مجتمع

تكاليف باهظة: هل يتحمل اقتصاد إيران الحرب مع إسرائيل؟

في ظل مخاوف من اندلاع حرب إقليمية واسعة، ما مدى إمكانية تحمل اقتصاد إيران لذلك، واحتمالات صموده أمام تبعات حرب مباشرة وربما طويلة الأمد مع تل أبيب؟

future على اليمين: المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية، علي خامنئي. على اليسار في الخلف: رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو

عادة ما ينجم عن النزاعات الدولية تكاليف اقتصادية عالية وانعكاسات سلبية على اقتصاد الدولة؛ إذ يقتضي «اقتصاد الحرب» تنظيم القدرة الإنتاجية والتوزيعية للدولة خلال فترة الصراع، وجعلها في خدمة المجهود الدفاعي والحربي، وزيادة الإنفاق العسكري ولو على حساب تحقيق انخفاض في التنمية والإنتاج المحليينِ.

ومع زيادة معدلات الإنفاق العسكري الذي غالباً ما يتم تمويله من خلال فرض ضرائب جديدة، أو رفع معدلات الضرائب الحالية أو الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية أو المحلية أو التمويل بالعجز؛ تزداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوءاً، ويتضاعف التأثير، وبخاصة إذا كانت الدولة التي تخوض غمار الحرب صاحبة اقتصاد منهك ويعتريه الخلل أو تعاني معدلات اقتصادية سالبة.

من هذا المنطلق أثار الهجوم الإيراني الصاروخي الأخير على إسرائيل في مطلع أكتوبر الجاري العديد من المخاوف من اندلاع حرب إقليمية واسعة، مما دفع البعض إلى التساؤل حول مدى إمكانية تحمل الاقتصاد الإيراني لمثل تلك الحرب، واحتمالات صموده أمام تبعات دخول طهران حرباً مباشرة، وربما تكون طويلة الأمد، مع تل أبيب.

تبعات دخول الحرب

مع دخول طهران حرباً مباشرة أو صراعاً طويل الأمد ضد إسرائيل أو غيرها، يصبح منطقياً أن تزيد طهران من إنفاقها العسكري، وأن تُسخِّر موارد مجتمعها لخدمة الحرب. ولما كانت هذه النفقات العسكرية المتزايدة ستُموّل مباشرة من الناتج المحلي الإيراني وستؤدي إلى استنزاف موارد المجتمع وحرمان القطاعات والأنشطة المدنية منها، وربما إحداث عجز في الموازنة العامة التي تعاني بالفعل عجزاً مسبقاً؛ كان بديهياً أن افتراض أن يتسبب خوض إيران حرباً مباشرة مع إسرائيل في انعكاسات سلبية وكارثية على الاقتصاد الإيراني.

المفارقة هنا تكمن في أن الإنفاق العسكري الإيراني شهد تراجعاً حتى قبل أن تدخل طهران كطرف مباشر في المواجهة مع تل أبيب، وذلك على خلفية أزمة انخفاض قيمة العملة المحلية الإيرانية تأثراً بالتوترات في المنطقة.

ففي موازنة 2023، بلغ مستوى الإنفاق العسكري نحو 420.7 ألف مليار تومان من إجمالي الموازنة الذي بلغ 1990 مليار تومان، وذلك بعد أن كان مستوى الإنفاق العسكري في موازنة عام 2022، نحو 281 ألف مليار تومان فقط، من إجمالي 1372 ألف مليار تومان.

وعلى رغم أن هذه الأرقام تشير إلى ارتفاع مستوى الإنفاق العسكري الإيراني بنسبة 44%، فإنه عند مقارنة الرقمين، بتحويلهما إلى الدولار الأمريكي، وفق سعر السوق عند توقيت إقرار موازنة، نجد أن مستوى الإنفاق العسكري لم يرتفع، وإنما انخفض من 10.9 مليار دولار عام 2022، إلى 9.23 مليار دولار عام 2023، وذلك بسبب انخفاض قيمة العملة الإيرانية.

يعزز هذا الأمر من احتمالية عدم تحمل اقتصاد طهران خوض حرب مباشرة ضد إسرائيل، التي تتلقى دعماً غير محدود من الولايات المتحدة والدول الغربية، في مقابل الدعم المحدود الذي تتلقاه طهران من بكين المنشغلة بحربها الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وموسكو المنكفئة على حربها في أوكرانيا.

اقتصاد مأزوم ومحاصر

يُعاني الاقتصاد الإيراني ضغوطات متعددة، بدءاً من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها الولايات المتحدة والدول الغربية، ووصولاً إلى الاختلالات والأزمات الهيكلية والمالية الداخلية، التي يمكن استعراضها في النقاط التالية:

  1. اقتصاد سريع التأثر:

يعد قطاع الخدمات أكبر القطاعات إسهاماً في الناتج المحلي الإجمالي لطهران؛ إذ يسهم بنحو 51% من إجمالي الناتج المحلي البالغ قيمته 401.5 مليار دولار في 2023، يليه إنتاج النفط الذي يُسهم بنحو 23% من الناتج المحلي الإجمالي؛ حيث تحتل إيران المرتبة الثانية عالمياً في احتياطيات الغاز الطبيعي والمرتبة الرابعة في احتياطيات النفط الخام، ويأتي قطاع الصناعة والتعدين في المركز الثالث بنسبة 13%، ثم الزراعة بنسبة 10%، مما يجعل الاقتصاد الإيراني اقتصاداً خدمياً نفطياً بالدرجة الأولى.

وعلى رغم تنوع قاعدة الاقتصاد الإيراني نسبياً، فإن النشاط الاقتصادي والإيرادات الحكومية يعتمدان بشكل أساسي على عائدات النفط، مما يجعلهما يتسمان بالتقلب الشديد حيال تعرض صناعة النفط لأي صدمات، كذلك فإن ارتباط قطاع الخدمات بطبيعة الوضع السياسي والأمني، يجعل اقتصاد طهران عرضة لأي تقلبات أو أزمات، مما يُضعِف من قوته وصموده حال دخول أي حرب أو مواجهة عسكرية مباشرة.

  1. نظام مصرفي معزول:

على رغم نجاح طهران في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية في قطاع النفط، فإنها لم تستطع الفكاك منها بالمجال المصرفي والتعاملات المالية؛ حيث أقدمت جمعية «سويفت» في عام 2019 بضغط أمريكي، على منع جميع المصارف الإيرانية تقريباً من استخدام نظام المراسلة الخاص بها، الذي يربط 11 ألف بنك ومؤسسة في أكثر من 200 دولة، ويسمح بانتقال سلس وسريع للمال عبر الحدود، مما تسبب في شلّ حركة التعاملات المالية الخارجية لطهران، ومن ثَمَّ إضعاف الاقتصاد الإيراني.

  1. معدلات تضخم وفقر مرتفعة:

لا يزال التضخم المستمر والمرتفع يُشكِّل مصدر إزعاج رئيسياً للاقتصاد الإيراني، فبحسب بيانات البنك الدولي بلغ التضخم في إيران في 2023 نحو 44.6%، مما أدى إلى انخفاض كبير في القوة الشرائية للأسر الإيرانية نتيجة لارتفاع أسعار الغذاء والإسكان والرعاية الصحية والنقل مع بقاء الأجور منخفضة، وكنتيجة طبيعية لذلك ارتفع عدد الإيرانيين الذي يعيشون تحت خط الفقر، ليصل إلى نحو 28 مليون شخص، أي نحو ثلث الشعب الإيراني البالغ تعداد سكانه 89 مليون نسمة في 2023.

  1. استثمار أجنبي متواضع:

يفتقر الاقتصاد الإيراني في ظل استمرار العقوبات الأمريكية والغربية للقدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فبحسب تقرير الاستثمار العالمي الصادر عن «الأونكتاد» لعام 2024، بلغ صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى إيران، نحو 1.4 مليار دولار فقط في 2023، مقارنة بـ1.5 مليار دولار في 2022 وهو ما دفع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في أول حوار تلفزيوني له بعد توليه منصب الرئيس، إلى التأكيد على حاجة الاقتصاد الإيراني إلى جذب 100 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية.

  1. عملة ضعيفة:

يُعد الريال الإيراني من بين العملات الأضعف في العالم بناء على قيمته مقابل الدولار الأمريكي، مما دفع الحكومة الإيرانية عام 2019 إلى تغيير عملة البلاد من الريال إلى التومان، ثم حذف أربعة أصفار منها بعد موافقة البرلمان الإيراني، نتيجة لتراجع القيمة الشرائية للعملة الوطنية بشكل حاد بفعل التضخم الكبير في السنوات الماضية. ومع نهاية سبتمبر الماضي، انخفضت قيمة العملة الإيرانية، ليبلغ سعر الدولار الواحد نحو 61 ألفاً و500 تومان، في إشارة واضحة تعكس مدى ضعف العملة الإيرانية.

بكين وموسكو «طوق نجاة»

في ضوء ما تقدم من معطيات، يبدو أن الاقتصاد الإيراني يعتريه من الضعف ما يجعله غير قادر على خوض حرب أو مواصلتها حال اضطراره لدخولها، بالنظر إلى ما يمكن أن ينجم جراء ذلك من تبعات اقتصادية واجتماعية كارثية على المجتمع الإيراني، لكن يبقى الدعم الصيني-الروسي لطهران أحد المعطيات المهمة التي قد تعيد الاقتصاد الإيراني إلى نصابه وتدعم استمراره ولو بدرجات محدودة، وبخاصة أن الدعم الصيني والروسي مَثّل لفترات طويلة طوق نجاة للاقتصاد الإيراني من العقوبات الاقتصادية الأمريكية-الغربية.

فقد نجحت طهران في الالتفاف على العقوبات المفروضة على صناعتها النفطية باستمرارها في بيع نفطها في الخارج، من خلال عمليات التمويه والتهريب، إذ يتم شحن النفط الإيراني إلى دول مثل ماليزيا والإمارات وسلطنة عمان وسوريا بهدف مزج النفط الإيراني الخام مع غيره لإخفاء مصدره وإعادة تسميته ونقله إلى سفن أخرى تمهيداً لتصديره إلى الصين، التي مثّلت -ولا تزال- الوجهة الرئيسة للصادرات الإيرانية غير المشروعة.

يؤكد ذلك ارتفاع صادرات النفط الإيرانية في 2023 لتبلغ نحو 35.8 مليار دولار بحسب ما أعلن رئيس الجمارك الإيرانية، ووصول صادرات إيران من النفط الخام إلى 1.5 مليون برميل يومياً على مدار الأشهر الثلاثة الأولى من 2024، لتُسجِّل أعلى مستوى في ست سنوات، واعتراف وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، بأن إيران تواصل بوضوح تصدير نفطها، وأن ثمة مزيداً مما ينبغي عمله للحد من هذه التجارة، وهو ما دفع وكالة تسنيم الإيرانية إلى التأكيد على أن صناعة النفط في البلاد وجدت سبلاً للالتفاف على العقوبات، وأنه ما دامت الصين هي العميل الرئيس لها، فإنها محمية إلى حد كبير من الضغوط الغربية.

كذلك بدا أن إيران على وشك تقليل تأثير تبعات استبعادها من نظام سويفت الذي تسبب في شلّ حركة تعاملاتها المالية الخارجية لفترات طويلة، وذلك عندما أعلنت طهران ربط نظامها المصرفي (SEPAM) مع النظام المماثل لموسكو (SPFS)، رداً على عزلهما عن شبكة سويفت المالية العالمية للتحويلات المصرفية، وللتخلص من نظام الرقابة الأمريكي على المبادلات المالية. ويعزز هذا الاتجاه ما جرى تداوله عن استخدام العملات الروسية والإيرانية والصينية للتبادل التجاري بدلاً من الدولار الأمريكي.

إجمالاً، توضح معطيات الاقتصاد الإيراني أن ثمة عجزاً وضعفاً يعتريه مما يجعل خوض طهران حرباً أو الاستمرار فيها لأمد طويل أمراً له آثار كارثية على الاقتصاد، فخوض الحروب يحتاج إلى اقتصاد قوي يضمن استغلال موارد المجتمع وتسخيرها في خدمة المجهود الحربي دون المساس باستقرار وسلامة المجتمع داخلياً، وهو ما لا يتوافر للاقتصاد الإيراني. ويبقى الدعمان الصيني-الروسي محدودين ومؤقتين، وهما دعمان فرضتهما المصالح، وربما لا يستمران كثيراً، في مقابل دعم أمريكي-غربي غير محدود وغير مشروط لإسرائيل.

# حرب غزة # طوفان الأقصى # سياسة # إيران # إسرائيل # اقتصاد

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
تل أبيب: قصة الحي الشعبي الذي أصبح قلب إسرائيل
الشابات: كيف نفهم حياة الحريديم في الأراضي المحتلة؟

مجتمع