مجتمع

المناظرات الرئاسية: لعبة السلم والثعبان التي أجهزت على بايدن

هل المناظرات السياسية قادرة فعلاً على إسقاط سياسيين والإتيان بغيرهم، وتعد إحدى الجولات الفارقة التي إما أن تمنح صاحبها دفعة للأمام أو تجهِز على آماله؟

future من على اليمين: الرئيس الأمريكي السابق والمرشح للانتخابات المقبلة دونالد ترمب، والرئيس الأمريكي الحالي والمنسحب من الجولة القادمة جو بادين

في مساء يوم الأحد 21 يوليو 2024، وقبيل الانتخابات الرئاسية بأربعة أشهر، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، تخليه عن الترشح لفترة رئاسية جديدة، والتركيز بدلاً من ذلك على أداء واجباته بصفته رئيساً لبقية فترة ولايته. وقد جاء انسحاب بايدن، بعد شهور عديدة طاردته فيها مزاعم إصابته بالخرف» وألزهايمر، إلى جانب قائمة طويلة من الأمراض، التي أثرت على أدائه في لقاءاته العامة. وعلى رغم أن هذه الاتهامات مستمرة منذ شهور، فإنه بدا للرأي العام أن مناظرته الرئاسية الأخيرة ضد دونالد ترامب، في 27 يونيو 2024، كانت الضربة الأخيرة التي أجهزت على بايدن، وفرصه في الانتخابات القادمة.

انسحاب بايدن

تشبه المناظرات التي يشارك بها المرشحون للرئاسة لعبة السلم والثعبان؛ فتجد المشاركة في مناظرة ما تهبط بمرشح لامع بسبب كلمة قالها أو موقف لم يحسن التصرف فيه، فتضيع حظوظه في الفوز وتنحدر نسبة مؤيديه، بينما قد تقفز بأسهم آخرين وتصل بنسب تأييدهم خلال ساعات إلى مستويات لم تبلغها جهودهم عبر أشهر أو سنوات.

في وقتنا الحالي، صار انسحاب بايدن هو المثال النموذجي على ما سبق؛ وبخاصة أن ذلك الانسحاب جاء بعد الأداء الضعيف والمهزوز له أمام الرئيس السابق، دونالد ترامب، فقد مثلت تلك المناظرة صفعة مؤلمة، كلفت بايدن حظوظه في تجديد ولايته الرئاسية.

فقد كشفت استطلاعات رأي داخلية أجرتها حملة بايدن، أن حظوظه في الرئاسة تراجعت بعد مناظرة الـ27 من يونيو، وأنه واجه أكبر انخفاض في شعبيته منذ ما يقارب ثلاث سنوات. وأظهر استطلاع نشرته شبكة CNN الأمريكية، أن 14% قالوا إن المناظرة جعلتهم يعيدون النظر ولم يقرروا بعد تغيير رأيهم، وقال 5% إنهم غيروا رأيهم فعلاً، وقد برر بايدن سوء أدائه بالإرهاق الناجم عن كثرة السفر، مشدداً على أن «هذا ليس عذراً بل تفسير.. كدت أغفو على المسرح».

تتمتع الولايات المتحدة بتقاليد ديمقراطية عريقة تتضمن عقد مناظرات بين المرشحين للرئاسة، ويرجع هذا التقليد إلى القرن الـ19، وكانت آنذاك تقتصر على توجيه خطابات للناخبين، ولم يكن هناك محاورون لإدارة المناظرات، وفي صيف 1858، واجه أبراهام لنكولن، المرشح الجمهوري لمجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، السيناتور الديمقراطي ستيفن دوجلاس، في سبعة لقاءات، لم تدفع به إلى البرلمان بل إلى البيت الأبيض وذلك بعد ذلك بسنتين من ذيوع نص النقاشات وانتشارها بين المهتمين.

بمرور الوقت، التزم المرشحون بإجراء مناظرات في ما بينهم. ويعود تاريخ أول مناظرة رئاسية متلفزة إلى عام 1960 بين جون كيندي وريتشارد نيكسون، وتسببت أربع مناظرات في خسارة نيكسون لأنه بدا متوتراً للغاية أمام الكاميرات ويتصبب عرقاً، على رغم أنه كان واثقاً من فوزه، وعلى العكس تماماً، بدت نتيجة المناظرة لجمهور الراديو في صالح نيكسون. لذلك رفض نيكسون بعد ذلك تكرار التجربة في 1968 و1972؛ إذ فاز بالرئاسة من دون مناظرات.

في عام 1976 وجّهت رابطة الناخبات، وهي تجمع نسائي محايد، دعوتها للمرشحين للنقاش بحضور عضواتها، واستمرت في إدارة المناظرات حتى عام 1988. وفي عام 1987، تم إنشاء لجنة المناظرات الرئاسية لتنظيم المناظرات بين المرشحين بالتعاون بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبدأت عملها في العام التالي.

لكن المناظرة التي فشل فيها بايدن، في 27 يونيو، هي الأولى التي تعقد خارج إشراف لجنة المناظرات الرئاسية منذ عام 1988، وأيضاً المناظرة الأولى في التاريخ الأمريكي التي تجمع بين رئيسين حالي وسابق.

فقد طالب بايدن بإجراء مناظرة في موعد مبكر، وتخيل فريقه أن المواجهة المباشرة مع ترامب ستمنحه فرصة لتهدئة المخاوف بشأن عمره وقدرته على التحمل، وحصل مستشاروه على التسهيلات التي طالبوا بها، بما في ذلك كتم صوت الميكروفون أثناء تحدث الطرف الآخر لمنع ترامب من مقاطعته، وعدم وجود جمهور في الأستوديو. وبحسب استطلاعات ما بعد الانتخابات التي أجراها مركز بيو للأبحاث منذ عام 1988، فقد أكّد معظم الناخبين أن المناظرات مفيدة لهم في اختيار مرشحهم الرئاسي.

إصلاحيو إيران

في إيران، لا يختار الشعب قائد البلاد وهو المرشد الأعلى، بل تجرى الانتخابات لاختيار رئيس جمهورية بصلاحيات محدودة، وتعقد مناظرات عديدة قبل الانتخابات، وبينما يهيمن التيار المتشدد المقرب من المرشد على السلطة، يقول الإصلاحيون إن المناظرات الرئاسية تكاد تكون فرصتهم الوحيدة للتعبير عن نفسهم على شاشة التلفزيون الحكومي، الذي ينص الدستور على تبعيته للمرشد.

وتحتل المناظرات جزءًا مهماً من الذاكرة السياسية لدى الشعب، فينتظرها الكثيرون قبل كل انتخابات رئاسية، وتتسبب في موجة كبيرة من النقاشات حول ما دار فيها.

وفي يونيو 2024، تم إجراء خمس مناظرات جماعية بين المرشحين الستة الذين أجازهم النظام الإيراني للانتخابات الرئاسية، التي عقدت بعد وفاة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، وهم خمسة من المتشددين وواحد إصلاحي فقط، تحدثوا حول مشاكل بلادهم في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، شملت قضايا حقوق النساء وحرية الصحافة والإنترنت والبرنامج النووي، وكالعادة، شهدت المناظرات تبادلاً للاتهامات ووعوداً يرجح ألا يتحقق معظمها.

ووسط الجميع برز المرشح الإصلاحي، مسعود بزشكيان، على رغم أنه قال إنه سيكون مطيعاً لأوامر المرشد في القضايا السيادية، لكنه بدا قريباً من نبض الشعب ومشاكله، وبخاصة بعدما تفاقمت مشاعر اليأس والإحباط من النظام مع استمرار الانهيار الاقتصادي.

أظهرت نتائج استطلاعات الرأي الرسمية أن 73% لم يشاهدوا تلك المناظرات، بسبب حالة اليأس من أداء النظام، وهو ما لعب عليه بزشكيان إذ خاطب الكتلة الرمادية المقاطعة وحاول استمالتها.

وبعد الجولة الأولى تأهل بزشكيان والدبلوماسي المتشدد، سعيد جليلي، لجولة إعادة، وتم ترتيب مناظرتين بينهما، كان أداء جليلي في الأولى ضعيفاً، لكنه بدا في الثانية أكثر سخونة من كل المناظرات، واتخذ منذ البداية وضعية المهاجم فيما فُسر بأنه محاولة للتعويض عن خسارته المناظرة الأولى.

وصبت المناظرة الأخيرة في صالح بزشكيان أيضاً؛ إذ انتقد الجمهور أداء المحاور، ووصف البعض الأسئلة الموجهة إلى بزشكيان كأنها صيغت على يد مؤيدي جليلي. وتجنب بزشكيان الدفاع عن سياسات الرئيس الإصلاحي، روحاني، وهاجم سياسات الرئيس المتشدد الراحل، إبراهيم رئيسي، ودعا المشاهدين ليصوتوا لجليلي إن كانوا راضين عن سلفه المتشدد. وانتقد كذلك ماضي جليلي عندما شغل لخمس سنوات منصب أمين مجلس الأمن القومي (2007-2012) وأدار ملف المفاوضات النووية، قائلاً: إن «سياسته آنذاك جلبت على إيران العقوبات».

وبحسب تقارير إعلامية، بدأ الشارع يتحرك لصالح بزشكيان نتيجة المخاوف من أن يفاقم فوز جليلي مشاكل إيران وعزلتها، وتعمق الشعور العام بأن إدارة المتشددين هي سبب المشاكل. وبالفعل نجح بزشكيان في نهاية الأمر من الظفر بمقعد الرئاسة.

ومن الجدير بالذكر أنه في الانتخابات الماضية عام 2021، شهدت المناظرات الرئاسية الحد الأدنى من الاهتمام والمتابعة، بسبب معرفة الجماهير على نطاق واسع بفوز إبراهيم رئيسي مسبقاً، وركز المرشحون المحافظون في المناظرات الثلاث في الخامس والثامن والـ12 من يونيو 2021، على مهاجمة الإصلاحي عبد الناصر همتي، بينما بدا الإصلاحي الآخر، محسن مهر علي زادة، وكأنه حضر بطريق الخطأ فلم يشارك تقريباً في المناقشات.

وقد بدأ تقليد المناظرات الرئاسية الجماعية بعد انتخابات 2009، فحينها أظهر مير حسين موسوي أداء قوياً ألهب الشارع الإيراني في مواجهة الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، وصُنِّف ذلك اللقاء أهم مناظرة في تاريخ الجمهورية، ومن بعدها قرّر النظام إلغاء المناظرات الثنائية، لكن بسبب خروج معظم المرشحين في الجولة الأولى من انتخابات 2024، عادت المناظرات الثنائية بين بزشكيان وجليلي.

مناظرات فرنسا

كانت المواجهات المتلفزة بين أكبر مرشحين، من أبرز الأحداث في الانتخابات الرئاسية الفرنسية منذ ما يقارب خمسة عقود، وأثبتت أنها أكثر حسماً عندما تكون قريبة من موعد الاقتراع.

ففي عام 1974، فاز المحافظ فاليري جيسكار ديستان على الاشتراكي فرانسوا ميتران بعد أدائه الجيد في مناظرتهما، بينما كان أداء ميتران أفضل منه في مناظرة عام 1981، وفاز في جولة الإعادة، وكانت هذه هي المرة الأولى منذ ذلك الحين التي يتنافس فيها المرشحون نفسهم في دورتين انتخابيتين متتاليتين.

تكرر الأمر بين الرئيس إيمانويل ماكرون وزعيمة اليمين المتطرف ماري لوبان، التي واجهته في عامي 2017 و2022؛ في الأولى كانت المناظرة بمثابة كارثة عليها، فظهرت مرتبكة وغير مستعدة، وتمت هزيمتها بسهولة؛ وفي الثانية كان موقفها أقوى وظهرت مستعدة منذ البداية وأكثر هدوءاً، وراهنت على كسب تأييد الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم بعد.

أظهر ماكرون أداء واثقاً عام 2017، بينما اتخذ موقفاً هجومياً عام 2022، وبدا كأنه منافس أكثر من كونه رئيساً بالفعل، وقاطع منافسته مراراً؛ إذ كان عليه أن يلتزم بخيار الاستمرارية غير المثير، واستغلت غريمته إخفاقاته خلال ولايته البالغة خمس سنوات، لكنه استطاع إبراز خطورة ميولها المتطرفة على استقرار المجتمع، وفاز بولاية جديدة.

الأخطاء القاتلة

تاريخياً، تميل المناظرات الرئاسية إلى إحداث تأثيرات أكبر على نتيجة الانتخابات، عندما يقول أحد المرشحين أو يفعل شيئاً غبياً جداً يوقعه بخسارة شعبية فادحة.

على سبيل المثال، في عام 1976، أصر مرشح الحزب الجمهوري والرئيس آنذاك جيرالد فورد، بشكل خاطئ، على أن بولندا لم تكن تحت الحكم الشيوعي. وفي عام 1988، أجاب المرشح الديمقراطي مايكل دوكاكيس، عن سؤال حول سلامة زوجته، بخطاب عن سياسة المخدرات. وفي عام 1992، كرر الرئيس جورج بوش الأب مراراً النظر إلى ساعته أثناء مناقشة بيل كلينتون. وخسر الرجال الثلاثة سباقاتهم للبيت الأبيض.

في المقابل فإن سرعة بديهة المرشح ترفع أسهمه بسرعة؛ فرداً على محاولة إثارة مسألة كبر سنه، أثار رونالد ريغان مسألة صغر سن منافسه، والتر مونديل، وقلة خبرته، وقال إن أخلاقه لا تسمح له بالتقليل منه بسبب ذلك، وكان رداً عفوياً وطريفاً نال استحسان المتابعين.

وأحياناً تشهد المناظرات مواقف محرجة وغريبة؛ ففي عام 2016، واجه ترامب المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، أول سيدة تشارك في تلك المناظرات، وحينها تحرك ترامب حولها لتخويفها، ووصفته لاحقاً بأنه كان مثيراً للفزع، وحققت تلك المناظرة الرقم القياسي في التاريخ الأمريكي بواقع 84 مليون مشاهدة.

لكن ما يثير أزمات كبيرة للمرشحين، ليس فقط الأداء أثناء المناظرات، بل اقتطاع نشطاء مخالفين لبعض المشاهد بشكل انتقائي بهدف وضع المرشحين في صورة سيئة أو حتى مهينة، نتيجة اجتزاء كلماتهم والتركيز على عيوبهم؛ فنشطاء الحزب الجمهوري يتداولون مقاطع تظهِر بايدن في حالة ذهول وارتباك شديد، وينشر الآخرون مقاطع تظهِر ترامب متعصباً أو شخصاً فظاً لا يتحكم بانفعالاته.

إجمالاً، لا يمكن القول إن المناظرات السياسية، قادرة على إسقاط سياسيين، والإتيان بغيرهم، ولكنها تظل إحدى الجولات المهمة والفارقة في لعبة السياسة، التي إما أن تمنح صاحبها دفعة إلى الأمام، أو تُجهِز على آماله. وفي كلتا الحالتين، تتحكم العوامل الموضوعية في مصير ذلك السياسي، فما المناظرات إلا عاملاً حفّازاً في تلك المعادلة.

# جو بايدن # الانتخابات الأمريكية # الولايات المتحدة الأمريكية # دونالد ترمب

جولات بلينكن في المنطقة ولعبة سياسة الهندسة
المعادن الحرجة: عودة إلى ساحة الصراع في ظل هيمنة التنين
بايدن ينسحب وكامالا هاريس في مواجهة ترامب

مجتمع