معرفة

بين قبة الصخرة وخيام النازحين: تأملات في النقوش القرآنية لعمارة المسلمين

كيف كانت نقوش قبة الصخرة في المسجد الأقصى نقطة انطلاق فن الخط العربي؟ وما أثر ذلك على خيام النازحين في غزة؟

future صورة لإحدى الخيام في وسط قطاع غزة كتب عليها «سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» سورة الرعد: 24 (إسماعيل الغول-رحمه الله- 2024)

يُروى أن السلطان العثماني عبدالمجيد الأول الذي يُعَد خليفة المسلمين الثالث بعد المائة، أراد تنفيذ أعمال ترميم بالمسجد النبوي، بما في ذلك إعادة نقش النصوص الموجودة على قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، وإضافة نقوش قرآنية في أماكن أخرى بالمسجد. فأُرسل إلى دار الفتوى في المشيخة الإسلامية بإسطنبول للاستفتاء حول شرعية هذا الأمر. وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الـ19. فجاء الرد أن الكتابة على دور العبادة غير جائزة. ومع ذلك، نظراً لأن هذه عادة قديمة، فإن التخلي عنها في هذه المرحلة قد يؤثر سلباً على إيمان الزوار، وفي هذا تعارض مع العرف. وبالتالي قررت الفتوى أن السماح بالنقوش في دور العبادة يُعَد خياراً لأهون الشرين.[1]

ومدى صواب هذه الفتوى والنقاشات الفقهية حول الأمر، ليس موضوع هذه المقالة، إلا أن الفتوى المذكورة  تشير إلى هذا التقليد الذي وصف بأنه عادة قديمة أو عرف، والمتمثل في نقش آيات القرآن الكريم على عمائر المسلمين. وهو تقليد قديم بالفعل، يعود إلى القرن الأول من الإسلام. وقد تجلَّت إحدى أقدم صوره في الآيات القرآنية المنقوشة داخل قبة الصخرة، التي لاتزال تحتفظ بشكلها الأصلي حتى يومنا هذا.

لماذا يكتب المسلمون الآيات القرآنية على عمائرهم؟

يرى عديد من الباحثين أن ظاهرة كتابة الآيات القرآنية على العمائر التي انتشرت في مشارق الأراضي الإسلامية ومغاربها واستمرت لما يقرب من قرن ونصف، ترجع إلى تحريم التصوير في العقيدة الإسلامية. ولا شك أن هذا السبب صحيح، لكنه يختزل النقوش إلى مجرد زخرف أو زينة، ويتجاهل كثيراً من أدوار القرآن ومقاصده في حياة المسلمين. كذلك، فإن النظر إلى النقوش بوصفها فناً بحتاً يحرم الناظر من أبعاد تتجاوز الفن والذات بل وحتى العالم المادي بأسره. يحاول هذا المقال الإشارة إلى هذه الأبعاد في حدود ما يسمح به السياق، وهي محاولة لا شك طموحة أكثر من اللازم، ولكنها كما يبدو جديرة بالمحاولة.

فلسطين ونشأة النقوش القرآنية المعمارية

من الناحية الفنية، يرى الخطاط والباحث العراقي ذنون أن نقوش قبة الصخرة في المسجد الأقصى كانت نقطة انطلاق فن الخط العربي، وذلك لما تفحصه من كتابات سابقة ومعاصرة ولاحقة لها اتبعت خصائصها الجديدة التي تميزت بها ورسمت أعرافاً وأوزاناً وأشكالاً للكتابات التي تلاها بعد ذلك، سواء في القرن الأول الهجري أو ما بعده من قرون، خصوصاً في أفريقيا والأندلس لارتباطهما المتواصل بالأمويين.[2] وهذا وإن كان من الأهمية بمكان، إلا أن المحتوى القرآني لتلك النقوش وسياقاته التاريخية و المعمارية والعمرانية هو الذي يروي لنا حقيقة نشأة تاريخ هذه الثنائية بين القرآن وعمارة المسلمين، التي هي إحدى صور العلاقة التي نشأت من قبلها بين القرآن، أي الوحي، والمسلمين أنفسهم.

قبة الصخرة ومقاصد القرآن

ما أطرحه هنا في الحقيقة وإن كان قد يبدو قفزاً لكثير من السياقات والأدبيات والأبحاث الأكاديمية التي كتبت حول قبة الصخرة، إلا إني أعده تأملاً شخصياً مبنياً على كثير من هذه الدراسات التي تعد قبة الصخرة واحدة من أعظم المباني في تاريخ عمارة المسلمين. والحقيقة أنني أجد هذا الاعتبار بشكل أساسي في ارتباطها بالأجيال الأولى من المسلمين، الذين شكلوا أحد مرجعيات هذه الأمة، الذين شهدت عصورهم، وفقاً لمعتوق، فضاءً معرفياً لا يفصل بين الفكر والعمل، وانسجاماً تكاملياً بين مكونات المجتمع التي تعمل تحت سقف معرفي وإيماني واحد.[3]و في هذا السياق بالتحديد، يأتي الجيل الثاني، وهو جيل التابعين الذين استقوا معارفهم وفضائلهم من الجيل الأول ثم واجهوا بها تحديات غير مسبوقة. كما عايشوا حضارات كبرى خلقت مناخاً من الجدل الديني حول العقيدة، مثل ذلك الذي نشأ بين المسلمين والمسيحيين في العصر الأموي. أثارت هذه المواجهات، كما يعكس واقعنا الحالي، تأكيدات على الهوية والتعريف بالذات والآخر.

فعمارة قبة الصخرة التي تعد ابتكاراً معمارياً في تاريخ عمارة المسلمين في ذلك الوقت، كان لا بد أن تستفيد من العمارة البيزنطية التي انتشرت في بلاد الشام في كنائس القدس ودمشق واللد وغيرها. ولكن كان عليها في ذلك السياق أن تعرّف نفسها كعمارة المسلمين ومكان مقدس لهم، وتعلن عن عقيدتها ورسالتها من خلال نصوص النقش التي تضمنت مجموعة من الآيات المنقوشة على أشرطة الفسيفساء في الرواق المثمن الداخلي للقبة بطول نحو 240 متراً. فبجانب التأكيد على وحدانية الله، عز وجل، وقدر رسوله، صلى الله عليه وسلم، وتوضيح تعاليم الإسلام وأهمية رسالته العالمية، جاءت الآيات لتمجد نبي الله إبراهيم وتدعو أهل الكتاب ألا يغلوا في دينهم ولا يقولوا على الله إلا الحق. كما فصّلت آيات أخرى في تحريف الإنجيل والأباطيل حول خلق المسيح وتوضيح حقيقته كعبد الله ورسوله.[4]

جزء من النقش الداخلي لقبة الصخرة يحمل أجزاء من آيات سورة النساء 171- 172 «وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ» وآيات من سورة مريم 34-36 «مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ» وآل عمران 18-19«إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱل

والحقيقة أن اختيار هذه الآيات في قبة الصخرة عجيب، خصوصاً في ضوء ما نعرفه اليوم عن مقاصد القرآن. فمواضيع هذه الآيات، في سياق الأحداث التاريخية التي شهدت بناء قبة الصخرة، تتوافق بشكل كبير مع ما كتبه ابن عاشور في مقدمة تفسيره «التحرير والتنوير» عن المقاصد الثمانية للقرآن. هذه المقاصد تضمنت إصلاح الاعتقاد، والتعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، والمواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وسياسة الأمة القاصدة إلى صلاحها وحفظ نظامها، وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم، والإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرها.

من هنا، ليس من المستغرب أن يكون رجاء بن حيوة الشخصية الأكثر ترجيحاً لدور اختيار هذه الآيات، بل والمسؤول عن بناء قبة الصخرة.[5] فقد كان رجاء بن حيوة شخصية بارزة في البلاط الأموي، ملماً بسياساته وأهدافه، فضلاً عن كونه عالماً وفقيهاً ومحدثاً من جيل التابعين. إضافة إلى ذلك، اشتهر رجاء بكونه خطاطاً ومهندساً ومؤثراً سياسياً كبيراً ومستشاراً دينياً أساسياً للأمويين، بما في ذلك الخليفة عمر بن عبدالعزيز. كما ارتبط رجاء بن حيوة بفلسطين وشعبها ارتباطاً وثيقاً، فحمل ألقاب الفلسطيني والأردني والكندي. كان معروفاً بخبرته ومعرفته العميقة بالأماكن المقدسة في القدس، ونقل عدد من التقاليد حول فضائل المدينة، المسجلة في مخطوطات الواسطي. لا شك أن رجلاً يتمتع بخلفيته كان يمتلك معرفة حقيقية بالقرآن الكريم ومقاصده، وقد عاش وعمل في بيئة تعكس ما وصفه معتوق عن عصور الإسلامية الأولى، حيث تضافرت السياسة والدين والعلم والفن في تشكيل الهندسة المعمارية والحضارة في الأراضي التي حكمها المسلمون.

خيام النزوح في غزة: تأملات في دور النقوش القرآنية

تذكر باربارا ميتكالف في كتابها الذي يركز على الاستخدام الخاص والعام للمساحات التي تشغلها المجتمعات المسلمة الجديدة في الغرب، أن الكلمات المقدسة، وبشكل خاص كلمات القرآن الكريم، تعد محوراً للعبادة والسلوك الأخلاقي وتنظيم الحياة اليومية لدى المسلمين. لذا نجد أن هذه الكلمات هي الدليل البصري الأكثر تكراراً على وجود المسلمين في عديد من البيئات،[6] مما يجعلها تلعب دوراً مهماً في التعريف بالمسلمين ومساحاتها في هذه المجتمعات. وهو أمر ملحوظ، بشكل خاص، في البيئات التي تُهَدد فيها الهوية.

وقضية الهوية هي قضية جوهرية بالنسبة  للشعوب التي تتعرض للغزو الفكري والثقافي والعسكري، إذ تعد الهوية سلاحاً ضرورياً للصمود في وجه هذه الهجمة الإلغائية.[7] وأكبر تهديد للهوية، كما أشار عبدالوهاب المسيري، هو الدولة الصهيونية. ولهذا نجد ما يلح في التعبير عنها، إن أمكن، في خيام النزوح بغزة، حيث ظهرت آيات القرآن الكريم مكتوبة على خيام النازحين في بعض الصور.

والحقيقة أن مفهوم الهوية هذا مفهوم مطاطي  وغير دقيق بطبيعته، إذ يتسم بالليونة المصطلحية التي تعاني منها العلوم الإنسانية الغربية.[8] فيصعب الاتفاق على منطلقاته، وبالتالي، على تعريفه ومكوناته وخصائصه. ويتجلى أحد أشكال هذه المطاطية في مجال الفن والعمارة الإسلامية، إذ لا يزال تعريفهما محل خلاف بين الباحثين. بينما في المقابل يغني مصطلح العقيدة عن ذلك الغموض، فهو يعرف الأشياء من منطلقات ثابتة لا تتحول ولا تتبدل.

ومفهوم الأمة يكمن في قلب هذه العقيدة. فالأمة تُعرَّف ببساطة باعتبارها مجتمعاً مؤمناً لا يُعرَّف على أساس عنصري أو عرقي، بل إن تعريفه متجذر بقوة في الدين الذي دخل فيه أفراد هذا المجتمع طواعية، متجاوزاً بذلك كل علامات الانتماء الأخرى. وعلى هذا فإن الأمة تتسم ببعد عملي يتطلب فعلاً واختياراً واعياً. وهي بذلك تُعد مصدراً للتعريف وليس هوية معينة.[9] إنها مجتمع يضم كل المسلمين على مر العصور بسياقاتهم الثقافية المختلفة، متجاوزاً للزمان والمكان. ولذلك، كان على مفهوم الأمة أن يتضمن بالضرورة بياناً ثابتاً للأساس الجوهري والمبادئ الدينية والأخلاقية، التي يمكن لأي شخص أن يشير إليها باعتبارها الأساس النهائي لكل التشريعات.[10] وهذا البيان هو بالضبط ما يمثله القرآن الكريم.

و إن كان ما سبق يجيب على السؤال: لماذا يكتب الفلسطينيون الآيات القرآنية على خيامهم إن أمكن؟ فإنه يطرح سؤالاً آخر، وهو: كيف تحقق الكتابات القرآنية هذا التعريف؟  وهذا سؤال يستلزم تأملاً في اختيار الآيات في سياق الأحداث الجارية. 

واختيار الآيات في نظري هو أشبه بسؤال أحدهم عن الآية المفضلة لديه، فيروي لك شيئاً من قصته، من تطلعاته ورؤاه وذكرياته، ومن تفاعله مع تحديات واقعه، وآيات كتابه. ومن تأملات سابقة لاختيار آيات قرآنية في بعض المساجد، قديمة وحديثة بما فيها قبة الصخرة، لاحظت أن هناك أدواراً مشتركة تلعبها هذه الآيات، سأحاول أن أسقط أحدها هنا على خيام النزوح لما أرى بينهما من توافق يعكس عظمة ما تخبر عنه كتابة هذه الآيات.

فعندما يتأمل المرء النقوش الموجودة على مداخل وأبواب المسجد، يلاحظ وجود تقليد يتمثل في نقش آيات قرآنية معينة في أماكن محددة بشكل متكرر. هذا التقليد الذي تعلمه الخطاطون واعتمدوه عبر التاريخ في مختلف الأماكن يظهر بوضوح في النقوش التي تستحضر مشاهد الملائكة يوم القيامة تبشر المؤمنين وتسلم عليهم عند أبواب الجنة. فهكذا، تحاكي أبواب هذه المساجد أبواب الجنة. وفي هذه المحاكاة، تكمن قدسية هذا  الفراغ، المستمدة من قدسية ما يحتويه من عبادات داخله، مثل الصلاة. وبهذا تضفي هذه الآيات أبعاداً غيبية ومعاني جليلة على الفراغ ومداخله، تتجاوز شكلها المباشر والتعريف المادي لها.

والعجيب أن تجد مثل هذه الآيات مكتوبة على خيام النزوح، فتخبر عن قدسيتها. هذه المرة، عن قدسية تشمل أنواعاً مختلفة من العبادات مثل الصبر والهجرة والجهاد في سبيل الله. فتُذكّر مداخل هذه الخيام بأبواب الجنة، وتحاكي مستقبلاً ليس فقط يتطلعون إليه، بل يعملون لأجله.

والحقيقة أن التأمل العميق في الآيات المستخدمة وألفاظها ومفاهيمها، في ظل تفاصيل السياق الحاضر، يكشف عن كنز من المعاني لعلي أفرد فيه في مقال آخر.

# فلسطين # حرب غزة

[1] Hilal Kazan, «On the Renewal of the Calligraphy at the Mosque of the Prophet (Al-Masjid Al-Nabawī) under the Reign of Sultan Abdülmecid,» in Calligraphy and Architecture in the Muslim World, ed. Mohammad Gharipour and İrvin Cemil Schick (Edinburgh : Edinburgh University Press, 2013), 253–74.
[2] يوسف ذنون، «فلسطين موطن ولادة الخط العربي» المجلة العربية للثقافة 2, no. 1 (1982): 117–23.
[3]  فريدريك معتوق، سوسيولوجيا الفن الإسلامي (بيروت: منتدى المعارف 2017).
[4] للمزيد حول تفاصيل الآيات القرآنية انظر، محمد عبدالستار عثمان «دلالات سياسية دعائية للآثار الإسلامية في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان» العصور 4, no. 1 (1989): 114–33.
[5] Nasser Rabbat, «The Dome of the Rock Revisited: Some Remarks on Al-Wasiti’s Accounts,» Muqarnas, Essays in Honor of Oleg Grabar 10 (1993): 66–75, https://www.jstor.org/stable/1523173.
[6] Barbara D. Metcalf, «Introduction: Sacred Words, Sanctioned Practice, New Communities,» in Making Muslim Space In North America and Europe, ed. Barbara D. Metcalf, vol. 22 (California: University of California Press, 1996), 1–27.
[7] https://aja.me/7trkzm
[8] فريد الأنصاري، أبجديات البحث في العلوم الشرعية محاولة في التأصيل المنهجي (القاهرة: دار السلام, 2020).
[9] Maysam J. al Faruqi, «Umma: The Orientalists and the QurʾĀnic Concept of Identity,» Journal of Islamic Studies 16, no. 1 (2005): 1–34, https://doi.org/https://doi.org/10.1093/jis/16.1.1.
[10] Lois Lamya Al Faruqi and Isma’Il Raji Al Faruqi, The Qur’an and the Sunnah (Occasional Papers Series), ed. anas s. Al-shaikh-ali and Shiraz Khan (London: IIIT, 2015).
هاشم صفي الدين: القائد المنتظر الذي يخشى حزب الله غيابه
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
جولات بلينكن في المنطقة ولعبة سياسة الهندسة

معرفة