معرفة

«النصر البيروسي»: انتصارات يفرح بها المهزوم

هل يكفي الانتصار في النهاية كي تشعر بحلاوة النصر، أم إن الانتصار أحياناً قد يأتي بمرارة الهزيمة؟

future لوحة زيتية للجيش الفرنسي خلال الحملة العسكرية على روسيا

هل يكفي الانتصار في النهاية كي تشعر بحلاوة النصر، أم إن الانتصار أحياناً قد يأتي بمرارة الهزيمة؟

إذا دخلت صراعاً مع مجموعة أخرى، وكنت أنت المنتصر في النهاية، لكن في هذا الصراع فقدت ابناً أو عدداً كبيراً من رجالك، فهل يظل ما حدث نصر فعلاً أم هزيمة تقول على نفسها إنها نصر؟

من تلك المعضلة وُلد مصطلح يشرح هذا الالتباس، «النصر البيروسي»، وهي يعني انتصار إحدى القوتين على القوة الأخرى بشق الأنفس، مع تكبد خسائر فادحة في الميدان، فيكون النصر الرسمي أقرب للهزيمة الواقعية.

يمكن فهم دلالة المصطلح أكثر، إذا عُدنا إلى لحظة ولادته. الحرب البيروسية دارت بين الجمهورية الرومانية والملك بيروس (ملك إبيروس)، الذي استعان به اليونانيون لمواجهة الرومان.

انتهت الحرب بانتصار بيروس، بفضل خبرته الحربية، ووجود الأفيال في جيشه، وهي تقنية لم يكن الرومان معتادين عليها أو يعرفون كيفية مواجهتها في ميدان المعركة. دارت الحرب على جولتين، فاز بيروس في كليهما. لكن ينقل لنا المؤرخ بلوطرخس جملة على لسان القائد بيروس تشرح وجهة نظره في ذلك النصر.

«إذا فزنا في معركة جديدة على الرومان، فإننا سنخسر قواتنا تماماً. فقد رأى الرومان الكلفة البشرية الضخمة لهذه الانتصارات، فتخلّوا عن الرجل. ولم يعد في مقدور بيروس تعويض الجنود الذين قتلوا. بينما كان الجانب المهزوم، وفقاً للشكل الرسمي للحروب والثبات على الأرض، قادراً على تعويض خسائره بشكل أسرع».

قلب الأم قَتل الملك

في تلك اللحظة، ومنذ عام 275 قبل الميلاد، وحتى الأبد، تناقل الناس مصطلح النصر باهظ الثمن أو النصر البيروسي. ويُلقي الباحثون التاريخيون بظلال الشك حول النوايا التي رافقت ولادة تلك المصطلح. فيقول بعضهم رغم صدق مقولة بيروس التي أوردناها أعلاه، فإن الرومان هم من صاغوا مصطلح النصر البيروسي، وعملوا على نشره وتصديق الناس به، ليكون في ذلك تعويضاً معنوياً لهزيمتهم، ومحاولة للحط من معنويات الطرف الآخر.

تواتر المصطلح، ومنحته الطريقة التي مات بها بيروس الأسطورة اللازمة ليُخلَّد عبر الزمن. فقد وصل بيروس إلى صقلية، ونصّب نفسه حاكماً عليها. لكن ثار أهلها ضده، وأجبروه على الخروج منها متجهاً نحو إيطاليا. لكن عاد بيروس بعد عامين ليشن حملة جديدة، أصبح على إثرها ملكاً عليها. لكنه قرر تغيير مساره ليواجه أنتيجونس الثاني في آرجوس. لكن لم يكن يحسب بيروس أن نهايته ستكون في تلك المعركة، وعلى يد سيدة عجوز.

يروي المؤرخون أن بيروس كان يقاتل داخل أسوار آرجوس، بينما تشاهد النساء المعركة من أسطح المنازل. حتى وجدته إحدى السيدات يقاتل ضد ابنها، وخشيت أن يُقتل نجلها على يد الملك. فأمسكت بما بجوارها من حجارة، وبدأت في إلقائه عشوائياً تجاه بيروس. أصابه أحد الأحجار، وأسقطه من على جواده. وحين تدارك بيروس نفسه، كان الجنود حوله وفتكوا به. وهكذا تداول المؤرخون القصة بعناوين عن كيف قتل قلب الأم بيروس.

لكن مهما كانت النوايا التي وُجدت قبل ألفي عام، فإن الواقع اليوم هو وجود المصطلح. ووجود معارك عديدة أيضاً يمكن أن ينطبق عليها وصف النصر البيروسي.

انتصارات ليتها لا تتكرر

في الحرب الأهلية الأمريكية عام 1863، كان الجنرال جوزيف هوكر في مواجهة روبرت لي، وأعداد جنود الجنرال تبلغ ضعف عدد جنود روبرت لي. لكن قرر روبرت أن يقسم جنوده لقسمين، يدخل النصف المعركة أولاً، ثم يأتي النصف الثاني خلف جنود هوكر بعد بداية المعركة.

نجحت الاستراتيجية، وأُجبر هوكر، قائد جيش الاتحاد، على التراجع والانسحاب. لكن خسر روبرت لي في تلك الموقعة 13500 جندي، وخسر كبار قادته. وكذلك خسر جيش الاتحاد 17 ألف جندي في معركة واحدة. لكن كان لجيش الاتحاد القدرة على إعادة حشد الجنود بشكل أسرع، بينما لم يكن ذلك متاحاً أمام روبرت لي والثوار. بالتالي كان من اليسير التنبؤ بالمصير النهائي لتلك الحرب، وتوقع الفائز في المرحلة الأخيرة.

من تلك الانتصارات البيروسية أيضاً انتصار نابليون في محاولة السيطرة على معقل الروس في بلدة بورودينو. أراد نابليون السيطرة على موسكو، ومع فرار الروس لم يكن يتوقع نابليون مقاومة ضخمة في سبيله إليها. لكن عند تلك البلدة الصغيرة قرر الجنرال ميخائيل كورتزوف أن يواجه نابليون، الذي ألقى بـ130 ألف جندي من جنوده لمواجهة رجال كورتزوف، وكان لنابليون الانتصار في النهاية.

لكن كانت أرض الميدان مغطاة تماماً بالجنود الفرنسيين، فقد خسر نابليون 30 ألف جندي في موقعة واحدة. بينما خسر الروس قرابة 10 إلى 15 ألفاً. لذا فبعد أن وصل نابليون إلى موسكو، ووجدها محروقة ومهجورة، لم تستمر حملته أكثر من شهر بعد تلك الموقعة، ليعلن انتهاء حملته على روسيا. وبفعل الشتاء القارس، وتربص الجنود الروس، خرج نابليون من حربه مع روسيا بخسارة تقترب من 400 ألف جندي.

هزائم فرح بها أصحابها

ذاق البريطانيون أيضاً طعم النصر البيروسي عام 1775، إبان الثورة الأمريكية؛ حيث حاولت قوة من الثوار قوامها 1000 رجل، استطلاع القوات البريطانية المتقدمة، لتبدأ معركة غير محسوبة على تلة بانكر ضد 2200 جندي بريطاني. استطاع الثوار في البداية صد البريطانيين، لكن بعد نفاد الذخيرة، حدثت مواجهات مباشرة أدت في النهاية لانسحاب الثوار، وفوز الجنود البريطانيين.

لكن بعد إحصاء القتلى وُجد أن خسائر البريطانيين بلغت 1000 جندي، بينما خسر الآخرون 400 فحسب. لهذا غير البريطانيون خططهم تماماً، وبدؤوا في الاستيلاء على منطقة مرتفعة أخرى من أرض بوسطن.

«إذا أعطى الربُ أعداءك نصراً آخر كهذا، فإن ذلك سيدمرهم».

قالها القائد الفرنسي، كلود دي فيلا، للملك لويس الرابع عشر، تعقيباً على المعركة التي عُرفت بأنها الأكثر دموية في القرن الثامن عشر. فبعد وفاة الملك تشارلز الثاني دون أن يكون له وريث، اندلعت حرب شرسة على الخلافة الإسبانية. وبلغ الصراع ذروته في معركة مالبلاكيت. التقى الفرنسيون مؤلفين من 90 ألف جندي، مع حلف من هولندا والنمسا وبروسيا مؤلف من 110 آلاف جندي.

أطلق الحلفاء هجوماً قوياً على الفرنسيين، لكن اختبأ الفرنسيون في متاهة بنوها من الخنادق والعوائق. ليستغرق جنود الحلفاء قرابة سبع ساعات في الوصول فقط للخطوط الأمامية للفرنسيين. وحين وصلوا كانوا منهكين، بينما كان الفرنسيون يحاولون الانسحاب فحسب. وحين شعروا أن الحلفاء باتوا قريبين منهم قرروا الانسحاب مع إطلاق النار لتغطية الانسحاب.

تبادل إطلاق النار توقف. وانسحب الفرنسيون، وخسر كلود دي فيلا المعركة. لكن بحساب الخسائر البشرية فقد الفرنسيون 12 ألف جندي، بينما فقد الحلفاء الذين انتصروا نظرياً، ما يُقارب 30 ألف جندي، أي ما يعادل ربع القوة في معركة واحدة. لهذا كانت الهزيمة الفرنسية بمثابة الفوز، وتجرع الحلفاء مرارة الفوز الذي تمنى الفرنسيون أن يناله أعداؤهم مرة أخرى. لأن هذا النصر، رغم أثره المعنوي، فإنه أوقع بهم من الخسائر الحقيقية ما لا يمكن للفوز، النظري، أن يُوقع بهم.

تلك الأمثلة هدفها شرح المصطلح لا حصره فيها فحسب. فالصورة الأكبر لمصطلح النصر البيروسي هو أنه ليس دائماً من يقول في النهاية إنه انتصر قد انتصر حقاً. وإن النصر الذي قد تدّعيه بعض الجيوش القوية على مقاومة شعبية أو حركة ثورية، قد يكون في حقيقته أول خطوة على طريق الانهيار. فالانتصار لا يعني أن خسائر المنتصر أقل، بل قد تكون أكبر. ويصبح المهزوم نظرياً قادراً على العودة مرة أخرى عبر الحشد بالأيديولوجيا، أو بالدعوى الوطنية للتحرر من الاحتلال، بينما يكون المنتصر القوي عاجزاً عن تعويض خسائره، لأنه ما يقدمه لجنوده لا يُمكِّنه من أن يغريهم بتقديم أرواحهم فداء له.

# تاريخ

حوار| كايل أندرسون: توثيق تاريخ الفلاحين أجمل تجارب حياتي
بسبب التنافس على السلطة: أشهر قصائد المعارضة عند العرب
أقاموا بالقاهرة ورفعوا علمهم بالإسكندرية: الصليبيون في مصر

معرفة