مجتمع

الهروب من عالم ماكدونالدز: أنا أقاطع.. إذن أنا موجود

يمكن أن نعدل الكوجيتو «أنا أفكر إذن أنا موجود» إلى «أنا أستهلك إذن أنا موجود»، وهو ما عملت عليه دعايا العديد من العلامات التجارية مثل ماكدونالدز.

future الهروب من ماكدونالدز

بائع متجوّل أو مندوب مبيعات متنقل، يعرض ماكينات لصنع اللبن المخفوق على المطاعم، أعجبه نموذج المطعم الذي أسسه الأخوان ريتشارد وموريس ماكدونالدز عام 1940. المندوب هو «راي كروك»، الذي رأى في نموذج ماكدونالدز إمكانيات أكبر مما رأى المؤسسون أنفسهم، حيث كانوا يديرون مطعمهم بطريقة تقليدية تعتمد فحسب على السعر المنافس والإنتاج السريع.

كروك رأى أقواس ماكدونالدز وهي تلمع في سماء كل دول العالم. وبدأ رحلته في إقناع الأخوين بفكرته، ثم إقناعهم بتحمل تعثّره في البداية، ثم أخيراً بدأت الأرباح في الانهمار عليهم. وتحولت سلسلة المطاعم لمؤسسة كبيرة بعد 5 سنوات فقط من تأسيسها. بالطبع أزاح كروك الأخوين من العلامة التجارية وسيّطر هو عليها، ليبدأ بها سلسلة نجاح جديدة، متجاوزة لحدود الجغرافيا الأمريكية. لكن لم يكن يخطر في بال كروك أن سلسلة المطاعم تلك ستدخل التاريخ من باب الفلسفة والنظريات الاجتماعية.

 

نظرية الأقواس الذهبية

قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان وضع الكاتب «توماس فريدمان» نظريةً في أحد مقالاته. تلك النظرية ستتحول إلى مدرسة كاملة في الفلسفة وفي التحليل السياسي للتعاطي مع الأحداث العالمية. نظرية فريدمان عنوانها «الأقواس الذهبية لمنع النزاعات».

يقصد الرجل أن تواجد ماكدونالدز في دولتين يمنع نشوب حرب بينهما. فتلك المطاعم كانت مدخلاً للرأسمالية العالمية، استطاعت من خلالها تحجيم قدرات الدول على التسبب في مشاكل. وشجعت تلك السلاسل الدول على الاندماج في الاقتصاد العالمي، وفتح أسواقها أمام كافة المستهلكين، ما يعني أن الدول ستسعى للوصول إلى سلام شامل مع كافة الأطياف، لأنهم جميعاً في النهاية مستهلكين.

لكن يبدو أن الأحداث التي يعيشها العالم حاليًا، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والإبادة الجماعية لسكان قطاع غزة، يقولان العكس. يقولان ما حاول الكاتب البريطاني «جورج مونبيو» قوله منذ سنوات، وهو أنه «لا تجتمع الديموقراطية مع ماكدونالدز في آن». مونبيو يستنتج تلك الحقيقة من أن المتغيّرات العالمية باتت تشهد صعوداً للعواطف الشعوبية على حساب المنطق الاقتصادي. ومن المتغيّرات الأخرى التي لفت النظر إليها هو أن الشعوب تتململ من حُكامها، لذا فهى عازمة على كسر رهاناتهم أياً كانت.

من تلك النقطة يمكن فهم منطق الشعوب في مقاطعة تلك العلامات التجارية حين تمس شيئاً مهماً بالنسبة لهم، كدعهم للجيش الإسرائيلي في حربه ضد قطاع غزة، وكاعتراض تلك العلامات على الغزو الروسي لأوكرانيا. فالقوة لتغيير مجريات الأمور، كطرد تلك العلامات التجارية بقرار مباشر، لم تعد في يد الشعوب. وباتت الوقائع أشد تشابكاً، ورأس المال يحكم بقوة، لهذا توصلّت الشعوب إلى أن أعظم دور قد تقوم به، هو نفسه أبسط دور، ألا وهو التوقف عن الاستهلاك، إعلان اعتراض صامت ضد تلك العلامات التجارية بعدم التواجد فيها فحسب، لا بهدم فروعها، ولا بمهاجمة أماكنها.

يحاول الأفراد بهذه المقاطعة إعادة اكتشاف بوصلتهم في الحياة، ومعرفة أين يوجد وطنهم الحقيقي. فمن الآثار الواضحة للعلامات التجاربة العابرة للبلاد والثقافات هو أن الإنسان في لحظة ما يفقد الشعور بتميّز وطنه. فنفس المطعم موجود في كل البلاد، ونفس الطعم ونفس المواصفات.

 

«ماكدونالدية المجتمع»

مثلما حدث في بدايات الحرب الروسية الأوكرانية، فقد أعلنت ماكدونالدز إغلاق فروعها الـ 450 في روسيا بأكملها اعتراضاً على الحرب. تلك اللحظة التي شعرت فيها سلسلة مطاعم للوجبات السريعة بالقدرة على تغيير القرار السياسي كانت لحظة فارقة، ولحظةً تؤكد تأثير تلك السلاسل، وأنها تتجاوز فكرة الاستهلاك، إلى فكرة تعويد الفرد على وجودها، فيصبح الحرمان منها عاملاً للضغط. كما يصير وجودها علامةً على التحضر، فيصبح خروجها من البلد دلالةً على خروج الحضارة والعزلة الدولية.

لكن كانت المفاجأة في قرار الخروج من السوق الروسية، أن المطاعم الروسية استمرت في العمل كما هى، وبكامل طاقتها، وبنفس الوصفات، لكن بأسماء مختلفة. فخسرت ماكدونالدز في تلك الجولة سوقاً ضخماً، وفقدت هالة التأثير التي أرادت إحاطة نفسها بها. كما أن تلك الحادثة أثارت الشكوك في «نظرية الأقواس الذهبية» أو «نظرية ماكدونالدز» التي كانت من المُسلّمات طوال سنوات. لدرجة أن مجلة «الإيكونوميست» قد اعتمدت عام 2004 على سعر ساندوتش «بيج ماك» في تحديد القوة الشرائية للعملات المختلفة مقارنةً بالدولار الأمريكي بغض النظر عن السعر الرسمي المُعلن لتلك العملات، فقد صارت قائمة أسعار ماكدونالدز هى الوثيقة الأهم والأصدق قي سوق المال.

ما يعني بنظرة ساخرة، أو واقعية نوعاً ما، أننا صرنا نعيش في «عالم ماكدونالدز»، وليس هو الذي يتواجد في عالمنا. كما كتب عالم لاجتماع جورج ريتز في كتابه «ماكدونالدية المجتمع» The McDonaldization of Society، بأن الطعام الذي تقدمه سلسلة المطاعم أضحت أهم رمز ثقافي العصر الحديث. وأن الجودة قد تضآلت في العديد من مناحي الحياة في مقابل السرعة والحصول على المنتج في أسرع وقت وبأقل تكلفة. كما حرصت سلسلة ماكدونالدز على أن يتم الموضوع بآلية شديدة تقلل من تواصل المستهلك مع الموظف، كما استطاعت أن تفرض قيوداً قوية تجعل جودة المنتج متشابهة في كافة الدول، فلا مكان للتفضيل الشخصي أو الاختلاف الثقافي في الإضافات التي يريدها سكان الدولة على طعامهم.

يرى ريتز أن النتائج المادية المبهرة التي حققها ماكدونالدز دفعت العديد من الدول إلى تطبيق النموذج عندها. ليس في مجال الطعام السريع فحسب، بل في كافة مناحى الحياة، كمجال التعليم والتسوق. ففي مجال التعليم مثلاً نجد الأستاذ يشبه إلى حد كبير الموظف في أحد فروع ماكدونالدز. حيث يلتزم الموظف بأداء وظيفة معينة بسيطة ومحددة على خط الإنتاج الكبير، تهدف تلك الوظيفة لتنفيذ خطوة واحدة مكررة بكفاءة عالية. وهذا بالضبط ما يُطلب من الأستاذ، سواء كان في التعليم الأساسي أو الجامعي، أن يقوم بمهمة محددة لإيصال نفس المادة العلمية، وبشكل مكرر دون التدخل لتحسين تلك المادة، أو الإضافة عليها.

فمثلما سيُفرض عليك تحت ضغط الدعاية أن تأكل وجبات ماكدونالدز لتجرّبها مرة واحدة على الأقل، أو تكرر أكلها متوهماً أنها أعجبتك أو أنها علامة الترقي لطبقة أعلى. فستقوم مثلاً بالتقديم في جامعة حديثة لأن الدعايا الخاصة بها تقول إنها جامعة الفئة الثرية والمهمة في المجتمع.

 

المقاطعة كفعل ثوري

إذن، في مجتمع يسيطر فيه نموذج ماكدونالدز على كل شيء، تصبح مقاطعته فعلاً ثورياً في ذاته. رغم حالة الفتور التي اعترت العديد من الشعوب نحو المشاركة السياسية، إلا أن الفتور تلاشى وحلّت الحماسة حين بدأت الدعوة لحملات المقاطعة رداً على دعم سلسلة المطاعم الشهيرة للجيش الإسرائيلي في الإبادة الجماعية التي يمارسها بحق سكان أهل غزة. فأصبحت المقاطعة هى المسار الذي وُجهت إليه كل الطاقات الاحتجاجية والغاضبة.

لتكون المقاطعة هى تجسيد لرفض الوجود الإسرائيلي في ذاته، عبر الضغط على وكلائه أو المتعاونين معه أو المتعاطفين معه. فيمكن النظر لفعل المقاطعة البسيط باعتباره رفض شامل للمنظومة بأكملها، ومحاولة لانتزاع الوعي الجمعي من براثن الآلة العالمية التي تحاول صبّ كافة البشر باختلاف معتقداتهم وآرائهم في قالب واحد سائل، لا تمايز فيه، ولا خطوط حمراء أو مقدسات فردية، فالخطوط الحمراء هى ما تُحدده تلك الشركات، والمقدسات هى فقط الشعارات التي تصفها الرأسمالية الكبرى بأنها مقدسة.

وتكشف تلك المقاطعة عن أن السيطرة على ذهن الشعوب لم تُحكم. لكن هل يعني أن العولمة لم تفرض نفسها بما يكفي؟ أو نظرية فريدمان خاطئة؟ فريدمان نفسه عدّل لاحقاً نظرية الأقواس الذهبية ليضيف إليها جملةً تقول إن الحاكم حالياً هو سلاسل التوريد، وأنه لا يمكن أن تدخل دولتان يشتركان في نفس سلسلة التوريد حرباً ضد بعضهما، فالعقوبات الاقتصادية في تلك الحالة ستكون مؤلمة للدولتين.

لكن حتى تلك النظرية أثبت عالم اليوم خطأها. فيبدو أن تشارك الشعوب في استخدام تكنولوجيا واحدة، أو ممارسة عادات وطقوس واحدة عابرة للحدود، لا يعني بالضرورة امتزاج تلك الشعوب بشكل كامل. وأن النظريات التي تحدثت عن تأثير العولمة الثقافية والاستهلاكية كانت مبالغة بدرجة ما في تأويل حال الإنسان حول العالم. فمقاتلوا المقاومة الفلسطينية مثلاً ظهرو يرتدون ملابس رياضية وجينز غربي. ويستخدمون تكنولوجيا للتصوير هى تكنولوجيا غربية وأمريكية بنسبة كبيرة، ويشاركون إنجازاتهم عبر أجهزة هواتف محميّة، غالباً ما ستكون أجهزة آيفون. ولا يمكن النفي أن بعضهم قد كانت وجبات ماكدونالدز ضمن قائمة مفضلاته في الطعام.

لكن كل ذلك لم يمنع هذا المقاوم من الانتفاض ضد الهيمنة الغربية حين أرادت أن تسلب منه أرضه. وانتفض المواطن العادي ضد سلسلة المطاعم العالمية حين رآها تدعم قاتلي إخوته، ومن هم أقرب له ديناً وثقافةً وجغرافياً من سلسلة المطاعم وأصحابها. ففي تلك اللحظة استعاد الفرد العادي وعيّه بقيمته الفردية بعد أن حاولت الدعايا محوها وتحويله لمجرد ترس ضعيف في آلة الرأسمالية الكبرى. لتكون وسيلة الوحيدة، والأهم، للإعلان عن وجوده هو الاستهلاك.

حتى أننا يمكن أن نعدّل الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر إذن أنا موجود» إلى «أنا أستهلك إذن أنا موجود». وهو ما عملت عليه دعايا العديد من العلامات التجارية الكبرى، مثل ماكدونالدز التي ربطت الاستهلاك منها بسعادة الأسرة، وشعور الإنجاز، والترقي الوظيفي لعدم إضاعة الوقت في تناول الطعام، إلى آخره من الارتباطات الذهنية التي صنعتها الدعايا في ذهن المستهلك. لكن تأتي حملات المقاطعة لتغيّر كل تلك الأمور التي يعتبرها العالم من البديّيهات، وتقول بصوت عالمي واحد «أنا أقاطع... إذن أنا موجود».

فيلم Joker: Folie à Deux: حكاية تقلع بلا أجنحة
هاشم صفي الدين: القائد المنتظر الذي يخشى حزب الله غيابه
حوار| كايل أندرسون: توثيق تاريخ الفلاحين أجمل تجارب حياتي

مجتمع