على مدى التاريخ تعددت الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، وكان لمصر الحظ الأوفر دائماً من مشاهد الاحتفاء بهذه الذكرى، حتى إنها في كل عهد أخذت شكلاً مختلفاً تميزت به عن غيره من العصور، لكنها بلغت الغاية في الجمال والبهجة أثناء العهد الملكي (1922 - 1953).
تولى الملك فؤاد حكم مصر عام 1917، واهتم كثيراً بالاحتفال بالمولد النبوي بشكل لم يسبق له مثيل، وتبعه في ذلك نجله الملك فاروق (1937 – 1953)، لكن لكي نفهم الاختلاف في الاحتفالات التي أقيمت في عهدهما، لا بد أن نسلط الضوء عليها قبل توليهما حكم مصر.
وهنا يروي المؤلف عرفة عبده علي، في كتابه المعنون بـ: موالد مصر المحروسة، أن الاحتفال كان يسمى المولد أو الليلة الكبيرة، وكان الخديوي يتصدر الاحتفال في سرادق نقيب الأشراف، في حضور حاشيته، وأعضاء الحكومة والأمراء وأعيان الدولة، مشيراً إلى أنه كان هناك حتى عهد الملك فؤاد في جنوب غربي الأزبكية ساحة شاسعة مخصصة للاحتفال بمولد النبي.
وتحدث أحمد شفيق باشا، في كتابه المعنون بـ: مذكراتي في نصف قرن، عن هذه الاحتفالات، قائلاً: «في المساء تمد الموائد في سرادق الشيخ البكري (أحد مشايخ الطرق الصوفية) للمدعوين، وبعد صلاة العشاء، يشرِّف الجناب الخديوي الصيوان لسماع قصة المولد النبوي الشريف، وفي ختام قراءة القصة توزع الحلوى وشراب الليمون على الحاضرين، وينصرف بعد ذلك الخديوي إلى سرادقه الخاص، وتبدأ الألعاب النارية».
لكن شفيق باشا يسلط الضوء على مظاهر سلبية أخرى على هامش الاحتفالات آنذاك، فيقول: «يزدحم الناس في هذه الليلة ازدحاماً لا مثيل له؛ لمشاهدة هذه الأذكار، وسماع أناشيدها، ورؤية النيازك، ويوزع وينتهز الشباب فرصة الزحام، فيكثر الغزل بين الفتيات والفتيان، وتمشي رسائل (اللب والفستق) ونحوها بين العربات التي تحمل الجنسين، ما يجعل من الليلة مهرجاناً، حظ الفتنة فيه أكبر من حظ الدين، إن كان للدين حظ في أمثال هذه الحفلات».
اختلفت مظاهر الاحتفالات بشدة وأخذت طابعاً رسمياً مع تولي الملك فؤاد الأول حكم البلاد عام 1917، وكانت البداية بنقلها من منطقة الأزبكية إلى حي العباسية في القاهرة، ومنذ هذا الحين كان هناك اهتمام بالغ بشكل وطريقة الاحتفاء بهذه المناسبة وطقوسها.
وبحسب مؤلف كتاب موالد مصر المحروسة، تولت وزارة الأوقاف الاحتفال بالمولد النبوي في منطقة مخصصة له، بصحراء قايتباي (ممتدة إلى منطقة العباسية)، وبعض الهيئات الحكومية، أقامت سرادقات خاصة طوال فترة الاحتفالات، يرتادها الزائرون من كل صوب، يستمتعون بأطايب الطعام والمشروبات، وبسماع أشهر المقرئين والخطباء والمنشدين.
ويحكي المؤلف حسن السندوبي، الذي عاش في القرن العشرين، في كتابه تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي من عصر الإسلام إلى عصر فاروق الأول، ما رآه من مظاهر الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، في عهد الملكية، قائلاً: «في عهد الملك العظيم فؤاد الأول بن إسماعيل، رأينا الاحتفال بهذه الذكرى الكريمة، بلغ العناية الغاية التي لا ترام، من الإجلال والإعظام، وتناول الذروة العليا من البهجة والجمال، والمنزلة السامية من العظمة والجلال، وشهدنا الزينات تتألق، والخيرات تتدفق، والصدقات توزع وتفرق، والمنح بسخاء لأهل الحاجة، ممن يغشون ساحة مولد العباسية».
وإلى جانب ذلك، كانت الولائم تُمدُّ على الموائد، في الكثير من السرادقات المقامة بالميدان الفسيح، يصيب منها المدعوون، ويتناول من ألوانها الوافدون، ولا يُحرَم منها أحد، على اختلاف طبقات الناس، وتباين حالاتهم، حتى وصل الأمر إلى أن أيام المولد كانت مواسم، ولياليه تعد بمنزلة الأعياد؛ إذ يعم خلالها السرور، ويتمتع بخيراتها كل رائح وغادٍ، من صنوف أبناء البلاد.
اتبعت وزارات الحكومة المصرية، في الاحتفال بالمولد النبوي، في عهد الملكية، سنناً وعاداتٍ وتقاليدَ، فكان لكلٍّ منها سرادق خاص تقيمه في ساحة المولد، تقوم على رعايته وعنايته، ويبدأ ذلك منذ مطلع شهر ربيع الأول، ويغشاه الزوار طوال أيام المولد ولياليه، من جميع طبقات الأمة، ويفد إليه الناس أفواجاً من سائر أنحاء البلاد.
ويقدم كل سرادق خاص بكل وزارة، لكل زائر ما تشتهيه نفسه، من أطيب المأكولات وأهنأ المشروبات، وأنواع الحلوى والمسكرات، ويتمتع الجميع بسماع آيات الذكر الحكيم من مشاهير القراء، وكذلك خطب الوعظ والإرشاد، وما يلقى إليهم من بدائع قصة الميلاد، وكل ذلك من ذوي الأصوات الحسنة والإلقاء الجيد.
ويؤكد السندوبي أن وزارة الأوقاف كان لها في هذا الشأن فائق السبق، ومتقدم الامتياز، فإنها كثيراً كانت لا تكتفي بما تصنعه في سرادقها من بالغ الحفاوة وعميم الإكرام، وما تبذله في أيام المولد ولياليه من صنوف الخير، وأنواع الإحسان والبر، بل مارست سنناً تفردت بها، كان أبرزها توجيه الدعوة إلى كبار رجال الدولة من الوزراء والوكلاء، وغيرهم من العظماء والوجوه والأعيان، وزعماء الهيئات من العلماء والأدباء، وسواهم من ذوي الأخطار وأرباب الوظائف.
وبناء على دعوة وزارة الأوقاف، يحضر المدعوون إلى الاحتفال الخاص الذي تقيمه عادة في صبيحة الليلة الختامية للمولد الشريف، حيث يستمعون إلى آيات الذكر الحكيم، من أفضل المقرئين، ويليها الاستماع إلى قصة المولد الشريف، وإذا ما انتهى قارئ القصة من إلقائها، وزِّعت أنواع الحلوى والمسكرات، وسائغ المشروبات، وتفرق الصدقات في الفقراء والمساكين وذوي الحاجة، ويكون بذلك يوماً من أجل أيام المولد الختامية، وأحفلها بالخير والبركات.
بتولي الملك فاروق (1937 - 1953) حكم مصر، سار على نهج والده، وتوسع في ذلك بشكل بلغ من الجمال ذروته، فكان الاحتفال أيضاً بالمولد النبوي في صحراء قايتباي، أو ما يطلق عليها ترب الغفير، لكنه اعتاد على التواجد في السرادق الملكي الخاص به بمظاهر اختلفت قليلاً عن والده.
وينقل حسن السندوبي ما شاهده بعينه في أحد أيام الاحتفالات في عهد الملك فاروق، فيقول: «من الليالي الغر التي لا أنساها ما حييت، ليلة الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1364هـ-24 فبراير/شباط سنة 1945م، التي تعد بحق مثالاً لما يجب أن يكون عليه الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في كل عام».
وبحسب المؤلف، شهدت ساحة المولد بصحراء قايتباي آنذاك معالم الزينة التي تأخذ بالألباب، ومظاهر الاحتفال التي بدت في شكل فخم، ونظام جليل؛ إذ أقيم في ميدان العباسية الفسيح السرادق الملكي البديع، وقد تجلى في زخارفه، وفُرش بالحلي الثمينة، وصُفَّت في رحابه الأرائك المحلاة بالذهب، وانتثرت في جنباته النمارق المصفوفة، واسترسلت في ساحاته الكِلَل الحريرية، ورُفعت على سواريه الأعلام الملكية، وعلقت في مداخله المصابيح الباهرة الأنوار، وفي سماواته الثريات الآخذة بالأبصار، الجاعلة الليل فيه كوضح النهار.
وعادة كانت تفرش أرض الميدان بالرمل الأصفر والأحمر، ويقف على أبوابه رجال الحرس الملكي في ملابسهم المزركشة، وشاراتهم الجميلة، وعلى مقربة من السرادق رجال البوليس وحراس الأمن لحفظ النظام، ومنع الزحام، وتسهيل حركة المرور، على الواردين في السيارات، والمقبلين في العربات، من مختلف الطبقات.
وبالطبع كان يفد على السرادق الملكي وزراء الدولة، وشيخ الأزهر وطوائف العلماء، ووكلاء الوزارات، ومديرو الإدارات، ورؤساء المصالح وكبار الموظفين، وقواد الجيش وصنوف الضباط وكبراء الأمة، وأعيان الناس من ذوي المراتب والألقاب، والجميع يقف في في جلال ووقار، انتظاراً لتشريف الملك، أو من ينتدب للإنابة عنه في حضور الاحتفال.
قبيل الظهر بساعة، يكون الجمع الحاشد في الانتظار، وتتعالى هتافات الجماهير المحتشدة على قوارع الطرق المؤدية إلى ساحة المولد، بحياة الملك فاروق، وحياة مصر الخالدة، فيكون ذلك إيذاناً بوصول الركب الملكي الفخم، ويقبل فاروق على هذه الجموع مشيراً بيده إشارة التحية والسلام.
وبمجرد وصول المركبة الملكية، قبالة السرادق الملكي، تسمع طلقات المدافع تدوي تحية للملك، وتتعالى أصوات قوات الجيش هاتفة بحياة القائد الأعلى، ثم تصدح الموسيقى بأنغامها الشجية بالسلام الملكي.
ويدخل الملك إلى السرادق الخاص به، وفي مشاهد خاصة بهذا العهد، كانت تبدأ الفرق العسكرية بالمرور أمامه، وبعد الانتهاء من ذلك، تتقدم بين يديه مشايخ الطرق الصوفية، برجالها ومريديها حاملين أعلامهم وشاراتهم، وكل شيخ يمر بين يديه يقف لقراءة الفاتحة، وتلاوة بعض الأدعية المأثورة، بطريقتهم المعروفة في القراءة والدعاء.
وبعدها توزع صنوف الحلوى، وأنواع المرطبات، ويتناول منها جميع الحاضرين، ويذهب الملك فاروق بنفسه إلى تشريف سرادق السادة البكرية، السيد أحمد مراد البكري، شيخ مشايخ الطرق الصوفية، وهناك يسمع قصة المولد النبوي، وبعض القراء يتلون آيات القرآن الكريم، وفي أثناء ذلك لا تنقطع المدافع عن دويها المطلق بنظام محكم.
وكان من الرسوم المقررة آنذاك أن يكون هناك نظام محكم في هذا الاحتفال؛ إذ تقيم كل وزارة سرادقها أمام السرادق الملكي، بنظام متسق، كل واحدة منها بجوار الأخرى، ويليها سرادقات خاصة بمجلسي الشيوخ والنواب، والأزهر الشريف، والخاصة الملكية، ومحافظة القاهرة، ومشايخ الطرق الصوفية.
ونختم هنا بما ذكره كريم ثابت، المستشار الصحفي للملك فاروق، في مؤلفه الذي حمل عنوان: الملك فاروق، واصفاً ما اعتاد عليه الملك في هذه الذكرى، قائلاً: «في كل عام يرأس جلالته (الملك فاروق)، الاحتفال الكبير الذي يقام في عاصمة المملكة، إحياءً لذكرى المولد النبوي الشريف، وبعدما يستمع إلى القصة النبوية الشريفة تعرض وحدات الجيش، وما هو جدير بالذكر هنا أنه عندما يجيء ذكر مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء تلاوة القصة النبوية الجيدة يقف جلالته إجلالاً لصاحب الذكرى، وإكباراً فيحذو جميع الحاضرين حذوه».