رياضة

تشابي ألونسو: في محاولة تفسير الأسطورة

قصة تشابي ألونسو الرجل الذي جاء من إقليم الباسك ليحيي بايرن ليفركوزن وهو على حافة الهبوط ويناطح به بايرن ميونخ ملك ألمانيا الأوحد ويفوز في النهاية.

future تشابي ألونسو، المدير الفني لنادي بايرن ليفركوزن ونجم ريال مدريد السابق

كان رجل الباسك البدائي معزولاً عن الثقافات الأخرى بسبب جغرافية الإقليم الذي يصعب الوصول إليها، ولهذا توصل إلى اختراع مجموعة كبيرة من الأساطير التي لا تزال موجودة حتى اليوم بفضل الثقافة الشفهية المعروفة عن الإقليم.

من بين أساطير الباسك الكثيرة، هناك أسطورة تفيد بأن الإنسان حصل على حق زراعة الأرض بعد أن ربح رهاناً على البذور ضد أسياد الغابة. آمن الإنسان أن رهاناً وحيداً يمنحه الحياة الرغدة، وفي المقابل لم تمثل خسارة الرهان شيئاً لأن أسياد الغابة لم يكن ليمنحوا شيئاً دون رهان.

يقولون دوماً إن أساطير الشعوب التي بقيت، دوماً ما تحمل شيئاً من السمات الإنسانية التي تميزهم عن بقية الثقافات. لا نملك دليلاً على ذلك بالطبع، لكننا نملك قصة رجل من الباسك قرر الرهان على نفسه من أجل تحقيق النجاح، ذهب إلى ألمانيا وتحدى أسياد اللعبة الذين يحتكرون كل الألقاب، ولأن الأساطير دوماً تملك سحراً خاصاً فقد فاز الباسكي بالرهان.

نحن هنا نحكي قصة تشابي ألونسو الرجل الذي جاء من إقليم الباسك ليحيي فريقاً مثل بايرن ليفركوزن على حافة الهبوط بل ويراهن به لمناطحة بايرن ميونخ ملك ألمانيا الأوحد ليفوز في النهاية.

تليق قصة ألونسو أن نقصها كما نقص الأساطير، لكنها في المقابل تحمل كثيراً من الأفكار والجهود التي تجبرنا أن نتناولها بالشرح والتفاصيل، نحن هنا لنفسر الأسطورة دون أن ندنس شيئاً من سحرها.

قيمة الفشل: الخروج من دائرة الراحة

أول مكونات أسطورة ألونسو أنه وُلد لاعباً ناجحاً وأن إثبات نفسه مدرباً ما هو إلا امتداد لمسيرته لاعباً متألقاً، وهذا لم يحدث أبداً.

تبدأ القصة في مدينة سان سباستيان بإقليم الباسك الإسباني، يمكنك بسهولة أن ترى الصورة العتيقة ذاتها معلقة فوق عديد من حانات البلدة، إنه خيسوس زامورا مسجلاً الهدف الذي ضمن لريال سوسيداد أن يصبح بطلاً لإسبانيا لأول مرة عام 1981.

كان لوالد ألونسو السيد بيريكو دور فعال في خط وسط ذلك الفريق، كما كان موجوداً في صفوف الأبيض والأزرق عندما حصل على البطولة التالية والأخيرة عام 1982، وهو ذاته العام الذي ولد فيه ابنه الأول تشابي.

هكذا وجد ألونسو نفسه منذ أيامه الأولى متعلقاً بكرة القدم، وكذلك لعب ميكيل شقيقه كرة القدم بينما يعمل شقيقه الآخر جون حكماً محترفاً، وبالمنطق ذاته أصبح لاعباً في صفوف ريال سوسيداد في نفس مركز والده، محاولاً إضافة صورة فخرية جديدة للمدينة. قد يبدو الأمر خيالياً لكنه وبعد موسمه الثاني فقط كان على بعد خطوات بسيطة من تحقيق الدوري.

قاد ألونسو سوسيداد لتحقيق وصافة الليجا عام 2003 بعد أن فازوا بنتيجة 4-2 على المنافس المباشر ريال مدريد في أبريل، مما جعل المستحيل يمكن تحقيقه، لكن فريق نهاد قهوجي ورفاقه أهدر أربع نقاط متأخرة ليضيع بعدها حلم التتويج.

رحل بعدها ألونسو إلى إنجلترا وخاض تجربة مماثلة في فشل تحقيق الدوري خلال موسمه الأخير رفقة الريدز بفارق أربع نقاط فقط، لكنه فاز بعد ذلك بكل البطولات التي يمكن الفوز بها لأي لاعب كرة قدم، وتلقى إشادات مستمرة في كل ملعب ظهر به.

في بعض الأحيان، لا يكون لدى المدرب الوقت الكافي لإعطاء التعليمات على أرض الملعب، لذلك يستحسن دوماً وجود لاعب لديه القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في ظل وتيرة سريعة، وكانت تلك وظيفتي. لهذا السبب أرى أنه من الطبيعي أن أعمل مديراً فنياً.

— تشابي ألونسو

ولأن خيبة الأمل تدوم لفترة أطول من الشعور بالرضا عن الإنجاز، أكسبت تلك التجارب المدرب الشاب شيئاً من الشجاعة. فبينما تمت مقارنته على أرض الملعب بلاعبين مثل بيرلو ولامبارد وجيرارد، إلا أنه اختلف عنهم بأنه كان أكثر جرأة في ما يتعلق بالفشل والخروج من دائرة الراحة.

هذا ما جعل ألونسو يقرر الرحيل عن تدريب ريال مدريد تحت 14 سنة بمجرد ظهور منصب شاغر مع ريال سوسيداد «ب» بعد ترقية إيمانويل ألجواسيل إلى مهام الفريق الأول.

أشار عليه الجميع بأن التدرج بوصفه مدرباً للمراحل السنية في مدريد أكثر أماناً وبعيداً عن المخاطرة. لكن ألونسو أجاب ببساطة: ذلك هو بيت القصيد، لا أريد أن أكون معروفاً بما فعلته بل أريد أن أكون معروفاً بما أفعله.

شاهداً على تغير اللعبة

ثاني مكونات الأسطورة يتعلق بكون ألونسو من الجيل الذي عرف كرة القدم بشكلها الهادئ وهو ما منحه قدرات تدريبية واضحة، ولكن ألونسو نفسه لم يكن لينجح هذا النجاح إلا لأنه أدرك تماماً قيمة التغير الذي طرأ على شكل كرة القدم.

يصف ألونسو لحظة تعليق حذائه أنه وجد أخيراً اللحظة المناسبة للشعور بالسلام، وكأنه ثمرة ناضجة تماماً وقد سقطت من الشجرة دون إرادتها.

والحقيقية أن رحلة ألونسو داخل الملاعب لا يمكن تجاهلها أبداً، والأهم أنه خلال تلك الرحلة التي استمرت لـ18 عاماً شهد بشكل مباشر العشرات من التطورات والثورات في عالم كرة القدم.

علاقتي بكرة القدم لم تتغير قط، لكن كرة القدم نفسها اختلفت بشكل ملحوظ.


— تشابي ألونسو

يشرح ألونسو كيفية تغير كرة القدم من خلال الحديث عن رومان ريكيلمي، وكيف أنه من عظماء اللعبة لكنه لا يمكن له أبداً النجاح في العصر الحديث، لا لقلة جودته بل لأن كرة القدم تغيرت بالفعل وعلى الجميع أن يواكب هذا التغيير مهما بلغت مهارته.

يؤمن ألونسو أنه حاول خلال مسيرته فهم هذا التغير، صحيح أنه لم يستطع أن يُحسن من سرعته، لكنه اهتم كثيراً بفهم مجال اللياقة البدنية وإمكانية الوصول إلى مزيد من البيانات والتحليلات والمعرفة، ظن دوماً أن هذا يجعله على علم بخصومه بشكل أفضل.

حتى خارج الملعب، شهد تشابي أثر وسائل التواصل الاجتماعي على المشهد، وإن كان يعتقد أنها أفقدت اللاعبين تركيزهم على ماهية الوظيفة الحقيقية للاعب كرة القدم. وجوده شاهداً على تغير معطيات اللعبة جعله يقدر كثيراً المدربين الذي عمل معهم أمثال مورينيو وجوارديولا وأنشيلوتي، هذا لأنهم يحاولون جاهدين إحداث تغيير في مسار هذه اللعبة، وإن كان يبدو ذلك صعباً لكنه قادم لا محالة.

تلك كانت أفكار ألونسو في نهاية مسيرته، قبل حتى أن يفكر في العمل مدرباً، احتاج ألونسو لأقل من سبع سنوات ليحدث هذا التغيير الذي تحدث عنه بنفسه في كرة القدم.

لماذا ألونسو: مزيج من المدربين

ثالث مكونات أسطورة رجل الباسك أنه امتداد منطقي لبيب جوارديولا، لكنه في المقابل رجل يملك ما لا يملكه بيب جوارديولا!

من بين عديد من الآراء المتعلقة بألونسو المدرب، تنبأ إرنست ماسيا المحلل الشهير في راديو كتالونيا بأن ألونسو سيكون له أثر بيب في كرة القدم بل وسيفوقه، تنبأ ماسيا بذلك قبل أن ينتقل ألونسو لليفركوزن ويصبح حديث الجميع، لذا يبدو الأمر مثيراً لفهم كيف فعلها ماسيا.

أوضح ماسيا أن العامل الأول الذي جعله يتنبأ بذلك أنه يرى ألونسو أكثر مرونة من بيب، فبيب الذي انتهج فلسفة خاصة في برشلونة حاول مراراً أن يقنع بها لاعبيه في ميونخ ومانشستر وقد كلفه هذا سنوات من المحاولات حتى وصل للنضج الكافي، إلا أن تشابي يمتلك هذا النضج بالفعل لأنه تدرب على يد مدارس مختلفة تماماً وأن هناك أيضاً علامة أخرى تدل على مرونة هذا الرجل وهي أنه أجاد لغة كل بلد عاش فيها.

لقد دربه جوارديولا في بايرن، وقمت بتدريبه ثم أنشيلوتي في ريال مدريد، وبينيتيز في ليفربول. إذا فكرت في هذا المزيج، فأعتقد أن تشابي لديه الظروف الملائمة ليصبح مدرباً جيداً للغاية.

— جوزيه مورينيو

والمثير هنا أن ألونسو بالفعل في حديث للـأثليتيك تحدث عن مدربيه السابقين جميعهم بشكل فني وتكتيكي واعٍ للغاية، قوة شخصية جون توشاك في سوسيداد ورؤيته الخبيرة للمواهب رغم أنه لم يُجد الجزء التحليلي المتعلق بكرة القدم، تقديره لاجتهاد بينيتيز رغم خلافهم سوياً في إنجلترا، وقلقه الذي انتهى بعد تولي مورينيو لريال مدريد، إذ يفضل البرتغالي لاعبي وسط أكثر قتالية، لكنه يؤمن أن منهج مورينيو في حث اللاعبين لتحمل مسؤوليتهم بشكل حقيقي هو منهج مثمر للغاية، لكنه أيضاً استفاد كثيراً من حلة الهدوء التي حظي بها رفقة أنشيلوتي.

أما الجزء الذي ربما خدع البعض فكان حديثه عن موافقته الانتقال لبايرن في نهاية مسيرته فقط لشعوره بالفضول الشديد لمعرفة أسرار جوارديولا، وأنه يرى أن ميزة بيب الرئيسية أنه يقظ بشكل دائم رغم مواسم الكرة الطويلة.

الأسطورة على أرض الملعب

لا يتبقى لنا هنا إلا أن نشرح كيف تشكلت الأسطورة بشكل عملي، وكأننا نشرح للجميع كيف أن فيضان النيل هو الذي أغرق البلاد وليس لعنة الرب!

في ريال سوسيداد ب، استخدم ألونسو في البداية تشكيلات 4-2-3-1 و4-3-3، وقاد الفريق في التقدم بكفاءة نحو المرمى، جاء ذلك من الضغط العالي في نصف ملعب الخصم، أو الضغط المضاد في خط الوسط، واستعادة الكرة ثم التقدم للأمام والاختراق من الخلف. كذلك استطاع الفريق البناء من العمق بشكل واضح.

من خلال الخطة 4-2-3-1، يتقدم أحد المحاور في الوسط للأمام وينضم إلى اللاعب الرقم 10، وهذا يمكن لاعبي الوسط من الزيادة وصولاً لمعاونة المهاجم الأساسي. أما من خلال خطة 4-3-3 فيستخدم ألونسو اثنين من لاعبي خط الوسط المتقدمين للتوسع بعرض الملعب والتواصل مع الأجنحة، يهدف هذا التوسع إلى خلق مساحة لقلب الدفاع أو الظهير للمرور بالكرة للأمام وهنا يتحرك لاعبو الوسط للداخل لخلق ثلاثيات مع لاعب الوسط المتقدم والجناح.

تحول ألونسو مع ليفركوزن إلى خطة 3-4-3،  وقد ضمن له هذا توسيع الملعب من خلال التحرك الذي يوفره الظهير في منطقة الأجنحة، والملاحظ أن ليفركوزن بقيادة ألونسو من بين الفرق الأكثر مراوغة توفير مواجهات (1 ضد 1) في موسم 2023/24.

يجعل هذا من الصعب تتبع تحركات الأجنحة والتنبؤ بها والتغطية أثناء تحركها إلى الداخل. ومن خلال الاستفادة من قدرات الأجنحة المهارية، يقوم لاعبو المحور بالتحرك وتبادل الكرة و التمرير إلى مناطق الهجوم المتقدم بأكبر قدر ممكن من الكفاءة.

يقوم ليفركوزن أيضاً بإنشاء خط وسط مربع، وذلك بتراجع لاعبي الوسط المتقدم ودمجهما أمام لاعبي المحور، يؤدي هذا في كثير من الأحيان إلى زيادة العبء على خط الوسط المنافس ويسمح أيضاً للظهير بالتقدم إلى مراكز متقدمة في ملعب المنافس.

الآن صار يمكننا أن نقص قصة ألونسو بمزيج من الأسطورية والعقل، بمزيج من السحر والتكتيك، ربح ألونسو الرهان في النهاية وهو الآن وحده يمتلك البذور، ولا يسعنا إلا أن نتذوق الثمار التي سيزرعها تشابي في السنوات المقبلة.

# تشابي ألونسو # بايرن ليفركوزن

رياضة