الخروج في أحلامنا وتذكارات الحاضر التي تخبرنا عن الماضي المدفون، وحش لا يمتلك سوى أجندة واحدة وهي دفع المكبوت للسطح حتى لو دمر ذواتنا كقربان لهذا الطفو.

ينتقل باركر فين بذكاء بمفهوم فيلمه برمته من جونرة الاستحواذ الشيطاني إلى جونرة الرعب السيكولوجي التي تخبرنا دوماً أن الوحوش بداخلنا أكثر روعاً من كل الوحوش التي تفرزها مخيلتنا، وهذا يجعل مخاطر الفيلم تجاوز الشاشة لنفوس المتلقين، في الجونرات الأخرى يمكننا تجنب المنازل المهجورة وألواح الويجا والأزقة المظلمة العامرة بمصاصي الدماء، لكن في الرعب السيكولوجي لا فكاك لنا من أنفسنا، وهو ما يجعلنا ضحايا محتملين لكل الشرور التي نراها، لا نحتاج سوى امتلاك سيكولوجية مثل الضحايا، بوعيها الحاضر ولا وعيها الكامن.

تعتمد أفلام الرعب كثيراً على وجه الوحش الذي يطاردنا، والذي يتراوح بين وجه قبيح محترق مثل وجه فريدي كروجر في A Nightmare on Elm Street الذي يتوعدنا بالقتل والتشويه، أو الوجه المحايد ببرود بلا قسمات وملامح في سلسلة halloween، والذي يتوعدنا بقاتل لا يملك ملامح بشرية يمكنه عبرها التعاطف أو حتى الوعيد.

لماذا اختار باركر فين أن يكون توقيع الرعب في فيلمه، تعبيراً أكثر بساطة وأقل خصوصية، تعبيراً نمتلكه جميعاً وهو الابتسامة؟!

رعب تحمل توقيعه ابتسامة

«أنا أبتسم لأن الابتسامة تربك الآخرين، الابتسامة أسهل دوماً من شرح ما يقتلك من الداخل».

— joker

تمثل الابتسامة، تعبيراً كونياً مطمئناً، استجابة ترحب بالغرباء وتزيل الخوف، وتصلح لافتة خارجية وسفيراً مثالياً لوجدان حاملها.

خلال جلساتهم العلاجية، نصح فرويد مرضاه أن يولوه ظهرهم ويناموا على أريكة مريحة، لكيلا يخجلوا من زوال ابتسامتهم وظهور دموعهم التي تنهمر دوماً مع اعترافاتهم. أيقن فرويد أن العصر الفيكتوري الذي ينتمي له يجبر كل أصحابه على الابتسامة المهذبة التي تخفي الألم. وهو نقيض عملية التحليل النفسي التي تستهدف فحص الكامن خلف الابتسامة.

يحمل smile نقداً حاداً لنزعة فيكتورية جديدة في زمننا المعاصر، تستهدف من أصحابها أن يحافظوا على ابتسامتهم طوال الوقت، بإيجابية سامة لا تتفحص الكامن في نفس صاحبها، إنما تعبِّد له دوماً طريقاً للفرار من أشباحه الداخلية بتكلف السعادة.

في smile الجزء الأول، يجعل باركر فين البطلة طبيبة نفسية، وهي مهنة مصممة بالأساس للبحث عن الخفي وراء الابتسامة الكاذبة، لكن الطبيبة روز تحمل تروما قديمة، وهي مصرع أمها المريضة العقلية أمامها في طفولتها، لا تحمل روز ثقل الصدمة وحسب، إنما شعوراً قاتلاً بالذنب لأن أمها طلبت منها استدعاء النجدة، لكن الطفلة التي كانت عليها تجمدت عن الفعل وقتها حتى لفظت أمها أنفاسها الأخيرة.

قررت روز تسخير حياتها لدراسة الطب النفسي وعلاج المرضى العقليين، يبدو القرار تدويراً صحياً لصدمتها، لكنه في جوهره رهن قسري لحياتها كاملة لصالح آخرين يشبهون أمها لأنها لم تغفر لنفسها أبداً خطيئتها القديمة.

مشهد آخر من نفس الفيلم

لم تتفحص روز أبداً صدمة طفولتها، ولم تحرر الطفلة العاجزة بداخلها من ذنبها القديم، لذلك تظهر روز من البداية بابتسامة مطمئنة لمرضاها وحبيبها ومديرها، وبدفاع أخلاقي مستميت عن المرضى العقليين، لكننا ندرك أنها ابتسامة كاذبة لشخص يحاول في خيانة شعرية لنفسه ومهنية لوظيفته إنقاذ الآخرين كبديل عن إنقاذ ذاته.

تمثل سيكولوجية روز صيداً ثميناً لكيان شيطاني يتغذى على المقموع في نفوس ضحاياه، كل صدمة لم يُعَدْ تدويرها وكل مقموع تخفيه الابتسامة الكاذبة تجعل صاحبها مرشحاً بقوة لأن يكون ضحية الكيان.

لا تبدو الابتسامة التي يضعها الوحش على وجوه ضحاياه قبل أن يقتلوا أنفسهم عقاباً سادياً، إنما إشارة ذكية للطريقة التي قررت بها تلك الضحايا أن تحيا طوال حياتها، وهو إخفاء المقموع بداخلها طوال الوقت خلف ابتسامة، هذا المقموع هو ما جذب الوحش إليهم ليتغذى عليهم، وما توقيعه إلا سخرية قدرية من الطريقة التي عاش بها الضحايا لتكون هي نفسها الطريقة التي يموتون بها، ابتسامة كاذبة يصر بها صاحبها أنه بخير حتى وهو ينحر عنقه أو يحطم وجهه بمطرقة.

تحضر ثيمة الابتسامة الإجبارية في العديد من وحوش الرعب، أبرزهم المهرجون الذين يثيرون القشعريرة بنفوس الكثيرين لأن وجوههم تحمل تعبيراً واحداً هو الابتسامة، لا نخاف المهرجين لخطورتهم، بل لأن وجوههم تخفي بقصدية ما يشعرون به خلف ابتسامة دائمة، مثلما يبدو الجوكر في الكوميكس العدو الأكثر إرعاباً للنظام؛ لأن ابتسامته قسرية لا يملك أن يزيلها ويعترف بألمه أو يظهر بعضاً من إنسانيته حتى لو حاول.

يعيد باركر فين بذكاء تدوير ما تقدمه جونرات الرعب المختلفة لما يخدم قصته، لا نحتاج لمهرج مثل فيلم it، ولا جوكر مخيف، يكفي أن يبتسم الضحايا رغماً عنهم، ليصير المشهد أكثر إرعاباً من ظهور وحش مخيف لقتلهم.

كيف تصنع من المقموع مشهدية جماعية؟

«تذكروا أن النجاح والنجومية لا تصلح الشخص المحطم الذي أنتم عليه، وحتى أنا لست قادرة على فعل ذلك لكم».

— smile2

عندما عرضت باراماونت على باركر فين جزءاً جديداً من smile، أدرك بتعبيره أنه يتجه بإرادته للفخ المثالي لكل أفلام الرعب، وهو عجزها الدائم عن تقديم جديد، إنما تنويعات لا نهائية عن الحبكة الأولى.

تحمل سلاسل شهيرة مثل saw وscream وhalloween المشكلة نفسها وهي أن الفيلم الأول كافياً لخلق أسطورته، والأفلام التالية ليست سوى استعادة بصرية بوجوه جديدة لمفهوم لم يتطور خطوة للأمام. لا تعدو تلك الأفلام في وجه منها أن تكون مطاردة بوليسية طويلة وممتدة، لكنها مقسمة فقط على أفلام منفصلة.

يتحرر smile بذكاء من هذا الفخ عندما يموضع مرساته وثقله كاملاً على مفاهيم فرويدية تختلف في تجلياتها من شخص لآخر، جوهر smile هو فكرة عودة المقموع في الذات رغماً عن إرادة صاحبه، لذلك يضطر البطل في النهاية كي يقوم بصرف ثاناتوس أو smiler أو الوحش المسئول عن وضعه أمام مرآة ذاته المقموعة، أن يواجه مخاوفه. وهو ما حاولت الطبيبة روز فعله في الجزء الأول، بالعودة إلى منزل طفولتها القديم ومواجهة ذكرى أمها.

يلعب smile على جوهر نفسي خالد باختلاف الجونرات والأنواع السينمائية، كل حبكة سينمائية لا بد أن تبدأ ببطل ذي بعد واحد، تضعه الحبكة في اختبارات قاسية حتى تستنطق أبعاداً جديدة بداخله، لتنتهي رحلة البطل بثراء أكبر مما بدأت به.

لذلك يضع باركر فين رهاناته كاملة في الجزء الأول والثاني لا على حبكة الرعب وأجوائه إنما على شخصيات أبطاله والعقدة المتفردة التي تحملها، بدلاً من التعويل على تطوير شخصية الوحش smiler أو إبراز لمحة من تاريخه القديم، وهي عناصر تكاد تكون ثانوية في الفيلمين نسبة للسردية الرئيسية، وهي المقموع في البطل الذي عليه مواجهته لكي ينجو من الوحش.

لذلك في smile2، يستغل باركر فين البناء الدرامي الذي صنعه، للانتقال من التروما الفردية واللغز الذي يحمله كل إنسان إلى التروما الجمعية، وهو المقموع على مستوى المجتمع. يبلور باركر فين أكثر نقده للثقافة الجمعية التي تفرض على الأفراد الإيجابية السامة والابتسام بالإكراه، مستهدفاً سفراء تلك الثقافة الأكثر بروزاً، وهم نجوم الفن.

تنتقل اللعنة في smile2 إلى المطربة الشابة وأيقونة الشهرة سكاي رايلي التي تعود إلى الأضواء من جديد بابتسامة واسعة في برنامج شهير، معتذرة لجمهورها عن تاريخ إدمانها والحادثة التي كادت تودي بحياتها وقتلت حبيبها بول هادسون.

تمثل سكاي صيداً ثميناً للكيان smiler لأن ابتسامتها تخفي الكثير، لا تكاد سكاي تظهر طوال الثلث الأول من الفيلم بدون حضور أمها ومديري أعمالها، ورغم زحام الكادر تبدو سكاي وحيدة ومحاصرة.

لا تقمع سكاي صدمة قديمة بداخلها أو خطيئة فردية قامت بها في الماضي، إنما يتواطأ المجتمع الذي يقدسها، والمعجبون الذين يتطلعون لها، وأمها ومديرو أعمالها الذين يرونها مادة مدرة للربح على قمع كينونتها في كليتها لصالح صورتها الخارجية التي لا بد أن تظهر متألقة ومبتسمة على الدوام.

مشهد من فيلم Smile 2

تمثل سكاي أيقونة للثقافة التي يهاجمها فيلم smile، والتي تدفع مجتمعاً كاملاً للهروب من مواجهة شياطينه نحو مطاولة ومحاكاة نموذج كاذب في مثاليته، وهو المشاهير ونجوم الأضواء.

بينما يظهر الجنون ببطء وبالتدريج على كل ضحايا smiler، تجعل نجومية سكاي كل شيء مضاعفاً في ظهوره وخفائه، تنجح المستحضرات التجميلية في إخفاء أرق سكاي والسواد أسفل عينيها، ندبات فروة رأسها الملتهبة من اضطراب trichotillomania أو نتف الشعر بشكل قهري. باعتباره ميكانيزم تقاوم به سكاي قلقها بالعدوان على الذات بدلاً من توجيه عدوانها للخارج، وهو ما لا تحتمله صورتها الدعائية.

بينما تنجح أدواتها الدعائية في إخفاء هشاشتها النفسية، تقوم ألاعيب الوحش smiler بتحويل انهيار سكاي التدريجي إلى فضائح إعلامية مدوية ومتتالية، تظهر ذروتها عندما تقوم سكاي بتقديم حفل خيري، ويتعطل المونيتور الذي يستعرض النص المكتوب أمامها، في إشارة للحظة صدق نادرة تقف فيها سكاي أمام الكاميرا بدون إعداد مسبق.

تهاجم سكاي بعدوانية معجبيها والمجتمع برمته، عندما تخبرهم أنهم يضعون آمالهم كافة على شخص مكسور بالأساس، مصمم بعناية ليبدو كاملاً، ولتختفي في انعكاس صورته المتألقة كسورهم الذاتية.

مشهد آخر من فيلم smile 2

تحاول سكاي مثل كل ضحايا smiler إيجاد حيلة للفكاك من اللعنة، لكن كل محاولاتها الفردية تثقلها هالة نجوميتها الجمعية، فهي تحمل ثقل توقعات المجتمع برمته فوق عاتقها، لا خلاصها الفردي وحسب. في أحد المشاهد يتكالب المعجبون لالتقاط صورة مع سكاي، ولا يكاد يميز المشاهد بين ابتسامتهم الكاذبة والإكراهية والابتسامة التي يضعها الوحش على وجوه الضحايا، في إشارة مكررة وذكية أن الفخ السينمائي برمته هو تمظهر خارجي لما نقوم به بأنفسنا عبر قمع دواخلنا بأيدينا أو بالاستعانة بنماذج ثقافية طاردة للهشاشة ومعززة للترفيه القسري.

مشهد من نفس الفيلم Smile 2

تدرك سكاي أن نهايتها هي الانتحار وتمرير لعنتها إلى ضحية جديدة، يستغل باركر قاعدته في تحويل نهاية سكاي إلى مشهدية spectacle، لا تفني الضحية ذاتها في سبيل فنها مثل بجعة أرنوفسكي، إنما تفرغ أحشاءها بشكل حرفي لتنتقل اللعنة إلى ملايين من مشاهديها في الحفل وعلى الهواتف.

في لحظة بعينها ينظر المشاهدون إلى سكاي على المسرح بخوف وروع، وتلتقي عيونهم في لحظة تحطيم حاجز الإيهام، بعيوننا نحن الجالسين على مقاعد السينما، لتصير الورطة جماعية، لتتشرب عيوننا لعنة smiler، وندرك أننا لم نصَبْ باللعنة في تلك اللحظة تحديداً إنما صنعناها بجهد فردي في إخفاء المقموع بداخلنا، وجهد جمعي في تحويل فعل الإخفاء إلى ثقافة جمعية تحتفي بابتسامة إجبارية ترعاها نماذج ترفيه تخلو في كمالها الكاذب من الهشاشة.

الرعب يسكن المألوف لا الخارق

«الغرائبي والمخيف هو شيء كان لا بد أن يظل مقموعاً بداخلنا، لكنه يطفو على السطح، والأكثر رعباً أنه يظهر بظله المخيف في أكثر الأشياء مألوفية لنا».

— سيجموند فرويد

لا ينجح الرعب في السينما إلا بقدر ما يضع مرساته على مفاهيم تتجاوز وحوشه، وشعور الخوف البسيط الذي يسهل استثارته من أبسط الأشياء حتى لو كانت حركة مازحة لشخص يفزعنا عندما يضع يده بلا إنذار على أكتافنا.

وضع باركر مرساة حبكته بعناية على مفاهيم فرويدية، خالدة في قلقها بقدر تذبذب دقتها العلمية، لا نحتاج لدراسة علمية تؤكد لنا خلو ذواتنا من ثاناتوس داخلي يعمل على تفكيك ذواتنا بغمرها فيما تخاف، وما دفنته سابقاً، كلنا نوقن بحضور الصوت الداخلي الذي يخبرنا دوماً بما نرتعد لسماعه.

لا يعيب smile2 إلا مبالغة صاحبه في منح الوحش smiler تمظهراً جسدياً مرعباً، ومشهدية بصرية مروعة، وهو ما يسلب الوحش الأدوات التي رسخ بها سلطته بالأساس، وهو كونه فكرة فرويدية أكثر منه وحشاً مادياً ينتمي للرعب المع.

لم يثق باركر فين في اعتماده على الأذى الذي يلحقه الضحايا بأنفسهم ليكون كافياً، إنما صنع وحشاً ملحمياً من الدماء والأحشاء لم يخلق روعاً بقدر ما خلق حدوداً لما كان يمكن لمخيلة كل متلقٍّ أن تفرزه عن ثاناتوس الكامن بداخله.

يقول فرويد في أطروحته الشهيرة uncanny أن الذي يرجف أوصالنا ليس الوحوش المخيفة التي لا تنتمي لعالمنا، إنما الرعب الذي يختبئ فيما هو مألوف ويجعله بحضوره أقل مألوفية، مثل الابتسامة التي نتقمصها طوال الوقت لكن في لحظة بعينها تكون إيذاناً بانتصار وحش مرعب سيدفعنا أمام الجميع لقتل أنفسنا. وهو ما كان يجب أن يراهن عليه فين أكثر من استدعاء رعب تقليدي في صورة وحش دموي.

ولكنها ربما تكون محاولة من فين نفسه لوضع حدود للفكرة قبل أن تبتلعه، لإخراج المقموع بداخله في أكثر صوره نزقاً ومادية، قبل أن يكون فريسة مثالية لوحش صنعه يقتات على ما نخاف من استحضاره للنور، وهو تطهير يفسد اللعبة السينمائية، لكنه يجعل فرويد سعيداً. وقد يكتب لخالق الوحش نجاة مما صنعه.

# سينما # أفلام أجنبية # السينما العالمية

فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب
الهوى سلطان: أن يصنع الزمن مأزقاً رومانسياً

فن