«النوستالجيا في جوهرها هي إنكار للحاضر المؤلم… الفكرة الخطأ أن فترة زمنية مختلفة أفضل من تلك التي يعيشها المرء، إنه خلل في الخيال الرومانسي لهؤلاء الأشخاص الذين يجدون صعوبة في التعامل مع الحاضر».
— Midnight In Paris
في عام 2011 قدم وودي آلان تحفته السينمائية «midnight in paris» التي تدور حول «جيل» الكاتب الناجح تجارياً في هوليوود، لكنه مشدود لحنين جارف نحو كتابة الأدب الحقيقي، الذي يعد أن جنة حضوره كانت في عشرينيات القرن الماضي عندما عاش هيمنجواي وفيتزجرالد وجيرترود شتاين في زمن واحد.
يمنح وودي آلان حبكته دفعة فانتازية عندما يصنع عربة خيالية تجوب شوارع باريس في منتصف الليل وتذهب بجيل مثل آلة زمنية إلى الحقبة التي تمناها، حيث يغرق في محاورات مع الأدباء والفنانين الذين أحبهم، يستعرض أمامهم روايته ويتلقى ملاحظاتهم، والأهم أنه يقع في حب «أدريانا» الباريسية التي تنتمي للحقبة ذاتها.
مشهد من فيلم «Midnight In Paris»
لا تتوج قصة الحب بنهاية سعيدة، بينما افتتن جيل بالعشرينيات، وجد حبيبته أدريانا تكره هذا الزمن وتتمنى العودة للقرن الذي سبقها، أدرك جيل أن ما يحياه باعتباره الماضي الذهبي، تحياه أدريانا باعتباره لحظتها الراهنة، وهو ما قاده لحقيقة النوستالجيا، باعتبارها حنيناً مرضياً لا نهائياً لما سبق، حنين لا يبرأ بالعودة إلى زمن بعينه، كل إنسان يكره لحظته الحاضرة ويحاكمها إلى ماض ذهبي، يلمع بريقه بلا مساءلة لأننا ببساطة لا يمكننا العودة له واختبار مآسيه.
بتجريد سينما وودي آلان من أسئلة الزمن والفلسفة، لن تتبقى لنا سوى مثلثات حب نمطية تزخر بها أفلامه مثل هذا الفيلم وhannah and her sisters و vicky christina barcelona. تشابكات رومانسية لا تخلق وحدها زخماً كافياً لخلق فيلم جيد.
يستعير وودي آلان إخفاق العلاقات العاطفية، والتشابك دوماً بين حبيب موجود وحبيب نتمناه، للتعبير بحيوية عن مفاهيمه المجردة، يصعب أن تتعلق ببطل يبحث عن مفهوم فلسفي مثل الزمن المفقود على طريقة بروست أو الحب المثالي على طريقة أفلاطون، لكن يمكننا تتبع الفكرة ذاتها بحماس لو كان الزمن المفقود، حسناء باريسية في حانة قديمة أو حبيبة مراوغة مثل آني هول التي أسرها البطل في سينما وودي آلان بداخل مسرحية صنعها لعلاقتهم التي انتهت في الحقيقة، فكان الفن قالباً مثالياً حفظ لحكاية تسربت بخفة من قبضة الواقع.
يمكن النظر إلى فيلم «الهوى سلطان» عبر العدسة ذاتها، لا يحمل الفيلم بالطبع التعقيد الفلسفي لأفلام وودي آلان، ولا يقدم ذاته بوعود أكبر من كونه feel good movie، ولكن للوهلة الأولى لو نظرنا للفيلم في نمطية علاقات أبطاله التي ظهرت في العرض التشويقي، يمكننا بسهولة حبس الفيلم في تصنيفات يسيرة مثل Love Triangle Movies وهي الأفلام التي تدور حول حبيبين ينتميان لبعضهما لكن كلاً منهما أسير شريك ثالث، ويمكن إحالة الفيلم لثيمة شهيرة في جونرة romantic comedies وهي الصديقان اللذان ينحدران ببطء من رابطة الصداقة للحب وهو ما يمكن تتبعه في أيقونات هوليوودية مثل When Harry Met Sally وJust Friends وصولاً إلى سلسلة friends الشهيرة التي تؤطر الفكرة ذاتها كجوهر العمل برمته.
تشابهات جعلت العمل منذ نزوله عرضة لادعاءات حول سرقته من مصدر آخر، وهو ما لا يسع المقال فحصه إنما الإشارة إليه بعده يعبر بذكاء عن نمطية الفكرة وكونها شديدة التكرار حد عدها ثيمة يصعب معها ألا نجد أشباهاً لها في ما تم صنعه أو ما لم يتم صنعه من سيناريوهات.
لكن ما يجعل الفيلم أكثر أهمية هو كون العلاقة العاطفية الأساسية فيه مثل أفلام وودي آلان هي مجاز عن فلسفة أبعد وتحديداً موقف أبطاله من الزمن. وهو ما يحتاج تفحصاً أكثر دقة لعلاقة علي وسارة أبطال الحكاية.
تحمل علاقة سارة وعلي ثقل الزمن ذاته، فهما أصدقاء منذ الطفولة كامتداد لصداقة أسرتيهما، وهو ما يجعل كلاً منهما ثابتاً مركزياً في حياة الآخر، في صيرورة عادية تتجه من الطفولة للبلوغ وصولاً للشباب.
لا تلبث تلك الصيرورة أن ترتبك عندما تفقد سارة أمها في فترة زمنية خاطفة لا تجاوز الشهرين، وقبل نهاية عام الفقد، يتزوج أبوها من امرأة حضرت عزاء والدتها بوساطة عائلية ليراها بديلاً عاجلاً عن زوجته المتوفاة.
لا ندرك تحديداً كم مر من الزمن على فقد سارة أمها، وذلك لأننا نتابع الحكاية عبر روتين سارة التي لا تحمل حياتها أي دلالات للتغيير، فهي موظفة حكومية تنهي دوامها كل يوم للحصول على حمام ساخن في منزلها البسيط، يليه متابعة التلفاز حتى النوم، تعبر حياة البطلة الرتيبة عن رغبة قصدية في تجميد الزمن برمته، كحيلة دفاعية أو مقاومة أخيرة ضد تقبل أن حياتها انقلبت رأساً على عقب في برهة خاطفة. لم تعد تقوى معها على مواكبة إيقاع حياتها بإيقاع الزمن العادي.
لا يلبث التجميد القسري للحظة الراهنة أن يتحول في حالة سارة إلى نكوص كامل نحو النوستالجيا أو الماضي، والغرق في متابعة المسلسلات والأفلام القديمة مثل «قصة الأمس» و«ليلة بكى فيها القمر» وأغاني جورج وسوف.
تبدو النوستالجيا في حالة سارة، وبتعبير وودي آلان إنكار متعمد للحاضر المؤلم، وتخليق عصر ذهبي في الخيال، لم تكن فيه الفنون أفضل أو المسلسلات أجمل، إنما كانت أمها موجودة، وأبوها لم يرحل بعد.
يترجم هذا النكوص ذاته بصرياً في كادرات شقة سارة التي يحوطها الظلام دوماً ليخفي الوحدة التي تحياها في مساحة شاسعة، وحدة ربما تؤكد بظهورها في الكادر أن كل شيء تغير وأن الزمن لا يتجمد أبداً لإنسان.
مشهد من فيلم «الهوى سلطان»
لا ينبض النور بالكادر إلا في المطبخ الذي تعد فيه وجباتها ربما لأن ضيقه لا يترك مساحة واحتمالات لحضور شريك أو افتقاده، والبلكونة أو النافذة التي تطل منها بأمان على عالم لا ترغب في التورط فيه بأي حضور.
منى شلبي وأحمد داوود في مشهد من فيلم «الهوى سلطان»
لا تخفي سارة ذلك الموقف النفسي من العالم إنما تعبر عنه في تلخيص طموحاتها بحمام دافئ ونوم سعيد ووظيفة آمنة ومسلسل تحبه، ورفض رهابي لفكرة التطلع بتخطيط وأهداف لما هو أبعد من ذلك.
يحمل علي موقفاً عكسياً تجاه الزمن، لا يرغب في تجميده أو النكوص عنه للخلف، إنما يواكب وتيرة زمنه حد اللهاث، فهو يراه مثل مسار عداءين الوثب العالي، لا بد من عبور مراحله بركضه ولا بأس من القفز بقوة فوق حواجزه، قبل أن يمر الزمن عبره ويسحقه ثم يدفعه نحو ركب المتأخرين للأبد
يعبر علي عن مأزقه بجملة: «معدتش أي مرحلة»
لم يصل لوظيفة مثالية، ولم يجد هواية مثالية، لذلك كل ما يملكه هو الاستعداد للحظة مثالية قادمة، مثل شراء شقة وتجهيزها لأجل عروسة من المستقبل لم يجدها بعد.
يتسرب هذا التضاد في علاقة سارة وعلي وعلاقتهما بالزمن إلى طباعهما ذاتها، إذ تبرز سارة ثقة لا تخجل معها من تفضيل الراحة على المظهر الجيد، والصدق العفوي على الأنوثة المتظاهرة، وهي في جوهرها ليست ثقة صحية بقدر ما هي استغناء زاهد عن آراء الآخرين، لا يمكنك الاهتمام بآراء العالم، ما لم تكن مستعداً للتورط في هذا العالم بحضور، وسارة تزهد في أي رابطة مع العالم أو عين تراها بقدح أو ثناء.
بينما يحمل علي خوفاً طفولياً من الظهور بمظهر الأحمق، لذلك يهتم بمظهره ويحاول دوماً الاندماج في كل وسط لا يشبهه حتى لو بشكل مكذوب لكيلا تفوته لحظة مثالية قادمة لأنه لم يكن أهلاً لاعتناقها.
منى شلبي وأحمد داوود في فيلم «الهوى سلطان»
تبدو الصداقة عاثرة بين طرف يقيم في لحظة بعينها من الماضي ويجمد زمنه برمته عن الخطو خارجها، وطرف يلهث نحو مستقبل يخشى أن يفوته.
بينما تصل الصداقة إلى وضع عاثر، يبدو الحب بجوارها كاحتمال أكثر استحالة، لأنه يستدعي من سارة الحركة خطوة للأمام، نحو تحويل علاقة ثابتة مثل مرساة على مدار مراحل حياتها العاصفة إلى ما هو أبعد، والمغامرة بفقدها حال قوبلت مشاعرها بالرفض. ولامرأة صاغ الفقد حياتها وموقفها من العالم، تكتفي بنظرة تحمل مشاعرها الحقيقية لصديق طفولتها دون بوح خوفاً من فقد آخر علاقة مستقرة بعالمها، أما الحب بالنسبة لعلي تجاه صديقة الطفولة والصبا، فيبدو خديعة لموقفه من العالم، فالارتباط برفيقة طفولته لا يعدو أن يكون نكوصاً يائساً للماضي، لا انسلاخاً منه نحو مرحلة جديدة. خيار آمن يمكن رصه بخزي جوار إخفاقاته المهنية والجمالية التي تركها لأجل خيارات آمنة لا تختبر قدراته.
تظهر مثلثات الحب في تلك اللحظة العاثرة على طريقة وودي آلان لدفع الحبكة للأمام، وفك جمود بطلان يقفان أمام شريطي قطار، تجمعهما محطة مشتركة، ووجهات معاكسة، في رحلة ربان قيادتها هو الزمن.
تمثل الشخصيات المساعدة نقطة ضعف قوية في «الهوى سلطان» لأن إخلاص صانعة العمل هبة يسري من ناحية لمركزية البطلين سارة وعلي وعلاقتهما التي تقود السرد، والتي استدعت إفراد مساحة كبرى من الثلث الأول للفيلم لتبيان بساطة وحميمية تلك العلاقة دون تحديد أفق للحبكة. دفع كل الشخصيات المساعدة بعنف إلى الهامش.
تحضر الشخصيات المساعدة والثانوية لدفع الحبكة إلى الأمام، وهو ما حدث عندما اختار علي الارتباط بفتاة جديدة لتدرك سارة أن الفقد لا يحدث فقط لو قامت بالبوح والتعبير عن حبها، إنما قد يحدث لأن الزمن يمكن أن يتجمد في رؤوسنا ومسارنا الخاص، لكنه لا يتوقف في المسارات الأخرى.
أحمد داوود في مشهد من فيلم «الهوى سلطان»
يختار علي الارتباط بفتاة لا تشبهه، ليدرك أخيراً أن المعنى لا يكمن دوماً في الحركة للأمام، وأن الماضي يمكن أن يسجن أصحابه، ولكن المألوفية والحميمية هي التي تصنع البصمة المتفردة لأصحابها في نسيج من مئات التفاصيل الصغيرة التي تصنع باجتماعها هويتنا، حتى لو كانت حب مطرب مفضل أو سذاجة محببة في اختيار الثياب وتفضيل نزهة سيارة بلا وجهة محددة على عطلة مخطط لها بعناية، تشكل تلك الأشياء البسيطة فرادة مجتمعة لا يعد التمسك بها نكوصاً نحو الماضي. وهو ما لم يجده علي في علاقته الجديدة.
بينما تختار سارة الارتباط بالطبيب رامي الذي يحمل لمحة من التشابه مع علي وهو كونه صديقاً من الطفولة، ولكنه بخلاف ذلك نقيض صديقها السابق في كل شيء، ورغم امتلاكه إجابات مؤكدة عن مستقبله وخطط حياته حتى نهايتها، يؤطر حضوره ما تفتقده سارة، وهو صديق يتقبل هشاشتها ولا يفرض عليها بصرامة مخطط زمنه الخاص
منة شلبي وأحمد خالد صالح في مشهد من الفيلم
رغم التناقض الذكي الذي يؤطره رامي وليلى بحضورهما والذي يثمن ما ظن البطلان سارة وعلي أنه عادي وبديهي ولا يمكن خسارته في علاقتهما فإن الفيلم لم يسمح رغم طوله الزمني، بظهور الشركاء الفرعيين مثل رامي وليلى، في تعقيدهم الإنساني الكامل، إنما يحتاج رامي في نهاية الحبكة للتعبير عن ذاته ورؤيته لسارة في صورة خطاب وسرد مباشر، بينما تعبر ليلى عن رؤيتها لعلي في مصارحة مباشرة. في الثلث الأخير من حكاية تلملم أوراقها سريعاً إخلاصاً للنهاية السعيدة لأبطالها الرئيسيين.
يحمل الهوى سلطان، عناصر نجاح لا تعتمد للمفارقة على قوة السيناريو أو براعة إدارته، وهو ما يظهر عواره في نقاط كثيرة، بدءاً من تصميم الشخصيات المساعدة، وصولاً إلى شخصيات ثانوية مثل شلة البطلين التي تم بتر حضورها بشكل فج، رغم التأسيس لهذا الحضور باعتباره مشهد البداية. وكذلك طول الفيلم الذي كان يمكن اختصاره لما هو أقصر دون المساس بجوهر الحكاية.
ولكن يعتمد الهوى سلطان على رهان بالأوراق الكاملة على الأشياء العادية، التي اختفت بالتدريج من جونرة الأفلام الرومانسية، وهي أن الرومانسية في جوهرها علاقة متوترة بشعريتها بين طرفين. وليست بطلاً ذكورياً يقاتل لنيل فتاته المغلوبة على أمرها. على طريقة أفلام تامر حسني الغنائية وأفلام الرومانتيك كوميدي في العقد الأخير التي لا تكتمل رومانسيتها إلا بتهميش الحضور الأنثوي لتصير البطلة جائزة trophy. لمسيرة ذكورية مشوشة بين البطولة في إزاحة المنافسين والشك والتضحية من البطل لأجل حبيبته.
يعود الهوى سلطان إلى قوانين الجونرة التي ينتمي لها، وهي رومانسية مفعمة بالكوميديا، لا تتولد إلا عن بطلان في علاقة أكثر تركيباً مما يظنون. لذلك تفرد هبة يسري مساحة كبيرة لمواقف طويلة لا تسهم في كشف كثير على مستوى الحبكة إنما تسهم في دعوة المتلقي لعالم عاطفي دافئ بطله شخصان وحسب، عالم يؤسس على مهل ويستعرض ديناميكيته في أحوال شتى تتراوح بين الكوميديا والدراما والعبث. ولا يبخل في إنفاق زمنه ودقائقه على محادثات طويلة في بيئة هادئة. حيث يمكن في طيف منه اعتبار العمل كاملاً محطات من المحادثة الهادئة تتخللها فواصل بصرية حيوية.
يمنح الفيلم حضوراً أكثر تركيباً وتميزاً للشخصية المؤنثة، لتصير عقدتها مركز الحبكة، ولا تبخس تلك المركزية حضور البطل الذي يشكل نقيض مكافئ يبرز تلك العقدة ويدفعها للأمام، وهو ببساطة ما يفترض بالأفلام الرومانسية أن تكونه، وهو اختبار جمالي خفيف أو مركب لما ينتج عن اقتران شخصين مختلفين في حب مشترك.
ما تفقده هبة يسري في تتابع السيناريو تستعيده كذلك عبر الإيقاع الموسيقي الذي يشكل لحمة العمل، لا تعبر سارة عن أحوالها بالبوح إنما بإحالة مشاعرها لأصوات مطربين النوستالجيا مثل جورج وسوف وصباح اللذين تغرق في زمنهما مثل بطل وودي آلان (جيل) الذي وجد عزاءه عن خوائه الشخصي والمهني في النهل من إنتاج فناني الماضي.
تتأثر هبة يسري ربما بسينما محمد خان الذي برع في استدعاء الموسيقى لتأسيس النوستالجيا لزمن قديم حنون أو المرثية لزمن يموت ولن يعود. مثل ليلى مراد التي أهداها فيلمه «في شقة مصر الجديدة» وكان صوتها معبراً عن وجدان البطلة الساذج والبريء في بحثه عن حب لا يوجد إلا في أفلام الأبيض والأسود، وعبدالحليم حافظ الذي أهدى صوته لفيلم «زوجة رجل مهم» الذي يرثي حقبة ناصرية بأحلام لن تعود.
تستدعي هبة يسري المطرب بهاء سلطان ليشكل سراً جمالياً بسيطاً بين بطليها، ربما لأنه المطرب الأقل ملحمية بين وجوه جيله، لا يحمل صخباً ومشهدية spectacle مثل تامر حسني والهضبة. ولا يشكل نكوصاً كاملاً لماضي لن يعود، إنما يعبر عن حاضر عالق، مثلما كان بهاء عالقاً لسنوات في اتفاقات مادية منعته من الغناء. وبعد تحرره منها لم يحرق المراحل ليعود سريعاً إنما ظل مخلصاً لنمط غنائي يحبه يعود بالتدريج ما إن يجد الكلمات واللحن المناسبين.
يشكل بهاء سلطان مجازاً موسيقياً عن حال أبطاله، بطل عالق في ماض تحرر منه مثل سارة، ويستشرف مستقبله دون لهاث مثلما تعلم علي، وفي الحالين، وفياً بصدق لطموحات أبطاله وقصتهما التي تخلو من الملحمة ومشهدية قصص روميو وجولييت وتبحث فقط عن حاضر أكثر رحمة بأبطاله من مخاوفهم.
لا تستعير هبة يسري من خان الإيقاع المناسب بالصوت الموسيقي المناسب للحكاية وحسب إنما الوفاء البصري للأماكن كمعبر مثالي عن أحوال رومانسية قد تبتذلها الكلمات.
تحتل مشاهد السيارة المساحة الأكبر من الفيلم، وتلتقط المصورة نانسي عبدالفتاح ببراعة أماكن تتقاطع مع حياتنا اليومية في مصر الجديدة ووسط البلد وكورنيش النيل، تخبرنا تلك الأماكن أن تلك القصة تنتمي لعالمنا وتحدث كل يوم، وأبطالها أقل ملحمية من بريقهما السينمائي الذي يحيل الحكايات في الأفلام الراهنة دوماً لكومباوندات مغلقة وهو ما يسهل التماهي مع الحكاية باعتبارها تشبه الطبقات الغالبة من المجتمع بل إن أبطالها يتصرفون بحماقة لو اختبروا الحضور في أماكن أعلى طبقياً.
أحمد داوود ومنة شلبي في مشهد من الفيلم
بينما تظهر السيارة باعتبارها مجازاً مثالياً عن علاقة علي وسارة فهي تتحرك بهما بخفة وانسيابية طوال الوقت رغم أن ركابها عالقون في مناورتهما مع الماضي والمستقبل بينما الحاضر يتفلت من بين أيديهم لذلك جاءت المصارحات الأهم دوماً في السيارة التي تتوقف أخيراً ليلتقط أبطالها زمام الحاضر.
مشهد آخر من الفيلم يجمع بين أحمد داوود ومنة شلبي
يحدث مشهد الوصال الأهم الذي تعلن فيه عاطفة حب البطلين عن نفسها في مصعد ضيق لكنه وصال مختلس خاطف، تؤطر قضبانه حقيقة أن أبطاله لم يتحرروا بعد من خوفهم. لذلك لا يتحقق الكادر النهائي للحكاية إلا في شارع واسع خلواً من القضبان والعيون.
تستعيد هبة يسري برهانها على الأشياء العادية التي بهتت بالتدريج من جونرة الرومانسية، مثل الوفاء لبناء طرفي الحكاية الرومانسية والإيقاع والصورة الوفية بصرياً للمشهد، زمام حكايتها وتنقذها من عيوب السيناريو وبساطة الحبكة.
«النوستالجيا هي استعادة من دون لوم الحاضر، النوستالجيا في جوهرها الصادق، تساءل القليل بداخلنا، فقط لتتم ملاحظته وزيارته بحنين من آن لآخر».
— carrie brownstein
قوبل «الهوى سلطان» بموجة احتفاء على مواقع التواصل الاجتماعي، لا تبخس بالطبع عناصر قوته التي سبق الإشارة لها في المقال والتي تجعله جديراً بالاحتفاء لرد جونرة مشوهة بأعمال رديئة إلى منابعها الصافية، ولكن ما يثير الاهتمام أن أكثر التعليقات حباً في الفيلم، تعبر عن كونه آلة زمنية عادت بنا إلى عام 2004 أو بدايات الألفية.
النوستالجيا في جوهرها المرضي هي نفي للحاضر وبالتعبير النفسي ما يجعلها باثولوجية هي كونها نكوصاً لأفرادها عن التعاطي مع لحظة راهنة قاسية، لذلك تتشظى الذات نحو ماض لن يعود واغتراب عن حاضر قاس. وهو مأزق سارة بطلة الفيلم الذي انتصرت عليه في النهاية بالتغلب على خوفها وهجرة الماضي للحاضر بقفزة شجاعة وحب.
يبدو «الهوى سلطان» في عيون كثير من محبيه، نكوصاً لرومانسية الأزمنة الماضية التي تبدو الآن أكثر بساطة، تعززها استعادات لا تنتهي لأفلام ومطربين من القرن الماضي. بينما جميعاً نجلس مثل سارة على أريكة مريحة هرباً من الحاضر.
تبدو النوستالجيا عملة رابحة إذا ما تم استخدامها في إعلانات رمضان الدعائية أو حملات المشروبات الغازية أو حتى ديكورات المطاعم الشهيرة التي تعد أصحابها بتحويل المكان إلى آلة زمن تعود إلى حقبة بعينها.
ويصعب النظر إلى الهوى سلطان إلا باعتبار أحد أبرز نجاحاته هي رغبة كثير من المتلقين في اختبار الفقاعة النوستالجية التي سجنت بطلة العمل ذاته.
يظهر ذلك في انسلاخ علي وسارة من علاقاتهما الثانوية مع رامي وليلى، حيث يبدو رامي شخصية ناجحة ومخططة بعناية على طريقة رواد الأعمال وخطابهم الطاغي حالياً لتعريف النجاح، بينما تبدو ليلى مثالية لما تتطلبه منصات التواصل ومجتمع الاستعراض، فتاة تجيد استخدام أدوات الزينة والتسوق وتصوير لحظاتها المثالية. لذلك يبدو انسحاب علي وسارة إدانة لتلك الأنماط تحديداً لا باعتبارها خاطئة إنما باعتبارها ضاغطة بتعريفاتها وقوانينها وتوقعاتها على ما يجب أن تكون عليه العلاقة العاطفية. وهو ما يظهر بشكل ساخر في زفاف علي وسارة الذي يحمل كل سمات الكليشيه التي نسخر منها دوماً في صور زفاف آبائنا القديمة.
يمكن النظر للنوستالجيا على طريقة الهوى سلطان لا باعتبارها هروباً حتمياً من حاضر يهزمنا على كافة الأصعدة، إنما زيارة منعشة لتغيير المنظور والعودة إلى الحاضر لفحص قوانينه وتوقعاته وأعرافه الاجتماعية التي أثقلت العلاقات العاطفية وجعلتها أكثر تعقيداً مما هي عليه، تلك طريقة تتحول معها النوستالجيا من طابعها المرضي إلى أداة إنعاش نقدية للواقع، مثل سيارة نتحرك بها للوراء قليلاً، وللأمام قليلاً، لكننا لا نسكنها، فالحاضر فقط هو مكان السكنى.