على مشارف نهاية الحرب العالمية الثانية، ولد لعائلة يهودية تسكن شارع سليمان باشا بوسط البلد، طفل سمي بنيامين أو (بني) ليكون ثالت إخوته إدي وتوني.
كان والده يعمل بالاستيراد والتصدير، بشكل عام لم تكن الأسرة متدينة ولم تهتم بإلحاق الأبناء ببرامج تعليمية يهودية. يبدو أن بني قد تأثر بخاله هليل شوارتز، وهو أحد القياديين الشيوعيين والمعروف باسمه الحركي هلال أدهم، فهو كما سنرى سيرث عنه الشيوعية والقيادة واستخدام الأسماء الحركية.
بمشاركة الدولة الإسرائيلية في العدوان الثلاثي على مصر صار وضع اليهود في القاهرة حرجاً. اضطرت أسرة بني إلى الارتحال عن مصر متجهة إلى أوروبا كما يروي كتاب «جان بول سارتر والمسألة اليهودية» لجوناثن يوداكن.
لم تغادر العائلة بأكملها، إذ رفض إدي شقيق بني الطالب بكلية الآداب أن يهجر مصر. تحول إلى الإسلام وسمى نفسه عادل رفعت الذي سيعرف لاحقاً، إضافة إلى صديقه بهجت النادي طالب كلية الطب، بمحمود حسين صاحب عديد من الكتابات التي تناولت التاريخ المصري والإسلاميات، ليكون الاسم الذي تخفى وراءه الصديقان للتعبير عن أفكارهما.
اشترك عادل وأخوه بني في يساريتهما، بل إن عادل هو الذي زرع بذرة الفكر اليساري عند شقيقيه، كان عادل لينينياً وقاده ذلك إلى المعتقل في حملة اعتقالات 1959، بينما كان بني وتوني ماويين. ورغم أن الماوية تعد امتداداً للفكر اللينيني- الماركسي، فإن الماوية تتميز عنها بتعويلها بقدر أكبر على الجموع والفلاحين وإيمانها بالإبداع الثوري للجموع على عكس المركزية والنخبوية اللينينية في تنظيم الثورة وديكتاتورية البلوريتاريا.
لاقى بني مصيراً أفضل من الاعتقال. بعدما أنهى دراسته الثانوية في بروكسل، لحق بتوني في مدرسة المعلمين العليا في 1963، ليدرس على يدي أحد أهم الفلاسفة الماركسيين في عصره لوي ألتوسير.
رافضاً اللينينية، تبنى الماوية وأسس حركة اليسار البروليتاري جوش برولياترين. عرف في تلك الفترة ببيير فيكتور. كان يستخدم بيير كاسم حركي من ضمن أسماء أخرى استخدمها خوفاً من كشف هويته الحقيقية خصوصاً أن وضعه في فرنسا لم يكن قانونياً كما يروي لنا كتاب «جان بول سارتر: ضمير عصره المكروه» لجون جراسي.
للسبب نفسه كان بني يوفد آلان جيسمار، المحاضر الشاب بالسوربون، ليمثله في اجتماعات الحركة. سيكتب آلان لبني فصلاً جديداً من حياته بترشيحه إياه لسارتر ليكون سكرتيراً له، الأمر الذي سيشكل مرحلة مهمة عند كل من سارتر وبني.
يذكر ديفيد دريك في مشاركته بكتاب «العقل السارتري» أن بني كان قد التقى سارتر عدة مرات في 1968 و1969 على خلفية احتجاجات الطلاب قبل أن يعمل لديه في 1974 سكرتيراً. كان يقرأ له الكتب والوثائق، إذ إن سارتر كان قد فقد بصره بالكامل في تلك المرحلة، ويساعده على تأليف كتاب عن الروائي الفرنسي فلوبريت الذي كان يراه مثالاً على الأديب الملتزم ويحدثه عن شئون العالم.
ساعد سارتر بني على أن يقنن أوضاعه، في عام 1974، أرسل سارتر إلى الرئيس فاليري جيسكار ديستان التماساً يطلب فيه حصول بني على الجنسية الفرنسية، وافق الرئيس وتمكن بني من استعمال اسمه الحقيقي كما قد بدأ في التحول من أقصى اليسار الشيوعي إلى أقصى اليمين اليهودي.
يذكر لنا عادل رفعت في لقائه مع مالك التريكي ببرنامج فسحة فكر أنه ترك مصر هو وبهجت النادي في عام 1966. بدأ نشاطهما بعد حرب أكتوبر في الدفاع عن القضية الفلسطينية والحقوق العربية. لم يتحدث رفعت عن أخيه، لكن كتاب «معاداة السامية: تاريخ وتحليل نفسي للكراهية الحالية» لأفنر فلاك، يذكر أن عادل وبهجت قد التقيا بني عدداً من المرات ودارت بينهم نقاشات حادة، أقنعوه بأن يتخلى عن العنف والإرهاب وهو الأثر الذي سيُخلّفه بيني على سارتر لاحقاً كما هو ظاهر في حواراته مع سارتر المنشورة في 1980.
كانت حركة اليسار البلوريتاري منخرطة في عدد من أعمال العنف الرمزية والدفاعية على حد تعبير بني كما يطلعنا كتاب «من الثورة إلى الأخلاق: 1968 والفكر الفرنسي المعاصر». يروي الكتاب أن بني كان يشعر أن الوضع في فرنسا شبيه بالوضع التي كانت عليه في فترة الاحتلال النازي.
تروي دي بوفوار في مذكراتها «وانتهى كل شيء» أن سارتر لم يكن راضياً عن اعتبار فرنسا تحت الاحتلال البرجوازي. كما كان منزعجاً من تصور اليسار البلوريتاري نشاطه كمقاومة وتصور الحزب الشيوعي الفرنسي كمتعاون مع المحتلين. رغم ذلك، لم تصل أعمال العنف إلى حد الإرهاب كما في مناطق أخرى من أوروبا مثل إيطاليا وألمانيا. تنوعت أعمال العنف من الهجوم على أقسام الشرطة بالمولوتوف والعصيان الحديدية، وسرقة تذاكر المترو والطعام وتوزيعه على الناس.
على الرغم من نشاط عادل وبهجت بل وبني أيضاً في الدفاع عن الجانب العربي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد نشرت صحيفة الأهرام في 1 فبراير 1975 في الصفحة الأولى خبراً عنوانه كشف منشورات سرية ضد مصر توزع بالبريد، والاسم الوحيد المذكور في الخبر هو عادل رفعت. يشير الخبر إلى أن عادل يهودي بلجيكي وكان يقيم في مصر ثم أُبعد عنها فسافر إلى إسرائيل وأقام فترة فيها، ثم غادرها إلى باريس تحت اسم عادل رفعت.
بعيداً عن تلك الرواية الأهرامية من تغيير إيدي اسمه إلى عادل، هناك رواية أخرى يذكرها كتاب «شتات اليهود المصريين» لجول بينين، وهي أن سبب تحول عادل إلى الإسلام هو إعجابه بفتاة مسلمة وهو الأمر الذي سبب له خلافات مع والديه. لم يذكر الكتاب اسم الفتاة، لكن محمود السعدني يذكر في كتاب «الطريق إلى زمش» أن زوجته كانت الفنانة فاتن الشوباشي، وهي رواية غير شائعة عن فاتن التي كان معروفاً أنها لم تتزوج إلا الشاعر عبدالرحمن الخميسي.
يذكر يهودا فوجل في مقاله «من ماو إلى موسى: حياة بني ليفي» أن بني شرع منذ 1978 في دراسة اليهودية بشكل جاد بعدما صادف أعمال الفيلسوف الفرنسي اليهودي إيمانويل لفيانس. بدأ اقتراب بني من الصهيونية بتخليه عن ماويته ودراسته اليهودية. يفسر سلافوي جيجيك في مشاركته بكتاب «ما الذي يريده اليهودي» ذلك التحول بأنه نتيجة لفشل مشاريع التحرر العالمية في القرن الـ20 ما دفع الأقليات إلى الارتباط بهويات أضيق توفر لها ذلك التحرر.
كان يقرأ ما يدرسه لسارتر، بل قد رافقه في رحلة إلى القدس في فبراير من العام ذاته، قبل زيارة السادات بأربعة أشهر. أقنعت دي بوفوار سارتر ألا ينشر المقال الذي وقّع عليه هو وبني بعد تلك الزيارة وكان ذلك أول صدام بين دي بوفوار وبني كما يشير كتاب «جان بول سارتر والمسألة اليهودية».
في 1979 دعا سارتر إلى حوار بين العرب والإسرائيليين. أوكل إلى بني مهمة تكوين حلقة دراسية تحت عنوان السلام اليوم التي عقدت في شقة ميشيل فوكو، على الرغم من أن فوكو لم يشارك في النقاش. نقل إدوارد سعيد الذي كان أحد المشاركين في تلك الحلقة في مقاله سارتر والعرب ملاحظة هامشية المنشور في كتاب «خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة» أن فوكو لم يرغب في الحضور بسبب خوفه من معاداة السامية والشغب المعادي لإسرائيل في ذلك الوقت بينما أخبره زميله في جامعة تونس أنه رحل بسبب نشاطاته الجنسية الشاذة مع الطلاب الصغار.
يخبرنا سعيد أيضاً أنه صعق من كبر سن سارتر وضعفه إضافة إلى أنه كان محاطاً دائماً ومدعوماً ومحرضاً ببطانة صغيرة من الناس يعتمد عليها كلياً وكان لأفرادها الشغل الأساسي في حياتهم. كان يعني بتلك البطانة ابنته بالتبني ذات الأصول الجزائرية أرليت إلكيم وبني نفسه وهيلين بولو مترجمته لأن سارتر لم يكن يعرف سوى الفرنسية.
في مقاله أشار سعيد إلى هيمنة بني على سارتر، فكثيراً ما ينهضه ويقوده ليتكلم معه بسرعة ويحصل منه على إيماء ثم يعودون. كما أنه فوجئ عندما علم أن بني هو أخ لعادل رفعت لأنه لم يلحظ فيه ملامح مصرية بل كان أقرب إلى مثقف من الحي اللاتيني.
المشهد الأبرز في شهادة سعيد هي عندما قطع الحديث بصفاقة، على حد وصفه، ليطالب بسماع رأي سارتر. يقول، سبب هذا رعباً في صفوف دائرته. أجلت الحلقة وعقدت مشاورات طارئة بينهم. يجب أن أقول إنني وجدت الأمر برمته هزلياً ومحزناً في نفس الوقت، إذ إن سارتر نفسه لم يكن له أي دور واضح في المشاورات المتعلقة بمشاركته. بعدها جاء بني غاضباً ليعلن للحاضرين: «غداً سيتكلم سارتر».
جاء الرد في اليوم التالي مطبوعاً فيه مديح للسادات والقليل من الكلام عن حقوق الفلسطينيين وخلا من الإشارة إلى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. يؤكد سعيد أن بني هو وراء ذلك البيان وأن سارتر قد استسلم له.
لم يكن بني مؤيداً للصهيونية على الدوام إذ يذكر لنا كتاب «شتات اليهود المصريين» لجول بينين، أن حركة اليسار البلوريتاري تمتعت بعلاقات قوية مع حركة فتح، فكانت حركة اليسار البروليتاري أول من حشدت لمظاهرات مؤيدة للفلسطينيين وكان أعضاء الحركة يزورون مخيمات اللاجئين وقواعد فتح في الأردن. زار بني نفسه وزوجته وصديقه جيسمار الأردن في أغسطس 1969 قوات العاصفة التابعة لحركة فتح. بعدها بعام تقريباً إثر تصفية المقاومة الفلسطينية من المملكة الأردنية في أيلول الأسود، تظاهر 300 عضو من أعضاء اليسار البلوريتاري أمام بنك عائلة روتشيلد وقصرها وخطوا شعارات معادية للصهيونية عليهما كما يذكر كتاب «مسلمون ويهود في فرنسا: تاريخ الصراع» لموود ماندل.
وفّر ارتباط بني بفتح دعماً له من المهاجرين العرب في فرنسا الذين لم يكن مرحباً بهم في الكيانات الشيوعية الفرنسية. لكن الكتاب يضيف أن هذا التوجه لم ينجح في استقطاب كثير من المسلمين والعرب القادمين من شمال أفريقيا بل كانوا ينتقدون هذا الاهتمام أحياناً وتجاهل أوضاعهم المعيشية الصعبة خصوصاً بعد تأميم الجزائر في 1971 شركات النفط مما زاد حدة الهجوم على الجالية المسلمة في فرنسا.
بالرجوع إلى علاقته بسارتر، أثارت سلسلة من الحوارات التي نشرت في 1980 بمجلة «لي نوفل أوبسرفاتر» غضب كثير من أصدقاء سارتر القدامى وعلى رأسهم دي بوفوار كما يشير رونالد أرسلون في مقدمته للترجمة الإنجليزية لتلك الحوارات. رأوا أنها تعكس رؤية بني لا سارتر وأن بني قد دس فيها أفكاره.
عارضت ابنته أرليت تلك الاتهامات وقالت إنها قد راجعت تلك الحوارات مع سارتر كلمة كلمة عدة مرات وكان له مطلق الحرية في التعديل والتبديل. رغم ذلك فقد أشارت دي بوفوار إلى أن أرليت نفسها قد أبدت تخوفها من أن بني قد يكون شوينمان بالنسبة لسارتر إشارة إلى سكرتير برتراند راسل الذي اتهم أيضاً بهيمنته على الفيلسوف الإنجليزي.
أنكر بني تلك الاتهامات وأكد أن تلك كلمة سارتر الأخيرة بل وأعاد نشر تلك الحوارات في كتاب سمي «الأمل الآن». ما أثار الجدل في تلك الحوارات هو حماس سارتر البالغ باليهودية وبفكرة المسيح المخلص وأسفه على بعض آرائه السابقة الخاصة بالعنف وتأييده للاتحاد السوفيتي. انتقل سارتر إلى المستشفى أثناء نشر تلك الحوارات ومات بعدها بنحو شهر.
تروي فرجيني لينهارت، ابنة روبرت لينهارت الذي كان صديقاً لبني، في مقالها «اليوم الذي صمت فيه أبي» أنه بعد موت سارتر وبالتحديد في 1984، التحق بني بكلية لاهوتية يهودية بستراسبورغ وقضى فيها 10 أعوام. بعدها في 1995 انتقل هو وعائلته للعيش في إسرائيل وأسس مع برنار هنري ليفي وآلان فينكلكروت، معهداً لدراسة أعمال إيمانويل ليفانس الذي قاده إلى اليهودية.
ولد برنار هنري ليفي بالجزائر وانتقل إلى فرنسا مع عائلته. التحق برنار بمدرسة المعلمين العليا. يحكي برنار في حوار له مع مجلة تابلت أن علاقته ببني بدأت حين أوفده أحد معارف أبيه إلى بني لكي يعلمه الفلسفة التي كان ضعيفاً فيها. قد يكون برنار هنري ليفي اسماً مألوفاً بالنسبة إليك فقد كان له ظهور في كل من مصر وتونس وليبيا وسوريا منذ الربيع العربي وحتى آخر زيارة له إلى ليبيا في 2020. أثارت زيارته كثيراً من الجدل بخصوص الهدف من تلك الزيارات واستخدمتها وسائل الإعلام المحلية لتشويه ثورات الربيع العربي باعتبارها ذات دعم صهيوني.
أما فينكلكروت فكان زميلاً لبني في حركة اليسار البروليتاري إلى جانب التحاقه أيضاً بمدرسة المعلمين العليا. حالياً يشغل فينكلكروت مقعداً في الأكاديمية الفرنسية المرموقة في الوقت الحالي ويعرف بآرائه العنصرية ضد للمسلمين والسود وتحذيره من مد الهجرة الإسلامية وأخطارها على الوطن الفرنسي كما يذكر مقال «آلان فينكلكروت: عنصري في الأكاديمية الفرنسية» لأحلام طاهر.
قضى بني بقية حياته في دراسة النصوص اليهودية وتوفي في القدس عام 2003 لينهي فصول قصة طافت بين اليمين واليسار والشرق والغرب والصهيونية ومعادتها.