معرفة

بسبب النزاع بين السنة والشيعة: كيف احتل الصليبيون فلسطين؟

من العظمة إلى السقوط.. كيف ساهم النزاع بين الدولتين السلجوقية والفاطمية في تمكين الصليبيين من احتلال فلسطين لأول مرة؟

future استيلاء الصليبيين على القدس

الحملة الصليبية الأولى التي نجحت في احتلال بلاد الشام وفي القلب منها فلسطين في 490هـ - 1097م، وتكوين مملكة بيت المقدس اللاتينية (أو الصليبية)، ربما لم تكن لتنجح لولا الصراع الطاحن بين الفاطميين «الشيعة» في القاهرة، والعباسيين والسلاجقة «السنة» في بغداد وقت الحملة وما قبلها.

الدولة العباسية التي كانت يوماً أقوى إمبراطورية على الأرض في العصر العباسي الأول (132 هـ / 750م - 232 هـ / 847م)، تمزقت وتشرذمت في ما بعد، وصار الخليفة العباسي ليس له من الأمر سوى الدعاء على المنابر فقط، في ظل تحكم السلاطين البويهيين أو السلجوقيين في ما بعد بالدولة، حسبما تتفق المصادر.

وزاد هذا الضعف بعد نمو شوكة الدولة الفاطمية، التي بدأت من المغرب العربي، وظلت تأكل في أراضي الدولة العباسية حتى وصل الأمر إلى احتلال بغداد ذاتها، عاصمة الدولة، واعتقال الخليفة العباسي القائم بأمر الله، والدعاء للخليفة الفاطمي المستنصر بالله في معقل العباسيين عام 450هـ - 1058م.

كان ذلك في نهاية الدولة البويهية التي كانت تسيطر على الخلافة العباسية، ولم ينقذ الخليفة العباسي وقتها سوى الدولة السلجوقية السنية، التي انطلقت جيوشها من إيران إلى بغداد وأعادت الخليفة العباسي إلى عاصمته وحررته من سجنه، وهزمت أبا الحارث البساسيري نائب الفاطميين على بغداد.

وبدأت الدولة السنية السلجوقية الفتية تأكل من جديد في الأراضي التي سيطر عليها الفاطميون الشيعة في العراق والشام وشبه الجزيرة العربية وتصير المواجهة بينها والفاطميين، حسبما تتفق المصادر.

هذا النزاع بين الدولتين العظيمتين، أعقبه وتزامن معه تفكك وصراعات سياسية وأزمات اقتصادية (خصوصاً لدى الفاطميين) داخلهما، حتى كانت الفرصة سانحة أمام الفرنجة (الصليبيين) لدخول الأراضي العربية الإسلامية واحتلال بيت المقدس، وتأسيس مملكة صليبية مسيحية به.

وصل الأمر إلى تآمر الفاطميين مع الصليبيين ضد السلاجقة، وإلى تعامل السلاجقة بعداء مع الفاطميين خلال المعارك، حتى بعد أن تغير موقف الفاطميين واشتراكهم في الحرب ضد الصليبيين، عقب فشل التحالف بينهما.

في سطورنا التالية نركز على دور الصراع الفاطمي السلجوقي في احتلال الفرنجة (الصليبيين) للأراضي العربية الإسلامية، وتأسيس مملكة بيت المقدس التي استمرت حوالي 200 عام.

الفاطميون يعرضون صفقة على الصليبيين

حين تحركت الحملة الفرنجية الصليبية من غرب أوروبا إلى شرقها، ثم دخولهم إلى الأراضي الإسلامية في الأناضول(تركيا الآن)، اعتقد الفاطميون أن الحملة هدفها استرداد الأراضي التي استولى عليها السلاجقة من الدولة البيزنطية في الأناضول حتى شمال بلاد الشام، حسبما يوضح بغداد سحيري في دراسته «العدوان الصليبي على بلاد الشام وموقف الفاطميين منه».

كانت الدولة البيزنطية في علاقات متشابكة معقدة مع الدول الإسلامية في الشرق، تتراوح بين العداء والصداقة، فكثيراً ما دخل البيزنطيون في علاقات صلح وصداقة مع العباسيين والفاطميين في فترات مختلفة، على رغم العداء التاريخي،حسبما تتفق المصادر.

فشل السلاجقة في التصدي للصليبيين بالأناضول، فاحتلوا عدداً من البلدان إلى أن وصلوا إلى الرها، جنوب تركيا الحالية، وشمال سوريا، وأسسوا أول إمارة صليبية بها، حسبما يذكر المؤرخ الصليبي فوشيه الشارتي في كتابه «تاريخ الحملة إلى القدس».

في هذا التوقيت كان حكم بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن) موزعاً بين السلاجقة والفاطميين، حيث كان شمال الشام في يد السلاجقة، وأغلب جنوبه تحت سلطة الفاطميين.

كان الصليبيون في البداية يسلكون الطريق الموازي لساحل البحر الأبيض المتوسط، وهم قادمون من جنوب تركيا الحالية إلى شمال سوريا، وكانت خطتهم تقتضي احتلال المدن الشامية الساحلية أولاً، ثم الانطلاق إلى العمق واحتلال بيت المقدس.

ولكن ما وجدوه من ضعف وانشقاق وتطاحن بين القوى الإسلامية، شجعهم على ترك هذا الطريق الطويل، والانعطاف إلى الداخل مباشرة واحتلال القدس بسرعة، ثم احتلال المدن الساحلية الباقية في مراحل لاحقة، حسبما يذكر المؤرخ الصليبي وليم الصوري في كتابه «الحروب الصليبية».

في هذه الأثناء وخلال محنة السلاجقة في حربهم، وجد الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي صاحب السلطة الفعلية في الدولة الفاطمية، الفرصة سانحة له للتآمر على السلاجقة.

أرسل الأفضل وفداً إلى الصليبيين في أنطاكية (جنوب تركيا وشمال سوريا) عام 491هـ - 1098م، للقاء عدد من زعمائهم، وعرض عليهم صفقة تحالف ضد السلاجقة، كانت أبرز بنودها التي وثقها محمد سهيل طقوش في «تاريخ الحروب الصليبية» كالتالي: يحكم الصليبيون أنطاكية والأناضول وشمال بلاد الشام، مع احتفاظ الفاطميين بحكم القدس وجنوب بلاد الشام، مع السماح للصليبيين بزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين، وأداء شعائرهم بحرية لمدة شهر، بشرط ألا يدخلوها مسلحين، وفي المقابل يتعاون معهم الفاطميون في القضاء على السلاجقة.

كان الأفضل يعتقد أن الصليبيين قد جاؤوا لاسترداد ممتلكات الدولة البيزنطية، التي وصلت إليها في القرن الـ10 الميلادي، والتي تنتهي عند حدود أنطاكية، خصوصاً أن الإمبراطورين نقفور فوقاس ويوحنا زمسكيس كانا قد سعيا إلى تحقيق ذلك أكثر من مرة، بحسب بغداد سحيري.

فشلت الصفقة ولم يوافق عليها الصليبيون ولكنهم لم يبدوا عداءً للفاطميين، وكانت الصفقة المعروضة إشارة قوية لهم إلى مدى الانقسام والصراع الطاحن بين السلاجقة والفاطميين، فتشجعوا وتركوا الطريق الساحلي الذي يضم مدناً مهمة وانطلقوا من العمق إلى القدس، هدفهم الأهم، من الداخل وتركوا مدن الساحل لما بعد ذلك.

وفي المقابل أسرع الفاطميون في محاولة استرداد المدن التي كانوا قد فقدوها لصالح السلاجقة، مستغلين انشغال السلاجقة بحرب الصليبيين.

من المدن التي استطاع الفاطميون استردادها بالتوازي مع ذهاب وفدهم لمفاوضة الصليبيين، كانت مدينة صور بعد أن كان واليها قد تمرد على المستعلي الفاطمي وذلك عام 491هـ - 1098م. كذلك استرد الفاطميون بيت المقدس من السلاجقة في العام نفسه بعد أن حاصروه لمدة 40 يوماً، بحسب ما يوضح مجير الدين الحنبلي في «الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل».

ازداد توغل الصليبيين إلى الجنوب باتجاه القدس، وهنا شعر الأفضل بالخطر، فأرسل إلى الإمبراطور البيزنطي أليكسوس كومينين معترضاً، فرد كومينين بأنه لا علاقة له بالقوات المتوغلة فعاد الأفضل إلى مراسلة الصليبيين من جديد.

كان الصليبيون قد احتلوا طرابلس (لبنان) وقتها، فأرسل لهم الأفضل من جديد وفداً محملاً بالهدايا والأموال، ودعاهم إلى الحج في القدس، وطلب منهم التوقف عن الزحف باتجاهه، محذراً إياهم من نتائج التوغل نحو بيت المقدس، بحسب ما يحكي وليم الصوري.

إلا أن الصليبيين رفضوا العرض الجديد، وقالوا لرسول الأفضل الجمالي إنهم سيحجون إلى القدس بالفعل ولكن بصفتهم جيشاً فاتحاً، لا بصفتهم ضيوفاً عليه، كما هددوه بغزو مصر نفسها، معقل الخلافة الفاطمية، بحسب سهيل طقوش.

صراع الفاطميين مع السلاجقة مستمر

بعد التهديد الصليبي ورفض الصفقة تحول الموقف الفاطمي، جهز الأفضل جيشاً عام 498هـ 1105م قوامه خمسة آلاف جندي بقيادة ابنه لتعزيز موقفه في الشام، وانطلق الجيش من القاهرة باتجاه الشام، وانضم له عرب من جنوب فلسطين، ولما وصل إلى عسقلان الفاطمية انضم له نائبها جمال الملك رضوان بقواته، حسبما يحكي ابن القلانسي.

ربما كان هذا المدد، والتحصينات الشديدة التي أجراها الفاطميون في عسقلان عاملين مهمين في عدم سقوطها لما يقرب من قرن في يد الصليبيين خلال محاولاتهم المتكررة لاحتلالها، حسبما يحكي ريموند آجيل في كتابه «تاريخ الفرنج غزاة بيت المقدس».

ولكن القدس ظلت بلا حامية قوية كالتي تركها الفاطميون في عسقلان، فاستطاع الصليبيون في يونيو 1099 احتلالها وارتكاب مجزرة بها بعد حصارها لمدة 40 يوماً.

وبعد احتلال القدس وتأسيس مملكة بيت المقدس اللاتينية (الصليبية)، بدأ الصليبيون في مهاجمة المدن الساحلية التي لم تسقط بعد، وعلى رغم ذلك كان التنسيق بين الفاطميين والسلاجقة غائباً إلا على استحياء، بل على العكس كانوا أحياناً يفضلون تسليم المدن للصليبيين على أن يسلموها لأحدهما.

لكن كليهما (السلاجقة والفاطميين) كان يدافع عن المدن التي تحت سلطة كل منهما، نجد ذلك مثلاً في تصدي الفاطميين لحصار بيروت التي كانت تحت سلطتهم، حيث أرسلوا أسطولاً مكوناً من 19 سفينة اشتبك مع الأسطول الصليبي وانتصر عليه ودخل بيروت عام 503هـ - 1110م.

جاء المدد إلى الصليبيين بعد ذلك وكان قوامه 40 سفينة مشحونة بالجنود، فاستطاعوا هزيمة الفاطميين في العام نفسه ودخول بيروت، بحسب دراسة معمر جعيرن «أثر التحالف الفاطمي الصليبي على بلاد الشام ومصر».

لم يحاول الفاطميون الاستعانة بالسلاجقة لدعمهم كي لا تسقط بيروت، ولم يتطوع السلاجقة لذلك، وفي المقابل حين كانت المدن التابعة للسلاجقة تهاجم لم يستعينوا بالفاطميين، وبدا ذلك في حصار طرابلس، إذ لم يفكر والي طرابلس السلجوقي فخر الملك الاستعانة بالفاطميين الذين كانوا يحكمون إمارات قريبة جداً منه، وفضل الاستغاثة بالأمير سقمان الأرتقي والي ماردين (تقع في تركيا حالياً)، على رغم بعد المسافة بينهما، حسبما يذكر ابن القلانسي في «ذيل تاريخ دمشق».

وهرب فخر الملك إلى بغداد لطلب النجدة من سلطانه السلجوقي محمد بن ملكشاه، وعين ابن عمه أبا المناقب محمد بن عبد الله بن عمار نائباً له على طرابلس، وذلك بعد أن طال الوقت ولم يصله أي مدد.

اشتد الحصار الصليبي على طرابلس، فاستعان أعيان المدينة بالفاطميين، بموافقة واليها ابن عمار، ولكن الوالي فخر الملك اعتبر ذلك انقلاباً عليه وعلى السلاجقة، حسبما نفهم من ابن خلدون في تاريخه «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر».

وبالفعل أرسل الأفضل بدر الجمالي قواته إلى طرابلس وعلى رأسها شرف الدولة بن أبي الطيب الذي صار والياً فاطمياً على المدينة.

ولكن شرف الدولة أيضاً لم يفلح في الحفاظ على المدينة التي سقطت في أيدي الصليبيين في 502هـ -1109م، بحسب ما يذكر ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة».

تنسيق اضطراري فاشل بين الفاطميين والسلاجقة

على العكس نجد الأمر نفسه من التشكك في النوايا تجاه السلاجقة، ونجد ذلك واضحاً في حصار الصليبيين لمدينة صيدا التي كانت تحت حكم الفاطميين.

فشل الصليبيون في اقتحام صيدا أكثر من مرة نتيجة استبسال الفاطميين وأهل المدينة أمام الصليبيين، ولكن في المرة الأخيرة استطاع الصليبيون دخولها، نتيجة تأخر وصول قوات الدعم الفاطمية من مصر، ومع ذلك لم يطلبوا المدد من السلاجقة، وفضل واليها تسليم المدينة للصليبيين الذين كانوا يحاصرونها لمدة 47 يوماً، مقابل السماح له ولأهل المدينة بالخروج الآمن منها، وكان ذلك عام 504هـ - 1110م، بحسب وليم الصوري.

سقوط مدينة صور ربما يكشف عن مدى عدم الارتياح في ما بين الطرفين، فقد كانت صور تحت السيادة الفاطمية، وكانت شديدة التحصين، مما جعلها تصمد لفترة طويلة أمام الحصار الصليبي، ولكن مع اشتداد الحصار قرر واليها الفاطمي عز الملك الاستعانة بوالي دمشق ظاهر الدين طغنتكين أتابك التابع للدولة السلجوقية، بحسب ابن القلانسي.

ويوضح ابن القلانسي أن عز الملك الفاطمي أرسل إلى والي دمشق يطلب منه المساعدة، وبالفعل نجح والي دمشق بخطة عسكرية ذكية في دخول المدينة من الطريق البري، وتصادف ذلك مع انسحاب أساطيل الصليبيين من أمام صور لتفضيلهم فتح عكا عليها، بعد 4 أشهر من صمود صور وحاميتها العسكرية.

بعد دخول طغنتكين أتابك إلى صور قرر تعيين والٍ له عليها، أي صارت صور تابعة منذ هذه اللحظة إلى السلاجقة، لا إلى الفاطميين.

في هذا التوقيت قُتِل الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي، الحاكم الفعلي للدولة الفاطمية، وحينها وجد الخليفة الفاطمي الآمر الفرصة سانحة لاسترداد سلطته التي كانت محجَّمة بل غير موجودة تقريباً، فاختار أبا عبد الله البطائحي وزيراً له بعد الأفضل.

حاول الآمر ومعه البطائحي في العمل على التخلص من سيف الدولة مسعود والي صور المعين من قبل ظاهر الدين طغنتكين التابع للسلاجقة؛ ففي عام 516هـ - 1122م أرسل الفاطميون أسطولاً عسكرياً إلى صور 126 لاستردادها، وبالفعل حدث ذلك.

وحينها وجد الصليبيون أن هناك فرصة لدخول صور، بعد أن أنهكت بفعل التطاحن بين الفاطميين والسلاجقة، وبعد تحرك الصليبيين شعر واليها الفاطمي بعدم قدرته على صدهم، فأرسل إلى الآمر يستشيره في رد صور إلى والي دمشق ظغنتكين مرة أخرى، وهو ما حدث بالفعل.

ولكن مع حصار الصليبيين لها لم يستطع الوالي السلجوقي المقاومة وطلب النجدة من الفاطميين فلم يستجيبوا له، بحسب ابن القلانسي.

وربما يكون سبب عدم الاستجابة هو انشغال الفاطميين بصدهم لهجوم آخر للصليبيين على مدينة الإسكندرية، حسبما يشير الدكتور مسفر الغامدي في دراسته «الجهاد الإسلامي ضد الصليبين في عصر الأسرة الزنكية».

وكانت النتيجة أن طغنتكين عرض على الصليبيين تسليم صور لهم، مقابل السماح بخروج أهلها منها في أمان، وانتهى الأمر بالفعل بتسليم المدينة لهم في 518هـ - 1124م.

ظلت جيوب المقاومة الإسلامية ضد الصليبيين مستمرة ولكن بشكل فردي، ولم ينهزم الصليبيون إلا بعد توحد مصر والشام والعراق، بجهود من الدولة الزنكية أولاً، التي استكملها الناصر صلاح الدين واستطاع هزيمة الصليبيين في معركة حطين عام 1187م، لينفتح بعدها الطريق إلى القدس، وتحرير المدن الفلسطينية والشامية عموماً واحدة بعد الأخرى.

البعض يحمل المسؤولية الكبرى في ما حدث للفاطميين، لأنهم تآمروا على السلاجقة في البداية مع الصليبيين، وهو ما حدث بالفعل ولا يمكن إنكاره، ولكن كما رأينا فقد كان السلاجقة أيضاً يعادون الفاطميين ولا يأمنون لهم ولا يفضلون الاستعانة بهم، بفعل العداء القديم معهم.

# تاريخ # فلسطين

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
هدد بقاء الإمبراطورية: التعصب الرياضي في القسطنطينية
من «دقسة» إلى «أرسلان»: رحلة الدروز من محاربة الاستعمار للدفاع عنه

معرفة