فن

بحر خضم ولغز حائر: كيف تشاهد «ساعته وتاريخه»

لعبة فنية ونهاية غير متوقعة أدهشت الجمهور وكشفت أن الأمر أعقد من معرفة القاتل أو الإمساك به، في مسلسل يتحدث عن الجريمة.. كيف لعبها صناع المسلسل؟

future بوستر مسلسل «ساعته وتاريخه»

من ملفات المحاكم المصرية.. عنوان فرعي نلحظه قبل أن نهم بالمشاهدة. وبعبارة من كتاب «الوجيز في علم الإجرام» تُستهلُّ حلقات المسلسل، لتتبعها لقطة صامتة تشي بجريمة كل حلقة، قبل أن يمضي التتر بموسيقى تبعث على التوتر وتوحي بالغموض، مصحوبة بصور رمادية خاطفة لأبواب مغلقة، وآثارِ أقدام، ووجوه مذعورة، وطلقة رصاص!

كلها مفردات تشويقية تنبئ بأجواء بوليسية، لكن المفاجأة أن مسلسل الجريمة المنتظَر لم يسلك الطرق التجارية السهلة التي يسلكها الكثير من صناع هذا النوع، ولم يساير الهوى المحموم للبعض في الاحتفاء بفعل القتل، ورؤية دماء تتدفَّق، وقطع بني آدمين تتطاير.

بل قام صناع «ساعته وتاريخه»، وعلى مدار الحلقات العشر للموسم الأول، بإلزام أنفسهم -لا أقول فقط أخلاقيًا أو مجتمعيًا أو قانونيًا، بل فنيًا- بصياغة عملٍ نفسيٍّ اجتماعي، يعرض من خلال حلقاته قضايا حدثت بالفعل، لكنه لا ينشغل بالجريمة كخبرٍ يسهل تناقله على مواقع التواصل كحادثة أو فضيحة، بقدر انشغاله بما يغلفها من عواملَ صنعتها البيئة والمجتمع والدولة. ويُسجِّل -بتصرّف- ما سبق تلك الجرائم أو تبعها مباشرةً، من لحظاتٍ تتجلَّى فيها سقطاتُنا البشريةُ، وتختلط أوراقُنا، جناة وضحايا وشهود عيان.

بداية غائمة

من خلال منصة «Watch It»، بدأ عرض المسلسل بحلقة «تلصص»، التي تحاكي الجريمة الأشهر في السنوات الأخيرة، جريمة مقتل طالبةٍ أمام جامعتها في وضح النهار على يد زميل يحبها وترفضه. جريمة يعرفها الجميع، وتناقل أخبارها الجميع في حينها بكافة تفاصيلها.

ثم تناولت الحلقة الثانية، بعنوان «ساعة شيطان»، جريمةً أخرى هزت الإسكندرية في نهاية الألفية السابقة. جريمة بدّدت أمن أسرةٍ بسيطة، تشبه أغلب أسر المشاهدين.

وفي الحلقة الثالثة، بعنوان «تفتيش مفاجئ»، جريمة ثالثة مشهورة أيضًا، تُقتل فيها الضحية ببطء أمام ذويها، وأمام المشاهدين.. الكاظمين الغيظ!

لم يكن اختيار هذه الحلقات الثلاث لبدء المسلسل بها اختيارًا موفقًا، من وجهة نظري، رغم جودتها. فالجرائم الثلاث مشهورة إلى حد كبير، كما أن الحلقات بعثت للمشاهد، الواحدة تلو الأخرى، برسالةٍ مفادها العجزُ وقلةُ الحيلةِ أمام جرائمَ تمّت، ودماءٍ جفّت، وضحايا لن يُجدي التعاطفُ معهم أيَّ شيء! مما نحا ببعض المشاهدين الباحثين عن سهرةٍ لطيفةٍ هادئةٍ إلى عدم استكمال المسلسل، أو الترويج لسؤالٍ وجوديٍّ -لا ذنبَ للعمل فيه، يا لمبي- مفاده: ما الجدوى؟!

لكني من الحلقة الأولى انتبهت لجودة أغنتني مؤقتًا عن الجدوى. فداعبت شعور العجز الذي بثته الحلقات الثلاث وأسميت المسلسل في سرّي برنامج «مساء الخير يا جريمة»، عازمًا على استكمال مشاهدته لاكتشاف أسباب جودته، فكافئني العمل بأكثر مما انتظرت.

عمرو سلامة

رغم تقديم عمرو سلامة للعديد من الأفلام والمسلسلات ونجاحه تجاريًا وفنيًا في كثير منها، فإن الجمهور لديه دائمًا تعليق ما على تلك الأعمال. شخصيًا، أشعر أن هناك شيئًا ما مفقودًا، وأرى أن السبب هو إصراره على كتابة معظم أعماله بنفسه. لا شك عندي في امتلاكه طموحًا كبيرًا وأفكارًا جريئة ومختلفة، كما أنه مخرج متمكن من تقنيات تميّز صورته دائمًا، لكن هذه الميزة الأخيرة قد تتحول إلى عيب في بعض الأعمال، حيث قد تُظهر الفلاحين وكأنهم في إعلانات السمن، أو تعتني بتكوين الكادر على حساب تكوين الشخصيات.

بالتأكيد، كل مخرج يستطيع أن يكتب سيناريو، لكن هذا لا يضمن أبدًا أن يكون السيناريو جيدًا. ومع ذلك، فإن لدى عمرو سلامة أعمالًا متقنة، أهمها من وجهة نظري فيلم «لا مؤاخذة»، الذي أعتبره قد حجز مكانه بين أجمل وأجرأ أفلام السينما المصرية.

لكن تجربة ساعته وتاريخه تكشف عن بُعد جديد في إمكانيات عمرو سلامة، حيث استفاد العمل من كتابته للحلقة الأولى بمفرده، والسابعة مع دينا ماهر، وإخراجه لكليهما، إلى جانب رؤيته الفنية الشاملة للمشروع، بمشاركة المخرجين: عمرو موسى، أحمد عادل سلامة، وعادل أحمد يحيى.

منذ الحلقة الأولى، استطاع عمرو سلامة أن يؤسس لطريقة العرض والتناول التي ستُتَّبع طوال حلقات المسلسل، معبرة عن رؤيته ومبلورة أول عناصر الجودة التي تميّزه. فعلى المستوى الزمني، تدور جميع حلقات المسلسل في يوم الكشف عن الجريمة، الذي قد يكون هو ذاته يوم ارتكابها. أما على المستوى المكاني، فتدور كل حلقة في موقع واحد (One Location)، هو غالبًا مسرح الجريمة.

يوم واحد، وموقع واحد، ولحظة فارقة ينتظرها المشاهد بقلب مضطرب، تتلاعب به موسيقى خالد الكمار. إطارٌ تم تحديده وضبطه بعناية ليُكثِّف المشاهد، ويضيّق الخناق على الأبطال والأحداث والجمهور، مهيئًا جوّ العمل على أكمل وجه، تمهيدًا لحوارٍ يحمل عبء النبضات الدرامية «Beats»صعودًا وهبوطا.

كاستينج

اعتمد «ساعته وتاريخه» بالأساس على وجوه جديدة، كانت نتاجًا لبرنامج اكتشاف المواهب «كاستينج»، الذي أداره المخرج عمرو سلامة وقدّمه مع عدد من المدربين المحترفين برعاية الشركة المتحدة. ليكون البرنامج ومواهبه إسهامًا جديدًا من سلامة في تشجيع الموهوبين في المجال الفني وتدريبهم، مثلما فعل من قبل في تعليم مبادئ الإخراج والسيناريو من خلال ورشة «الأفلامجية» التي أتاحها على يوتيوب، وكذلك طرحه لكل سيناريوهات أعماله بشكل مجاني تمامًا.

على مدار حلقات المسلسل، استطاعت الوجوه المشاركة من «كاستينج» أن تقدم أداءً احترافيًا، وتثبت استحقاقها لبطولة العمل، وأن تضفي على الأحداث ما هو أهم فنيًا، حين أكسبتها المزيد من المصداقية بملامح شديدة العادية، لم تكتس بعد بصبغات، أو تنتفخ بحقن تُقيّد التعبير وتخنقه.

من هذه الوجوه، برزت مريم نشأت بأداء ذكي وخفة ظل يبشران بالكثير، وياسر الوكيل بحضور هادئ لنجم متمرس. كما برز إسلام خالد، الأكثر مشاركة خلال حلقات الموسم الأول، والذي ذكّرتني ملامحه ببدايات أحمد زكي. وقد نجح إسلام في أن يتلون ويتشكل متطابقًا مع الأدوار المختلفة التي لعبها، حتى احترت في توصيفه الجسدي؛ فقد بدا في أول حلقة عملاقًا صموتًا كـموتٍ محقق، وفي الحلقة السادسة «مربوع القوام» بما يليق ببلطجي، وفي الثامنة «قصير القامة»، ضامرًا كنشّال مستعدٍ للجري في أي لحظة!

ضيوف الشرف

إلى جانب الوجوه الشابّة، استضاف المسلسل عددًا من النجوم، لم يكن مرورهم عابرًا أو دعائيًا، بل تم تسكينهم في أدوار تختلف كثيرًا عن أدوارهم المعتادة. فـأحمد أمين صنايعي مطحون يعول طفليه، ومحمد شاهين دكتور سادي يستدرج فتيات الليل، وهبة مجدي سيدة ريفية ثرثارة هجرها زوجها، وسليمان عيد في دور لا يشبه سليمان عيد أبدًا.

تماسّت هذه الاختيارات الغريبة للنجوم المشهورين مع الاختيارات المتقنة للوجوه المجهولة، مما أضفى شعورًا بالتوجس والدهشة وعدم الارتياح في لا وعي المشاهد، فتَناغَم ذلك مع جو المسلسل، وخدم مادته إلى حد بعيد.

محمود عزت

برؤية قانونية للمستشار بهاء المري، وبجهد بحثي لكل من آسر أحمد، وأحمد سمير، توافرت في البداية لدى صناع العمل مادة خام من قضايا واقعية مثيرة تنتظر من يرويها. وهنا جاء دور محمود عزت وفريقه.

حصل محمود عزت كشاعر على عدد من الجوائز، وقدم كسيناريست عدة أعمال سينمائية وتليفزيونية ناجحة، أشهرها فيلم «أبو صدام» مع نادين خان، ومسلسلا «الصفارة» و«ما وراء الطبيعة»، مع ورش كتابة أدارها أو شارك في نجاحها. لكن «ساعته وتاريخه» أتاح لـعزت ملعبًا مفتوحًا للإبداع، استغله باقتدار.

فإلى جانب صياغته لمعالجة وسيناريو المسلسل، كتب محمود عزت ثلاث حلقات بمفرده. كانت أولها الحلقة الرابعة بعنوان «فنان دكتور»، التي أبدع فيها محمد شاهين -كعادته- لتكون عنوانًا ودرسًا للـ«plot twist»، لا في محتواها فقط، ولكن للتحول الذي صنعته للمسلسل ككل، مؤكدةً جودته وقدرة صُنّاعه على إدهاش الجمهور.

وفي رأيي، أن الحلقة الرابعة تنافس الحلقة الثامنة -من كتابة دينا ماهر بعنوان «بلوك»، وبإبداع حنان سليمان- في حال اختياري لأجمل حلقات المسلسل، وكِلتا الحَلقتين من إخراج أحمد عادل سلامة.

كما كتب عزت الحلقة الخامسة -بعنوان «راجل العيلة»- التي لعب بطولتها النجم خالد كمال ومعه نجمة «كاستينج» أمنية باهي، وأيضًا من إخراج أحمد عادل سلامة، والتي أعتبرها الحلقة الأهم خلال الموسم. حيث تُلخص وتوجز أهم وأخطر ما يشير إليه العمل: الجهل وضيق الحال قد يصلان برب الأسرة إلى التضحية بأحد أبنائه لإطعام الباقين، ومن تسوقه الحاجة إلى التنازل عن دمه، لن يلتفت بالتأكيد إلى تاريخ أو وطن.

كتب أيضًا الحلقة التاسعة -بعنوان ضبط وإحضار- من إخراج عادل أحمد يحيى، والتي مارس فيها لعبة الحبكة على الطريقة المميزة للعمل. تلك اللعبة التي يؤديها صُنّاع المسلسل بتكنيك خاص، وكأنها ضربة حرة جرى التدرب عليها كثيرًا قبل المباراة.

لعبة أتقنها بمهارة محمود عزت، وكل كتاب حلقات الموسم الأول شديدي الموهبة: «دينا ماهر، عمرو سلامة، سيف قنصوه، ريم نهاد أمين».

لعبة الحبكة

تحرص مسلسلات الجريمة عادةً على نهاية غير متوقعة تفغر لها أفواه جمهورها، الذي ينتظر بشغف معرفة القاتل. وقد يتمادى البعض -وإلى أبعد حد- في صنع مفاجأته، أملًا في تحقيق أقصى درجات الإدهاش لجمهوره، متجاهلًا منطقية النهاية أو الهدف منها، «المهم البلوت تويست وياكش نجيب قاتل من مسلسل تاني».

لكن محمود عزت ورفاقه حرصوا في كل حلقة على لعبة أخرى مع جمهورهم، لعبة رغم تكرارها، يصعب في كل مرة توقعها أو الإمساك باللحظة التي تبدأ فيها. لعبة تراوغ انطباعاتنا الأولى، وتورّطنا داخل الحدث، لتفضح تسرّعنا، وتحرج أحكامنا المسبقة.

لعبة نتأرجح فيها بين اليقين والشك، الرفض والتعاطف، بين جَانٍ وضحية يتبادلان دوريهما، وجريمة تزيح الستار عن جريمة أقبح، لنكتشف بأعيننا في كل مرة أن الأمر أكبر وأعقد من معرفة القاتل أو الإمساك به. وندرك بقلوبنا وعقولنا أن الجناة والضحايا ليسوا من عالم آخر، بل يشبهوننا إلى حد يصعق أحكامنا، ويهذب مشاعرنا وأفكارنا.

لعبة فنية هي أذكى وأرقى ما في العمل، لعبة ندرك في نهايتها ألا نتعجل، فالمظاهر خادعة، والانطباعات هشّة، والنفس البشرية، كما تقول مقدمة كل حلقة: بحرٌ خضمٌّ ولغزٌ حائر، ولن يتأتى لباحثٍ أن يسبر أغوارها طالما أن هذا الباحث بشر.

# فن # مسلسل ساعته وتاريخه # دراما # دراما مصرية # مسلسلات مصرية # منحة أبو الغيط للكتاب 2025

هل نستطيع محاربة الفاشية بالانتخابات؟ نظرة على صعود اليمين المتطرف في انتخابات 2024
رامبو: البحث عن منفذ لخروج الجميع
شِعرُ المآسي: لسنا محتوى لعين لتشاهدوه

فن