في مشهد النهاية لفيلم «الحرِّيف» يعود فارس إلى الشارع للعبِ مباراةٍ أخيرة، قبل أن ينتهي زمن اللعب للأبد. يستفسر عن النتيجة؛ فيُنبَّأ بأنها 4-0 للحريف الجديد، ليقرر بعدها أن يكون أحد طرفي تلك المباراة، لكن هذه المرة سيلعب مع الخسران.
وحتى يمضي الفيلم لنهايته المرجوَّة ويصالحُ الزمانُ فارس، وكلَّ فارسٍ؛ يحدث التغيير اللحظي وتنقلب الخسارة مكسبًا، بأقدامه بالطبع.
يمكن للمشاهد المتأمل أن يلحظ بسهولة كيف تغيرت ملامح المشجعين على أطراف ذلك الملعب الإسمنتي، من الانبهار بالحريف الجديد الذي لم يكن جبارًا أو شريرًا، وإنما أداة للكسب في يد سمسار الحريفة رزق/أبو رجل خشب كما كان فارس سابقًا، إلى التهليل والدعم الكامل للفريق الخاسر، وحثه على الفوز، والفرح المضاعف بفوزه غير المتوقع.
هذا المشهد السينمائي يحاكي كثيرًا من الواقع، وامتداده ذلك الميل للفرقِ المستضعفة Underdog، والرغبة في رؤيتها تُخرج الفرق القوية من طور الهيمنة والنصر إلى طور الإحراج والهزيمة.
فهل اللعب مع الخسران مجرد فكرة في فيلم عابر، أم ظاهرة نفسية اجتماعية راسخة لها حضور وأسباب؟ وهل تقتصر على قصص النجاح العادية أم لها جذور في الرياضات المختلفة؟ وما مداها وما مدى تأثر المتأثرين بها؟
يورغن كلوب أفضل من يمثل دور المستضعف. يمكنه أن يمثل ذلك الدور ويتحدث عنه طول الوقت، هذا جزء من شخصيته، وسبب أيضًا لحالة التعاطف معه ومع الفرق التي يدربها.
— المدرب الألماني توماس توخيل
تاريخيًا يعود وصف الأندر دوج لرهانات مصارعة الكلاب، التي كانت شائعة في أمريكا. الكلب الأكثر حظوظًا، والذي يراهن الكل عليه، يُدعى Topdog، أما الكلب الأضعف المتوقع خسارته فهو Underdog.
وهكذا أصبح مصطلح الأندر دوج يُستخدم في السياق الرياضي لوصف الطرف أو الفريق الأقل حظوظًا في الفوز، بحكم التاريخ أو الواقع أو كليهما في كثير من الأحيان.
في دراسة نُشرت في جريدة Sociology Of Sport Journal، وُصِف فريقان خياليان في كرة السلة يواجه بعضهما بعضًا في سلسلة من سبع مباريات، لمجموعة من الناس. وُصف أحد الفريقين على أنه الأقل حظوظًا مع سرد الأسباب، وكان الفريق الآخر على النقيض. كانت المحصلة أن 88.1% من تلك المجموعة قرروا تشجيع الفريق الأضعف. ثم عندما أُخبروا أن الفريق المرشح للفوز خسر مبارياته الثلاثة الأولى من السلسلة؛ أصبح في نظر نصفهم تقريبًا الطرف المستضعف، وتحولوا إلى تشجيعه.
يبدو ذلك تأكيدًا لحديث توخيل عن كلوب، فالجمهور يميل في معظم الأحيان لتشجيع الطرف المستضعف والتعاطف معه، حتى إن كان هذا الطرف ليفربول بحاضره وماضيه ولاعبيه وجمهوره، وإن لم يكن المثال الأكثر استحقاقًا لهذا الوصف.
ولا يقتصر ذلك على الرياضات فحسب، فقد وثقت دراسة تعود لعام 1980، في خضم السباق الرئاسي الأمريكي بين رونالد ريجين وجيمي كارتر، كيف يتغير التعاطف بتغير نتيجة السباق واستطلاعات الرأي؛ فإذا تقدم ريجين زاد التعاطف مع كارتر، والعكس.
فما الدوافع لهذا التعاطف في الرياضات التنافسية؟
يرى الشاعر والكاتب الآيسلندي كاري تولينيوس أن الدافع الأكبر لتشجيع الفرق المستضعفة، هو الدافع نفسه الذي تقوم على أساسه كل الثورات والحركات التحررية عبر التاريخ، وهو التحرُّق للعدل على إطلاقه.
ولأن كرة القدم، كما الحياة، لا مكان فيها للعدل المطلق – ولهذا السبب هناك طرف مستضعف دومًا - فبالطبع هناك حاجة قوية لرؤية الضعيف برغم أنف القوي، ولو لمرة واحدة. لكن هذا الضعيف يجب ألّا يكون مجرد الفريق الأقل حظوظًا، بل أيضًا الفريق الأكثر اتساقًا مع ذلك الحظ الضئيل.
تضمنت دراسة أجراها نداف جولدشمايد البروفيسور في قسم العلوم النفسية بجامعة سان دييغو، فريقين افتراضيين متباينين في المستوى وحظوظ المكسب والخسارة. لكن الفريق الأقل حظوظًا هو الأكثر إنفاقًا للأموال. فما كان من المشاركين في الدراسة إلا أن قتلوا بداخلهم الرغبة في فوز ذلك الفريق، وإن حدثت الخسارة المتوقعة فهو وحده المتحمل لأسبابها.
ألا يفسر ذلك شيئًا من حالة الفرح العارم لمعظم محبي الكرة، وإعجابهم بمعجزة ليستر عندما حقق لقب الدوري بلا أي حظوظ تقريبًا؟ يمكن أيضًا أن نجد مبررًا لحالة التشفي أو التهكم على خسائر فريق مثل تشيلسي، الذي أنفق تحت ظلال مالكه الأمريكي الجديد ما يقارب بليون باوند، وما زال يعاني.
تلك الحالة من غياب التعاطف مع تشيلسي من ناحية والرغبة في خسارة الفرق الكبرى من ناحية أخرى يمكن تفسيرها بالرغبة في التشفِّي والشماتة.
تلك الشماتة ليست مطلقة، وإنما لها دوافع ومحددات. كالكره المسبق لذلك الفريق القوي، أو الانتماء لغريمه التقليدي، أو التعرض لخسارة سابقة على يد هذا الفريق المستضعف، والرغبة في رؤيتها تتكرر مع فريق آخر. عندئذٍ تولِّد الخسارة إحساسًا بالفرح، وتوثق عُرى الانتماء لفريقٍ أو مجموعةٍ نشجعها، تلك الأحاسيس تُوصف في مثلٍ يُقال إنه شائع في الثقافة اليابانية: «لِتعاسات الآخرين مذاقُ العسل».
وبينما يمثل انتصار الطرف المستضعف حدثًا غير متوقع، فإنه يوافق هوًى كامنًا في الصدور، وعندما يحدث على غير انتظار أو توقع؛ فإن الفرح الناتج عنه يفوق الفرح العادي بأضعاف. وتلك حقيقة النفس البشرية - كما أثبتت الدراسات والواقع - التي تشعر بفرح مضاعف من الأحداث الإيجابية غير المتوقعة، وتشعر كذلك بألم لا نهائي جراء الخذلان والخسارة والفشل غير المتوقعين تمامًا.
إذن فهي مقامرة مأمونة العواقب، أفضل احتمالاتها فرح غير عادي بانتصار غير متوقع، وأسوءُها خسارة لا تجرح ولا تجعل النوم يُجافي المضاجع؛ لأن تشجيعنا لهذا الفريق ليس دائمًا ولا حقيقيًا ولا تربطنا به صلة طويلة الأمد.
ولكن …
تخيل لو أن فريقًا صعد لدوري الدرجة الأولى بعد رحلة شاقة، بجهود لاعبيه المغمورين، ومدربه اللاعب السابق في النادي، بلا خزانة مفتوحة لتعاقدات كبيرة، فقط قوة الصداقة والبدايات المتعثرة، التي سرعان ما انقلبت لسلسلة من الفوز المتتالي، والبُعد عن مناطق الهبوط والاحتماء بالمنطقة الدافئة.
قصة رائعة، وشرحٌ وافٍ وفير لمعنى الأندر دوج، أليس كذلك؟
الآن تخيل فريقك الذي ينافس على اللقب في جولاته الأخيرة، ويحتاج كل فوز ممكن، وتواجه الفريقان. هل ستقبل بخسارة أمام خصم اكتسب احترام الجميع وصارع المشقات وصرَعها؟ أم ستشعر بسعادة غامرة، لو حطم فريقك أحلام أولئك الحالمين وكسر شوكتهم؟
حاول سكوت أليسون، البروفيسور في علم النفس بجامعة ريتشموند، الإجابة على هذا السؤال من خلال تجربة اجتماعية، عُرض على المشاركين فيها الاختيار بين شركتين: إحداهما ناشئة تشق طريقها في هذا المجال الصعب، والأخرى لها تاريخ عتيق في ذلك التخصص، لإجراء بعض الاختبارات على جودة مياه الشرب في منطقة ما.
تحمس أكثر من نصف المشاركين للشركة الناشئة، وأظهروا رغبةً واضحةً في وقوع الاختيار عليها.
عندما أُضيف مُعطى جديد في تلك المنافسة، وهو أن الشركة المختارة ستختبر مياه الشرب من مواد كيميائية مسرطنة في مدينتهم التي يعيشون فيها؛ انقلبت النتيجة تمامًا لصالح الشركة القديمة الأكثر خبرة.
يُفسر أليسون ذلك بأن التعاطف يقل أو يختفي تمامًا، حين يكون هناك شيء حقيقي على المحك يمكن خسارته. مثل لقب الدوري الذي قد يخسره فريقك إن تعادل أو خسر، أمام ذلك الفريق الصاعد الحالم، وستظل أنت حبيس الفشل والإخفاق والخذلان المنعكس عليك من خسارة فريقك.
الآن، صار من المفهوم لماذا اختار فارس أن يلعب مع الخسران، لأن الفوز المتوقع لا يوحّد الناس على الدهشة، ولأن تحقق العدل في الدنيا ولو لتسعين دقيقة أو أكثر قليلًا، في بقعة معزولة عن الحروب والمجاعات، يُشفي صدور الأسوياء من البشر؛ ولأن الفرح العارم الذي يقتحم وليمة الأيام العادية ولم يدعه أحد؛ يمنحها عذوبةً آسرةً لا مثيل لها، ولأن فارس وجَّه صفعته لأبو رجل خشب وليس لنا.