معرفة

بالجدري والسالمونيلا: كيف قضى الإسبان على حضارة الأزتيك؟

انهيارحضارة الأزتيك التي دامت قرابة القرنين في عامين فقط! .. كيف ساهم سلاح الإسبان السري في القضاء عليها؟

future صورة تعبيرية: حضارة الأزتيك

يقول ويل ديورانت في  كتابه «قصة الفلسفة»، إن الحضارة العظيمة لا يمكن غزوها من الخارج حتى تدمر نفسها من الداخل. تأتي هذه المقولة مؤيدة بشواهد تاريخية متكررة، قد يجادل البعض بأن انهيار حضارة الأزتيك ليس منها، لكن الحقيقة أنها كذلك.

النهاية السريعة لتلك الحضارة التي بدأت -على الأرجح- من قبيلة بدوية في شمال المكسيك تعد من أكبر الألغاز التي تواجه الباحثين في تاريخهم كما ورد في كتاب «عصر الأزتيك أمة الشمس والأرض» لديفيد كاراسكو وسكوت سيشونز.

إن هزيمة شعب الأزتيك على يد القوة الإسبانية -بقيادة هيرنان كورتيس- التي اشتملت على 500 جندي، و100 بحار، و11 سفينة لم تكن بالأمر الهين كما قد يخيل إلى البعض، أقله احتاجت ما هو أكبر من الجانب العسكري، فالإمبراطورية الأزتيكية كانت تنعم بأزهى عصورها تحت قيادة مونتيزوما الثاني في ذلك الوقت، ناهيك أن انهيارها لم يستغرق سوى سنتين وهي التي دامت قرابة القرنين قبل قدوم الإسبان.

علاوة على الغزو الإسباني، تخبرنا الدراسات أن سبب انهيار حضارة الأزتيك واندثار شعبها يرجع إلى الأمراض والأوبئة التي كانت منتشرة أثناء وبعد مرحلة الغزو.. نحن نتحدث عن الجدري والسالمونيلا تحديداً اللذين غيبا الملايين.

أزتيك ما قبل كورتيس

قبل أن يهاجروا إلى وادي المكسيك استقر شعب الأزتيك في أزتلان- Aztlan موطنهم الأسطوري الذي اشتقت منه لفظة أزتيك- Aztec. بحسب الميثولوجيا الأزتيكية، فإن تحرك تلك القبائل ذات الأصل البدوي من شمال المكسيك نجم عن إرشاد إلاههم للشمس والحرب ويتزيلوبوتشتلي- Huitzilopochtli الذي وجههم للبحث عن موطن جديد يرون فيه نسراً جالساً على صبار ويلتهم ثعباناً.

خلال رحلتهم التي ستؤول بهم في النهاية إلى وادي المكسيك، أعجب الأزتيك بإرث حضارة التولتيك وتأثروا بثقافتهم على المستوى الديني، والهندسي والسياسي واقتدوا بها في بناء دولتهم الجديدة.

بحلول أوائل القرن الـ13 وصل الأزتيك إلى وادي المكسيك إذ رأوا مشهد النسر والثعبان عند بحيرة تيكسكوكو وشيدوا مدينة تينوتشتيتلان التي أصبحت عاصمة لهم. تصميم العاصمة أبان عن فهم هندسي عميق ومتقدم، إذ أنشؤوا جزراً اصطناعية سمحت لهم بزيادة مساحة المنطقة كما بنوا طرقاً ربطت بين الجزر والبر الرئيسي وفي نفس الوقت فصلت المياه العذبة عن المالحة.

تينوتشتيتلان كانت عبارة عن أربعة قطاعات متماثلة تنتصفها منطقة مركزية تضم الهياكل والرموز الدينية والسياسية المهمة، وعلى رأسها إله الشمس والحرب ويتزيلوبوتشتلي الذي كان يحظى بأهمية خاصة.

تقديس الأزتيك لآلهتهم كان مبالغاً به لدرجة قاتلة، إذ كانوا يعتقدون أن الآلهة ضحوا بأنفسهم لخلق هذا العالم، وبالتبعية آمنوا بضرورة رد هذا الجميل على هيئة قرابين بشرية. في سنة واحدة فقط وتحت إشراف من الدولة، تمت التضحية بما يراوح بين 20 و80 ألف شخص على هامش اكتمال بناء معبد مقدس سموه المعبد الكبير- Templo Mayor، وهذه أرقام مرعبة تعكس مدى أهمية الثقافة الدينية لديهم.

 إضافة إلى التفوق الهندسي والاهتمام بالجانب الديني، كان لمجتمع الأزتيك هيكل اقتصادي واجتماعي متماسك؛ من صوره مثلاً أن عدد الأشخاص في بعض الأسواق كان يصل إلى 50 ألف شخص والتجار كانوا يرسَلون في تنظيمات حتى أمريكا الوسطى حتى يمارسوا أنشطتهم. النظام الاجتماعي كان مبنياً على الطبقية والتقسيم الصارم الذي يجسده هرم يعتلي قمته الملوك والنبلاء، ثم الكهنة والمحاربين، ثم التجار والمزارعين. صحيح أنه كانت هناك مساحات للانتقال بين الطبقات، غير أنها كانت محدودة للغاية.

بحلول القرن الـ16 ، أصبحت العاصمة تينوتشتيتلان أكبر مدينة في الأمريكتين قبل صولات كولومبوس التي جعلت تلك مطمعاً للغزاة، الإسبان تحديداً.

الغزو الإسباني للأزتك

في الفصل الثامن من كتاب «عصر الأزتيك» يستند الكاتبان إلى الرواية الأزتيكية ووثيقتين إسبانيتين حول ما حدث لتلك الحضارة على يد الإسبان بقيادة هيرنان كورتيس؛ قبل 10 أعوام تقريباً من وصول الإسبان، أي في عام 1509، حدثت سلسلة من الكوارث أبرزها حريق هائل شب من تلقاء نفسه ودمر معبد الإله ويتزيلوبوتشتلي. عد الأزتيك تلك الكوارث نذير شؤم، ولكنهم تصرفوا إزاءها بشكل خطأ حيث استقبل قائدهم مونتيزوما الثاني القائد الإسباني هيرنان كورتيس بالهدايا ظناً أنه إله أو مخلص ليفاجأ سريعاً بنوايا الأخير.

كورتيس كان ضيفاً ثقيلاً جداً على شبه جزيرة يوكاتان عندما حل عليها -في عام 1519- بجيشه المكون من 600 جندي تقريباً والمجهز بأقوى الأسلحة المتقدمة وقتها مثل البنادق والأقواس والمدافع، التي لم تكن معروفة للأزتيك الذين هزموا رغم أنهم كانوا الأكثر عدداً.

القصة المعروفة أن الإسبان استغلوا تقدمهم العسكري، وتحالفوا مع الشعوب الأصلية التي كانت تكن للأزتيك كل العداء، ثم تمكنوا من الزحف حتى وصلوا إلى العاصمة وأسروا القائد مونتيزوما الذي توفي لاحقاً في الأسر.

لا شك أن الأمور لم تسر بهذه السلاسة حتى إن الإسبان كانوا على وشك الهزيمة عندما حاصرهم الأزتيك ومنعوا عنهم الماء والغذاء، غير أن كورتيس تمكن من لملمة شتاته وأعاد تجميع صفوفه واستطاع في عام 1521 أن يقلب الطاولة محاصراً هو العاصمة لمدة 93 يوماً ليذيق شعبها من نفس الكأس ويتمكن من ضم الإمبراطورية التي استمرت قرابة القرنين لإسبانيا الجديدة.

سلاح الإسبان السري

على الرغم من الصعوبات التي واجهت كورتيس أثناء محاولاته لغزو الأزتيك، فإنه تمكن في النهاية من هزيمة مدينة تعج بـ200 ألف شخص على الأقل، وهذا ليس منطقياً بالنسبة لجيش لم يتجاوز قوامه الألف فرد حتى وإن امتلك أسلحة عسكرية متطورة.

ولكن، تصبح الأمور أكثر عقلانية عندما نعرف أن كورتيس حظي بمساعدة سلاح من نوع خاص؛ سلاح لا يمكن أن يقهره سوى الجهاز المناعي لجسم الإنسان، هذا السلاح هو مرض الحصبة، والتقديرات تشير إلى أنه قلص تعداد العاصمة تينوتشتيتلان بنسبة 40% في عام واحد (1520).

والجدري مرض قاتل وشديد العدوى يسببه فيروس الفاريولا- Variola. أعراضه تتضمن حمى شديدة وإعياء وآلاماً في الرأس والجسم وطفحاً جلدياً مميزاً يتطور إلى بثور مليئة بالصديد. وجد هذا الفيروس اللعين في كثير من الثقافات والحضارات القديمة كمصر والصين والهند، ويعتقد أنه قتل نحو 300 مليون شخص في القرن الـ20 وحده.

لم تكن حضارة الأزتيك قد ابتليت بالجدري من قبل أو على الأقل لم تكتسب مناعة القطيع، وبالتالي لم تكن مناعتهم محصنة ضده حتى جاءهم الغزو الإسباني.

قال راهب فرنسيسكاني لازم كورتيس: «إن السكان الأصليين لم يعرفوا علاجاً للمرض فماتوا أكواماً لدرجة أنه كان من المستحيل دفن العدد الكبير من الموتى فهدمَت المنازل وهم فيها حتى تكون بيوتهم قبورهم».

ولقد أثر الجدري على شعب الأزتيك بعدة طرق أهمها أنه قتل عديداً من المصابين على الفور، لا سيما الرضع والأطفال، أما البالغون فقد أصيب كثير منهم بالعجز التام، إما لأنهم كانوا مرضى بالفعل أو لأسباب أخرى أفقدتهم الرغبة في مقاومة الإسبان، ناهيك أن إعياءهم جعلهم غير قادرين على الاعتناء بالمحاصيل ونظراً لأنهم كانوا مجتمعاً زراعياً بالأساس، انتشرت المجاعة ومات عدد كبير للغاية.

السالمونيلا تكمل رحلة الجدري

انهارت الحضارة الأزتيكية بسقوط العاصمة تينوتشتيتلان في عام 1521، إلا أن شعب الأزتيك نفسه كان لا يزال موجوداً وبأعداد كبيرة، ولكن في الفترة ما بين 1945 و1550، انتشر مرض آخر، وهذه المرة وباء أعنف يعتقد أنه أودى بـ80% من شعب الأزتيك، أي بين 7 و18 مليون شخص آنذاك.

بحسب دراسة نشرت في دورية Nature Ecology & Evolution، فإن الوباء الذي نتحدث عنه نتج عن مرض السالمونيلا، الذي إذا أصاب أحدنا اليوم نتيجة لتناول اللحوم أو الدواجن غير المطهية جيداً، فعلى الأغلب أنه لن يميتنا؛ ربما نعاني بعض الشيء من تقلصات في المعدة والقيء والحمى وغيرها من الأعراض، إلا أننا -غالباً- سنكمل حياتنا لأن السالمونيلا لم تعد من الأمراض المهددة للحياة.

ومع ذلك، يمكن أن تتسبب بعض سلالات هذا المرض البكتيري بأعراض خطرة تؤدي إلى الموت مباشرة. إحدى هذه السلالات هي الحمى التيْفيَة- Paratyphi C التي يمكنها أن تقتل ما بين 10 و15% من الأشخاص الذين تصيبهم.

وفقاً للبحث المشار إليه فإن هذه السلالة -النادرة جداً الآن- هي التي أصابت شعب الأزتيك في القرن الـ16 وأدت إلى اندثاره. السكان المحليون وصفوا هذه السلالة من السالمونيلا بالـCocoliztli، التي تعني الوباء بلغة الناواتل، وهي لغة شعب الأزتيك.

ومثلما جلب المستعمر الأوربي الجدري إلى شعب الأزتيك وقضى على ما قضى منهم، فإن السيناريو المرجح أن المستوطنين الأوربيين هم من أدخلوا سلالة السالمونيلا النادرة أيضاً إلى المكسيك عن طريق الحيوانات الحاملة للمرض.

# تاريخ # حضارة

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
هدد بقاء الإمبراطورية: التعصب الرياضي في القسطنطينية
من «دقسة» إلى «أرسلان»: رحلة الدروز من محاربة الاستعمار للدفاع عنه

معرفة