صحة

تجميد البشر: هل نجح العلم في حفظ أجسادنا للمستقبل؟

للتجميد تاريخ طويل في حفظ الأشياء وتخزينها، لكن هل سمعت من قبل عن تجميد الأجسام وحفظها للمستقبل مع إعادتها للحياة؟ هل نجع العلم في الوصول لذلك فعلًا؟

future صورة تعبيرية: (تجميد البشر)

في بريطانيا في أواخر عام 2014، ربحت فتاة بريطانية ذات الـ14 عامًا -مصابة بنوع نادر من السرطان- دعوى قدمتها إلى المحكمة العليا لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحفظ جسدها بالتبريد، على أمل أن يأتي يوم في المستقبل يتمكن فيه العلماء من شفاء مرضها وإعادتها إلى الحياة.

ونظرًا لصغر سنها، لم تستطع الفتاة أن تكتب وصية، ولاختلاف آراء والديها المنفصلين حول القرار، فقد ناضلت الفتاة للفوز في تلك المعركة القانونية، وجاء فوزها هذا تاريخيًا؛ إذ كانت دعواها هي الأولى من نوعها في محكمة إنجلترا وويلز، وربما في العالم بأسره.

«أعتقد أن تجميد جسدي هو فرصتي الوحيدة في العلاج، لا أُريد أن أُدفَن بل أن أعيش، وأعيش طويلًا ريثما يومًا ما في المستقبل يجدون علاجًا لمرضي ويوقظونني».

لم يقتنع والد الفتاة بالأمر قائلًا إنه في أفضل الأحوال إذا استيقظت ابنته يومًا ما، ولنَقل بعد مائتي سنة، ربما لن تجد أي أقارب لها، وربما لن تتذكر أي شيء، ستكون طفلة ذات 14 عامًا تستيقظ لتجد نفسها في الولايات المتحدة حيث يوجد معمل التجميد.

تاريخ التجميد

أصبح جيمس بيدفورد أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا أول شخص في التاريخ يُحفَظ جسده بالتبريد في يناير من عام 1967. تُعرف عملية التجميد باسم Cryopreservation أي الحفظ بالتبريد.

اكتُشف الحفظ بالتبريد عن طريق الصدفة عام 1948، حين لاحظ كريستوفر بولج أن الحيوانات المنوية للدجاج يمكنها النجاة بعد التجميد لدرجة حرارة الـ70 تحت الصفر المئوي باستخدام الجليسرول. إذا كان بالإمكان حفظ الخلايا الجنسية، من ثمّ يمكن حفظ الخلايا الجسدية كذلك عند خفض الحرارة مثل الحفظ في النيتروچين المُسال. في درجات الحرارة المنخفضة تتلاشى التفاعلات البيوكيميائية والوظائف الفسيولوجية للخلايا والأعضاء وتكاد تقترب من الصفر.

للتجميد تاريخ طويل في حفظ الأشياء وتخزينها، ويمكننا تكرار الشيء ذاته في الخلايا الحية، إذا حافظت الخلايا على تركيبها ووظيفتها في طريقها للوصول إلى درجة الحرارة المنشودة، إذًا تهانينا لقد تمكنا من تخزين الخلايا!

تمر عملية الحفظ بالتبريد بأربع مراحل:

1- الحفظ في عوامل مضادة للتجمد تتعرض لها الخلايا لمدة من الزمن.

2- التجميد: تقليل الحرارة بالتدريج وبمعدل خاضع للرقابة إلى ثمانين درجة مئوية تحت الصفر، أو إلى درجة حرارة النيتروچين المسال (-196 مئوية) اعتمادًا على مادة الحفظ؛ من أجل التخزين طويل الأمد.

3- الإذابة: زيادة الحرارة بمعدل معلوم.

4- إزالة العوامل المضادة للتجلط قبل إتاحة الاستخدام لما لها من أثر سام.

تُستخدم تلك الخطوات ضمن تقنية حفظ المواد كالطعام، بنفس المبادئ يمكن استخدامها لحفظ أجساد البشر.

رحلة داخل غرفة تجميد البشر

علينا أولًا أن نُفرق بين مصطلحين، الأول Cryogenics/ التبريد: وهو أحد فروع العلم التي تهتم بحفظ المواد عند درجات الحرارة المتدنية. أما Cryonics/ تجميد الجثث: فتشير إلى التقنية المستخدمة بعد وفاة الشخص لحفظ جسده في درجة حرارة منخفضة، انتظارًا لإعادة إحيائه عند اكتشاف علاج لمرضه.

الشرط الأول لتجميد الشخص هو إعلان وفاته قانونيًا، بشرط التأكد من أن دمه لا يزال يُضخ عبر جسده، ويُعرف الموت السريري بأنه توقف ضربات القلب والتنفس.

يعد الوقت عاملًا أساسيًا؛ فأي تأخر في وصول فريق التجميد قد يفسد العملية بأكملها، لذا على الفريق أن يكون موجودًا في المشفى.

لم يكن چيمس بيدفورد الوحيد المُرشح ليكون أول شخص يجمد جسده، لكن كان هناك قبله معلمٌ من سان فرانسيسكو لكنه توفي قبل وصول عمال التجميد، مما يعني أنه حتى إذا قمنا بإحيائه يومًا ما، فعلى الأرجح لن نتمكن من إصلاح التلف الدماغي الحادث.

امرأة أخرى من كاليفورنيا كان قد جرى تحنيطها دون علم لجنة التجميد، لكن فور علمهم أخرجوها ودفنوها على الطريقة التقليدية. 

يجب تبريد المريض فورًا عقب إعلان وفاته، حتى لو كان بالثلوج فقط، وإن كان استخدام الثلج المجروش في الماء البارد أكثر فعالية من الثلج وحده. الرأس هو الجزء الأهم في التبريد؛ لذا يُستحسن وضعها في حوض مليء بالماء والثلج، وبالطبع فإن وضع المريض في حقيبة مُخصصة للجسد بأكمله مليئة بالماء المثلج سيضيف فائدة.

يُحقَن المريض بمضادات التخثر لمنع تجلط الدم، إذ نستخدم 30 ألف وحدة من الهيبارين للمرضى ذوي الكتلة الأقل من 90 كيلوجرامًا، بينما 40 ألف وحدة إذا كانت كتلة المريض 90 كيلوجرامًا فأكثر.

بعد وضع مضاد التخثر، يشرع الأطباء في ممارسة الإنعاش القلبي الرئوي على المريض لمدة خمس دقائق على الأقل؛ لضمان سريان الهيبارين في الجسد بأكمله. حتى يصل المريض إلى ميتشغين حيث منشأة تابعة لمركز التجميد، يجب التأكد من الحفاظ على برودته في الثلج، كما يجب الاستمرار في الإنعاش القلبي الرئوي، سواء يدويًا أو باستخدام الآلات؛ من أجل استمرارية سريان الدم عبر جسده، حتى الوصول لمركز التجميد وإجراء الإرواء الدموي.

صورة مُلتقطة عام 1966 تُظهر ما بداخل غرفة التبريد المُصممة لتجميد الجسد البشري، (مصدر الصورة)

الإرواء الدموي:

استغرق أطباء فريق التجميد نحو سبع دقائق منذ لحظة موت چيمس بيدفورد لإتمام المرحلة الأولى من عملهم، والتي إلى جانب الحفاظ على قلبه شملت وضع بيدفورد على التنفس الصناعي لضمان تدفق الأكسچين إلى دماغه لحين إتمام باقي العملية.

تسمى الخطوة الأولى داخل مركز التجميد الإرواء الدموي، حيث ضُخّ dimethyl sulfoxide/ ثنائي ميثيل السلفوكسيد داخل أوردة المريض، ليَستبدل الدم ويحفظ الأعضاء من التجمد.

فور انتهاء تلك الخطوة، يوضع الجسد على الثلج في كبسولة على شكل أسطوانة، لينقل بعدها إلى مركز التجميد في أريزونا. 

أُجريت عملية نقل چيمس بيدفورد بسرية تامة، حتى إن العمال الذين قاموا بنقل الكبسولة لم يعرفوا عنها شيئًا سوى أنها تحوي جسدًا ما، وبعد أيام قليلة أعلن مجتمع تجميد البشر نجاح تجميد أول جسد بشري بعد فشل المحاولتين السابق ذكرهما.

رحلة داخل خلية تعرضت للتجمد

لماذا لم يتسابق الأطباء القائمون على عملية التجميد لإدراج أسمائهم ضمن قائمة الانتظار؟

حسنًا، بجانب تكلفته الباهظة -دفعت الفتاة مجهولة الاسم في عام 2014 نحو 37 ألف دولار، رغم ذلك لا يبدو أن العاملين فيه مؤمنون به تمام الإيمان.

وصف الدكتور جون ليمان رئيس مختبر التكنولوجيا الحيوية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، مشروع چيمس بيدفورد بأنه «ساذج للغاية وسخيف». يتشكك العلماء حول التجميد، البعض يؤمن أن بمقدور التجميد حفظ أجساد البشر وإرسالها بعد 20 ألف سنة في المستقبل، والبعض الآخر يثقون أن الخلايا تعطب منذ اللحظة الأولى للتجميد ولا تعود قادرة على العمل، فماذا يحدث في الخلية يدعم هذا الادعاء؟

يتكون معظم الخلية من الماء وحين نجمّد الإنسان، تتجمد السوائل الموجودة بداخله، سبق وذكرنا أننا نستبدل سوائل الجسم بأخرى مضادة للتجمد، لكن تلك السوائل -الدم والبلازما- لا تمثل سوى ثُلث حجم الماء الموجود في جسم الإنسان، إذ يقبع الثلثان الآخران داخل الخلايا. 

حين يتجمد الجسم، تتجمد أجزاؤه الأصغر بالتبعية وهي الخلايا، تصور الخلية كبالون يحوي الماء بداخله، وجدار البالون هو غشاء الخلية، إن أي محاولة لتجميد البالون ستحول الماء بداخله إلى جليد ذي حوافٍ حادة يخدش بدوره جدار الخلية، لكننا لن نلحظ ذلك سريعًا؛ لأن الخلية شبه متوقفة عن العمل وقت التجميد؛ لذا لدى عودة الجسد للحياة، نكتشف أن جدران معظم الخلايا مثقوبة، وبالتالي لن تكون قادرة على أداء وظيفتها. لنأخذ خلايا الدم الحمراء مثالًا:

تسبح خلية الدم الحمراء في درجة حرارة الجسم 37° مئوية وسط خليط من الماء والمواد الكيميائية التي تحتاج إلى درجة حرارة معينة لتحافظ على ذوبانيتها داخل المحلول. مع خفض درجة الحرارة تتجمد المياه الموجودة داخل وحول خلية الدم متحولة إلى بلورات ثلجية صلبة، ولا تصبح حرارة الوسط ملائمة لإذابة المواد الكيميائية فتتكتل في طريقة مدمرة تُعرف بالصدمة التناضحية/ Osmotic Shock، ويمكن لهذه التقنية تدمير كريّات الدم الحمراء قبل الوصول إلى درجة 130 تحت الصفر المئوي. لكن هذه المشكلة لم تمنع العلماء من المضيّ قدمًا.

المشكلة في الماء والحل في الماء

لا يتشابه تركيب الخلايا في كل الكائنات الحية، فبعض الأسماك التي تعيش في أعماق البحار يتعين عليها التكيف على درجات الحرارة المتطرفة، لذلك تفرز بروتينات مضادة للتجمد تمنع تكوّن الثلج عند انخفاض الحرارة لما دون الصفر المئوي.

ألهمت تلك الفكرة العلماء لاستخدام عوامل مضادة للتجمد، سواء مستخلصة من تلك الحيوانات أو مصنعة معمليًا في تقنية تعرف باسم Vitrification – التزجيج، وجرى استخدامها في الأوساط الطبية لتجميد الأعضاء البشرية في أوعية زجاجية دون تكوّن ثلج مدمر.

حين يتعلق الأمر بتجميد البشر، من المفترض بنا استخدام العوامل المضادة للتجمد بكميات كبيرة قد تسبب تسمم، الأمر الآخر أنه مع العمل بتلك المواد، يجب تبريد الجسم بسرعة وتناغم وهو ما قد يكون صعبًا على المقاييس الكبيرة، مثل تبريد جسد إنسان بأكمله بكل هذا الحجم والتعقيد.

هل يومًا ما سيكون العالم على موعد مع أول رجل جرى تجميده، چيمس بيدفورد؟

في الواقع، تعرضت كبسولة بيدفورد لبعض الصعاب لاحقًا على فترات مختلفة، إلا أنه رغم ذلك بقي مجمدًا، لكننا لسنا متأكدين بعد ما إذا كان سيتأثر جثمانه بالموضوع لدرجة ألا يعود للحياة إذا ما جرى فك تجميده. سببٌ آخر يجعلنا نشكك في الأمر، استخدام مواد بدائية في حفظ جسده إذ لم نكن بعد قد اكتشفنا تقنية التزجيج.

إذا جاء اليوم الذي قد تنجح فيه تقنية التجميد، هل سنتمكن من فك التجميد وإعادة الجسد إلى الحياة؟

إن القيام بعكس عملية تجميد البشر لا يقل صعوبةً عن العملية نفسها، لسنا متأكدين ماذا سيحدث على المستوى الذري والكلي على طول الطريق حتى الوصول إلى درجة حرارة 37° مئوية.

هل سينجح التجميد، هل سينجح البشر في حفظ أجسادهم والسفر للمستقبل بعد العودة إلى الحياة، هل يغدو التجميد مفتاحًا جديدًا لتحقيق هوس الإنسان الأزلي بالخلود، وفي حال نجح التجميد، هل ستقابله روادع دينية واعتراضات فلسفية؟

ماذا عنك أنت، هل يمكن أن تفكر يومًا ما في حفظ جسدك بالتجميد؟

جوارديولا يمدح خصومه: هكذا أصبحت التيكي تاكا مذهباً
بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها

صحة