مجتمع

بول أوستر: الرجل الذي صنع من الصدفة حكايات

رغم أن عددا من كتابات أوستر يغلب عليها طابع البوليسية، إلا أنها في النهاية تكون عملية بحث عن الذات وعن ذاته، فنرى حضورا لعناصر واضحة من حياته الشخصية.

future بول أوستر

عام 1982 عرف الوسط الأدبي العالمي رواية تحمل عنوان «اختراع العزلة». الرواية كانت أشبه بسيرة ذاتية يحاول فيها الكاتب تقصي شخصية أبيه، ويبحث برفقة القارئ عن الجوانب الخفية في شخصية الأب، ويحاولان معاً فهم هذا الأب. حققت تلك الرواية لكاتبها، بول أوستر، شهرة معقولة. كانت بمثابة تمهيد لذروة تلك الشهرة التي وصلها الرجل بصدور روايته «ثلاثية نيويورك» عام 1983.

لكن أوستر بدأ رحلته قبل تلك اللحظات من الشهرة بسنوات طويلة. فقد وُلد عام 1947، في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، لأبوين يهود من بولندا. ظل يراوغ شعور الكتابة الذي داهمه وهو ابن السادسة عشرة. لكنه استسلم له أخيراً بعد أن تخرّج في جامعة كولومبيا، ثم حصل على درجة الماجستير عام 1970. انتقل بعدها أوستر إلى فرنسا، وبدأ من هناك ترجمة أعمال كُتّاب فرنسيين ونشرها في المجلات الأمريكية. وبين الحين والآخر كان ينشر عدداً من القصص البوليسية من تأليفه.

البحث عن الذات وعن الآخر

رغم أن عددا من كتابات أوستر يغلب عليها طابع البوليسية، إلا أنها في النهاية تكون عملية بحث عن الذات. وعن ذاته شخصياً، فنرى في بعض أعماله حضوراً قوياً لعناصر واضحة ومباشرة من حياته الشخصية وسيرته الذاتية. ونرى في الأعمال الأخرى حضوراً متوارياً لتلك الحياة خلف الأسماء المستعارة والتلميحات الخافتة.

فمثلاً نرى في رواية «اختراع العزلة» أن أوستر وصف والده مباشرةً بالبخل، ووصف والدته بالإسراف، وأنه كان حائراً بينهما. تلك الأوصاف المباشرة غير المُغطاة بسياق روائي أثارت غضب العائلة ضده. خصوصاً أن ثروة والده هي التي أتاحت له التفرغ للكتابة طوال حياته. لم يلتفت أوستر لهذا الغضب، واستمر في رحلته البحثية عن ذاته، وعن الآخر الغائب.

ففي عمله الثاني «قصر القمر»، يحوم أوستر حول نفس الفكرة، شخصية انطوائية تبحث عن أب غائب. يهاجر بطل الرواية ليتعقب ماضي عائلته، لكنه لا يصل في النهاية لشيء. لتستمر رحلة بحث أوستر نفسه في كتاب الأوهام، حيث يعاني البطل الوحدة، ويرغب في تدمير ذاته بعد أن فقد عائلته كلها في حادث طائرة.

ترابط العملين ليس فقط في المناخ العام أو الفكرة الكبرى، لكن حتى «ديفيد زيمر» الذي ظهر في «قصر القمر» كشخصية هامشية مرّت سريعاً على الأحداث، عاد للظهور مرة أخرى في كتاب الأوهام كشخصية أساسية.

لكن لم يُبال أوستر بذلك، واستمر في الكتابة التي يحبها. فقد كانت أحب إليه من أي عمل ممل آخر. وكانت الوسيلة الأساسية لنشر الفكرة التي أراد إيصالها من مختلف أعماله، وهي أن أي شيء يمكن أن يحدث لأي شخص في أي وقت. لذلك كانت كتابات أوستر تدور في فلك مواجهة غير المتوقع، والتعامل مع الأمور المتنوعة. تلك المصادفات هي وسيلة أوستر للاستقرار، كما نفهم من كلامه حين قال إن هناك شيئاً في الروح البشرية يسعى إلى الاستقرار واليقين، لذا فإن أغلب الناس يضلون الطريق حين يحدث شيء غير متوقع أو غير معتاد، لكن إذا تصرفنا بذكاء، وفعلنا ما ينبغي القيام به يمكننا تجاوز ذلك.

لا تبدو تلك مجرد كلمات. فحياة أوستر وتعامله مع مجرياتها تثبت أن الرجل كان معتنقاً لما يقول. ففي مارس/آذار عام 2023 أعلنت «سيري هاستفيت»، وزوجة أوستر، وهي كاتبة، إصابته بالسرطان. قالت سيري أن أوستر كان مريضاً لعدة شهور قبل أن يصلوا إلى التشخيص النهائي. وأنهما صارا الآن يعيشان في بلاد السرطان، كما وصفتها سيري.

قالت أيضاً أن العيش مع شخص يتلقى رشقات من العلاج الكيميائي والعلاج المناعي، إنما هي مغامرة من الحميمية والتباعد. وأضافت أنه ليس من السهل دوماً السير على هذا الحبل المشدود. وأضافت يجب أن يكون الشخص قريبًا بما يكفي ليشعر بالعلاجات التي تُنهك جسد المريض كما لو أنه هو الذي يتجرعها، وفي الوقت نفسه يكون بعيداً بما يكفي ليتمكن من تقديم المساعدة الحقيقية. فالشفقة الزائدة قد تشعر المريض بأنه عديم الفائدة. ليس من السهل دائماً القيام بهذه المهمة الحساسة.

فضل الأسرة

السرطان كان الضربة القاضية لسنوات بائسة عاشها أوستر في نهاية حياته. لكنه استطاع التعامل معها بذكاء كما يقول دائماً. خسر أوستر ابنه عام 2022 بسبب جرعة زائدة من المخدرات.

دانيال، ابن أوستر، كان في خضم تحقيقات عن تسببه شخصياً في وفاة طفلته الرضيعة، وحفيدة أوستر، بجرعة من المخدرات كذلك. صدمتان عاشهما أوستر بقوة، لكن يبدو أن جسده انهار تحت وقع هذه الصدمات.

بينما استمر عقله وقلمه في الجريان، فقد أكمل تحت وطأة هذه الصدمات كتابه «بومغارتنر»، الذي تصفه زوجته بأنه كتاب لطيف وعجائبي. لكن وصفها أوستر بوصف أحزن كل قراءه، حين صرّح أنها «ستكون آخر ما يكتب».

لكنه في النهاية اختار الرحيل وسط أسرته التي كان دائماً يضعها في المقام الأول فوق كل شيء. وكانت تلك الأسرة هي السبب في ترك أوستر وراءه أكثر من 30 كتاباً، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 40 لغة. فقد كتب «مدينة من زجاج»، التي رفضتها قرابة 17 دار نشر قبل أن تنشرها مطبعة صغيرة في النهاية، ثم كتب «روية أشباح»، و«الغرفة الموصدة». هؤلاء ثلاثة يشكلون ثلاثية نيويورك.

كما دخل عالم السيناريو بفيلم تحت عنوان «دُخان»، تدور قصته حول أشخاص يعانون الضياع في حول متجر للتبغ في بروكلين. كذلك كتب «قصر القمر»، وكتاب «الأوهام»، و«حمقى بروكلين». كما كتب رواية «ليفياثان» عام 1993، والتي حصل بها على جائزة «ميدسيس» للرواية الأجنبية. كذلك كتب رواية «4321» الصادرة عام 2017، والتي تناولت أربع نسخ متوازية من الحياة المبكرة للبطل. وصلت تلك الرواية للقائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر».

ما بين الوحدة والعنف

دائماً ما يعيش أوستر في حالة صراع. حتى وهو خارج توصيف الكاتب، فقد دخل في سجال عام 2012 مع رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا آنذاك، حين صرّح أوستر أنه لن يقوم بزيارة تركيا احتجاجاً على طريقة تعامل أردوغان مع الصحفيين. حينها رد عليه أردوغان قائلاً: «وكأننا في حاجة إليك. من يهتم إن أتيت أو لم تأت؟». بعدها مباشرة ردّ عليه أوستر بأن هناك أكثر من 100 كاتب تم سجنهم في تركيا.

يصارع أوستر في كل أعماله وحشيّن كبيرين، الوحدة والعنف. فهما وجهان لعملة واحدة، يؤدي أحدهما للآخر. قد تختلف الأعمال، وقد يختلف موقع الوحدة والعنف، أحياناً يكون أحدهما هو السبب، وأحياناً يكون الآخر هو النتيجة. يكتب أوستر ما يشعر به بغض النظر عن كيف سيرى النقاد هذه الكتابة. بعضهم ينسبه إلى كُتّاب ما بعد الحداثة، والبعض الآخر ينسبه إلى المدرسة التفكيكية، خصوصاً أن لـ «جاك دريدا» أثر كبير عليه. وبعض النقاد يخالف السابقين ويقول إن روايات أوستر هي روايات بوليسية عادية، لا تحتمل كل هذا التأويل.

لكن أوستر لا يبالي بهذا التصنيف. ربما ما يزعجه فعلاً هو اقتران اسمه بـ «ثلاثية نيويورك» أكثر من غيرها من الأعمال. كانت تلك غصةً كبيرة في قلب أوستر. ولام ذلك على الصحافة التي تجعل من الأعمال التي تنتشر بين الجمهور هي أعمال الكاتب، بغض النظر عن موقعها النقدي، أو حتى رؤية الكاتب لأهميتها في مسيرته، وضمن مُجمل أعماله.

ربما لو أراد الصحفيون الاختيار لاختاروا رواية «حمقى بروكلين» الصادرة عام 2005، والتي يمكن وصفها كأنها نعي مبكر كتبه أوستر لنفسه. الرواية تدور رجل مصاب بالسرطان يبحث لنفسه عن مكان هادئ ليموت فيه. لكن لا يجد الهدوء الذي يبحث عنه، فيقابل آخرين يدخلونه في صراع وجودي ويسلبون منه تلك الراحة المنشودة.

يبدو أن أوستر ضاق في النهاية بالرسائل المبطنة في الروايات، فعمد إلى الكتابة المباشرة في كتابه الأخير، غير الروائي، بعنوان «الشعب الدموي»، الكتاب الذي صدر عام 2021 يتحدث حول العنف في الولايات المتحدة الأمريكية. يتتبع الكتاب جذور العنف في المجتمع الأمريكي، ويحلل أسبابه، ويستبصر مآلاته. ويستقصي النزعة الدموية الأمريكية منذ لحظة مقابلتهم للهنود الحُمر حتى لحظة كتابة العمل.

رحل أوستر وبقيت أقلامه. يقول أوستر أن أول تعرّفه بالكتابة كان حين طلب أوستر وهو طفل من لاعب كرة شهير أن يوقع له على قميصه. حينها طلب اللاعب من أوستر قلماً، لكن لم يمتلك أوستر قلماً فضاع عليه التوقيع. حينها ظل يملك أقلاماً في جيبه لا تفارقه في أي لحظة. ثم بدأ في استخدام تلك الأقلام تباعاًفي الكتابة البسيطة التي تطورت للشعر والأدب.

لكن الآن تتواجد الأقلام، ويختفي أوستر ذاته. لتظل الأقلام منتظرةً منْ يُمسكها من بعده، ليُكمل رحلة صاحبها الأول. وتبقى شاهدةً على أديب من طراز فريد، مات قبل أن تنصفه نوبل كما تمنى عشّاقه دوماً، لكنه حصل على جائزته في قلوب وعقول قراءه.

# أدباء # صناع أفلام

مجتمع