مجتمع

الكونجرس الأمريكي يصفق لنابليون بونابرته

كان نابليون مهندس الإبادة الجماعية الحديثة ولو ذهب للكونجرس لاستقبل كما استقبل آخر رجل دولة بالتصفيق الحاد، بقدر كل مجزرة ترتكب وكل دم يراق من دمائنا.

future صورة تعبيرية: نابليون بونابرت في الكونجرس الأمريكي

(1)

منير العكش يقول، إن الدين المدني انحدر من عقائد طائفة البيوريتان (التطهريين) الطائفة التي هاجرت من أوروبا إلى أمريكا الشمالية، ومن تراثها أن المرجع النهائي للدولة هو رب العهد القديم يهوه، ويهوه كان يقبل إفناء القبائل الأخرى، ويقبل قتل النساء وقتل الأطفال، و... و... و... غير ذلك، هذا هو الدين المدني.

عندما سألت الدكتور مازن النجار عن أمريكا وكيف يرى الأمريكان القضية الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي حيث كان هناك، ذكر لي هذه العبارة وذكر لي اسم منير العكش، وأنه أستاذ يدرس التاريخ الأمريكي وتاريخ الشرق الأوسط ومتخصص في مأساة الهنود الحمر، وبمجرد أن بحثت عن منير العكش ظهرت لي أسماء كتبه المدهشة: «أمريكا والإبادات الجماعية، أمريكا والإبادات الثقافية، أمريكا والإبادات الجنسية»، وأخيراً تلمود العم سام بعنوان فرعي: «الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا».

(2)

المادة الأولى: جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية. فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء. كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر.

المادة الثانية: كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار

— من مواد المنشور الأول لنابليون بونابرت بعد احتلال الإسكندرية في حملته على مصر 1897

(3)

في كتابها المهم «الصهيونية غير اليهودية... جذورها في التاريخ الغربي» تورد ريجينيا الشريف في صدر الكتاب فقرة مهمة تعزوها للمؤرخة الأمريكية بربارة توخمان تلخص فيها دراستها عن الارتباط الصهيوني الإنجليزي المبكر فتقول: «لقد كانت البوادر الأولى التي دفعت إنجلترا البيوريتانية للاهتمام بإحياء إسرائيل دينية في أصلها، وقد تولدت عن سيطرة العهد القديم على عقل وإيمان الحزب الذي كان في السلطة في أواسط القرن السابع عشر».

وهو نفس المفهوم الذي يفصل فيه العكش في كتابه «حق التضحية بالآخر... أمريكا والإبادات الجماعية» بشيء أكثر تفصيلاً عندما يتحدث عن قصة الحجاج الإنجليز الأوائل للقارة الأمريكية، وهو على طوله لا بد من إثباته كما هو حيث يقول: تعد قصة هؤلاء «الحجاج» الإنجليز الذين أسسوا أول مستعمرة في ما صار يعرف اليوم في الولايات المتحدة بإنجلترا الجديدة، الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأمريكي ومركزيته الأنكلوسكسونية. ولا يزال كل بيت أمريكي يحتفل سنوياً في «عيد الشكر» بتلك النهاية السعيدة التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني «وخروجهم» من أرضه، و«تيههم» في البحر، و«عهدهم» الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع يهوه، ووصولهم في النهاية إلى «أرض كنعان». كل تصورات العبرانيين القدامى ومفاهيمهم عن السماء والأرض والحياة والتاريخ زرعها هؤلاء المستعمرون الإنجليز في أمريكا التي أطلقوا عليها اسم «أرض الميعاد» و«صهيون» و«إسرائيل الله الجديدة» وغير ذلك من التسميات التي أطلقها العبرانيون القدامى على أرض فلسطين. وقد استمدوا كل أخلاق إبادة الهنود (وغير الهنود أيضاً) من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين أرض كنعان. كانوا يقاتلون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون فضلهم الله على العالمين وأعطاهم تفويضاً بقتل الكنعانيين، بل كانوا يسمون أنفسهم بالمستعبرين Hebriests. وكانت تلك الإبادة (الأكبر والأطول في التاريخ الإنساني) الخطوة الأولى على الطريق إلى هيروشيما وفيتنام. إنهم كما يقول الحاخام المؤرخ «لي ليفنغر» Lee Levinger «أكثر يهودية من اليهود» لأنهم يعتبرون أنفسهم «يهود الروح» الذين عهد الله إليهم ما عهد إلى «يهود اللحم والدم» قبل أن يفسدوا ويتخلوا عن أحلام مملكتهم الموعودة.

أغلفة كتب «أمريكا والإبادات الجماعية»، «أمريكا والإبادات الثقافية»، «أمريكا والإبادات الجنسية»، وأخيراً «تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا»

(4)

«ليس الهولوكوست الأمريكي تاريخاً مضى وانقضى، إنه واقع يعيشه العالم، وإنه خطر يهدد الإنسانية بمصير الهنود الحمر»

— وينونا لادوك Winona LaDuke، مرشحة نائب الرئيس الأمريكي عن حوب الخضر 1996 - 2000

(5)

لم يكن الدين وحده هو العامل الأوحد لتلبس هذه الروح الصهيونية/الاستيطانية في المستعمر الأوروبي ولكنها كانت مزيجاً من الفكرة الدينية والبراجماتية معاً، سواء بهدف الربح من وراء إقامة دولة استيطانية في المنطقة أو المساعدة في أي حرب محتملة. فالدين وحده لم يكن كافياً، إذ إن شعور البيوريتانيين الغامض بالتآخي مع أبناء إسرائيل ... ما كانت لتؤدي لنتائج عملية لو لم تتدخل المنفعة السياسية. فقد كان الحافز لاهتمام اللورد كرومويل (1599 – 1658) باقتراح مناسب هو نفسه الذي جعل رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج (1863 – 1945) يهتم باقتراح حاييم وايزمان بعد 10 أجيال، وهو اعتقاد كلا الرجلين بأن اليهود قادرون على تقديم العون في وقت الحرب، ومنذ عهد الأول أصبح أي اهتمام بريطاني بفلسطين يعتمد على دفاعين متلازمين: دافع الربح، تجارياً كان أو استعمارياً أو عسكرياً، والدافع الديني الموروث في الكتاب المقدس [1].

ولم يكن البريطانيون/الأمريكيون لاحقاً يفكرون في هذا وحدهم، بل الفرنسيون أيضاً ينافسونهم في ذلك، ففي الرسالة التي انتشرت بين الإيطاليين باسم نابليون بونابرت حرص فيها على صياغة حدود لدولة إسرائيل المقترحة بعبارات تجارية أكثر منها توراتية: «إن الدولة التي ننوي إقامتها ستشمل مصر السفلى إضافة إلى منطقة يحدها خط يمتد من عكا إلى البحر الميت .. وهذا الموقع الذي يعد أكثر المواقع فائدة في العالم سيجعلنا، عن طريق السيطرة على ملاحة البحر الأحمر، سادة تجارة الهمد والجزيرة العربية وجنوب وشرق أفريقيا والحبشة وإثيوبيا...».

ويشير المؤرخ اليهودي المعروف سالو بارون Salo Baron إلى أن اقتران الصيغ التجارية والتوراتية أمر له دلالته، وإن كانت غير مهمة بالنسبة لأن حملة نابليون قد خفقت بشكل كامل حيث لم يبقَ من أثره إلى مجسم حديدي على تبة في عكا، سميت باسمه تخليداً لحملته الفاشلة عام 1799.

(6)

قلة فقط هم الذين لا يجهلون الآن حقيقة أن نابليون بونابرت كان أول رجل دولة يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين قبل وعد بلفور بـ118 سنة، بل إن وايزمان وصف نابليون بأنه «أول الصهيونيين الحديثيين غير اليهود»

— ريجينيا الشريف، «الصهيونية غير اليهودية... جذورها في التاريخ الغربي»

كتب: «الصهيونية غير اليهودية... جذورها في التاريخ الغربي» - «تاريخ الحركة القومية» لعبدالرحمن الرافعي - «ودخلت الخيل الأزهر» لمحمد جلال كشك

(7)

نحن نتحدث هنا عن زعيم أوروبي، لكنه ليس هتلر، هو رجل لا يزال عديد من المفكرين في العالم العربي يعتبرونه قائداً لحملة التنوير التي جاءت إلى القاهرة لتخرج الناس من ظلمات العهد الإسلامي البائد إلى نور الحرية والإخاء والتسوية (المساواة حالياً) الفرنسية، لكن مارلين داوت Marlene L. Daut الأستاذة في التاريخ الفرنسي والأمريكي تكتب في 2021 مقالاً بمناسبة احتفاء فرنسا بـ200 عام على نابليون بعنوان: نابليون ليس بطلاً يحتفى به، ربما أبرز ما جاء فيه أنها وصفته بـ«مهندس الإبادة الجماعية الحديثة».

لكن هذه الإبادة الجماعية أو بنسخة مخففة منها يمكن أن نقول سياسة العقاب الجماعي لم تكن تطبق إلا على الشعوب غير الأوروبية، الرجل غير الأبيض، فكما ثارت مارلين على نابليون من أجل أسلافها من هاييتي، فإن في القاهرة نجد عبدالرحمن الرافعي قد التقط إشارة مهمة من منشور نابليون الأول إلى أهل مصر: «إن منشور نابليون مع ما فيه من الوعود والعبارات الجميلة قد حوى مبدأ التهديد والوعيد وإنذار المصريين باستهدافهم لأشد أنواع الأذى إذا هم لم يذعنوا للحكم الفرنسي، لأن إنذار القرى بإحراقها بالنار إذا هي خرجت على الجنود الفرنسية أمر لا يتفق والقواعد الإنسانية في معاملة الشعوب، ولم نرَ في منشورات نابليون للإيطاليين أثناء حروب إيطاليا تهديداً من هذا النوع، وسيرى القارئ خلال الفصول القادمة أن الفرنسيين استعملوا طريقة إحراق القرى في كثير من المواطن، فكان ذلك تنفيذاً لما حواه منشور نابليون من التهديد والوعيد، ولنا أن نفهم من هذا أن نابليون كان ينظر للأمة المصرية بغير العين التي ينظر بها إلى الأمم الأوروبية».

ولكن نابليون لم يكن في حاجة لتأكيد منشوره بأحداث لاحقة، فتعامله مع أهالي الإسكندرية بعد أن قضى على حاميتها خير شاهد على هذه  السياسة، ففي الكتاب الشهير لمحمد جلال كشك (ودخلت الخيل الأزهر) يرجع الكاتب المستنفِر سلوك نابليون وجنده إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى ثمانية قرون للوراء، إذ يورد في الفصول الأولى للحملة الفرنسية بأنه «على الرغم من مرور ثمانية قرون بين الحملة الصليبية الأولى التي أطلقها بطرس الناسك، وبين الحملة التي أطلقتها الثورة الفرنسية، فإن سلوك الجند في الحملتين لم يختلف كثيراً». ولعلنا نجد تشابهاً عجيباً بين الرسالة التي بعث بها المنتصرون في القدس منذ 700 عام إلا عاماً واحداً.. إلى البابا الذهبي أربان يبشر بأن «خلينا تغوص إلى ركبها في دماء الشرقيين في بيت المقدس» وبين رسالة ادجوتاتن جنرال بواييه، أحد هيئة أركان الحرب العامة الذي كتب لوالديه يقول: «حين دحر المدافعين على جميع الجوانب (وهنا معنى مباشر بأن المدافعين المسلحين قد تمت هزيمتهم ولم تعد هناك حتى أي جيوب تقاوم)، احتموا بإلههم ورسولهم، فملأوا الجوامع. وذبح الرجال والنساء، الكبار والصغار، وحتى الأطفال، عن بكرة أبيهم. وبعد نحو أربع ساعات هدأت سورة جنودنا في النهاية»!

(8)

اعتلقت الشرطة الإسرائيلية شاباً من طمرة في العشرينات من العمر بعد أن قام مساء أمس، باستبدال العلم الإسرائيلي بالفلسطيني على تمثال نابليون في عكا، كتابة عبارات ضد «إسرائيل» إضافة إلى عبارات أخرى على التمثال. وقال الناطق بلسان الشرطة، على أن الشرطة تقوم حالياً بالتحقيق مع العربي بشبهة تشويه رموز تاريخية.

— وكالة سما الإخبارية – القدس –  بتاريخ 2 فبراير – 2012

(9)

وقف نتنياهو في الـ24 من يوليو أمام الكونجرس ليلقي خطابه، وتوقف عند عملية رفح الأخيرة بعدما زار محور فلادليفيا قبل أيام من توجهه إلى الولايات المتحدة وقال: «بصفتي القائد، سألت قائد هذه الوحدة كم إرهابياً قتلتم في رفح؟ فقال لي: 1203، ثم سألته: كم مدنياً قتلتم، قال لي: صفر تقريباً، ولا مدني، باستثناء حادثة واحدة، حيث اصطدمت شظايا من قنبلة معينة وقتلت تقريباً 10 أشخاص، وباستثناء هذه الحادثة، الجواب هو صفر تقريباً، لأن إسرائيل أبعدت المدنيين عن مواطن الخطر».

خلال الـ10 أشهر الماضية منذ السابع من أكتوبر وجدنا عشرات المقابلات التلفزيونية لشخصيات إسرائيلية تقرر أصلاً أنه لا يوجد مدنيون في غزة، بل طلع علينا ذات مرة حاخام صهيوني يبرر قتل الأطفال لأنهم حينما يكبرون سيتحولون إلى إرهابيين، فنحن نقتلهم من الآن لأنهم مشاريع أعداء لدولة إسرائيل، ربما هذا الخطاب صادق جداً، فهو يعتبر أن المقاوم، ومن يحمي المقاوم، ومن يتبنى المقاومة، ومن يجلس حتى في أرضه ولا يريد أن يبرحها، كل هؤلاء مجاهرين بالعداوة، مستحقين للموت، وهو غير بعيد عن الشهادة الثانية في كتاب ودخلت الخيل الأزهر بعد شهادة الفقرة السابقة مباشرة لأحد جنود الحملة الفرنسية حيث يقول، «ظننا أن المدينة استسلمت، ولشد ما أدهشنا أن ينهال علينا رصاص البنادق ونحن نمر أمام أحد المساجد .. فأمرنا قائد اتفق وجوده هناك أن نقتحم باب المسجد ولا نبقي على أحد فيه. وهكذا هلك الرجال والنساء والأطفال بحد السناكي.. ولكن لما كانت العواطف الإنسانية أقوى من الانتقام، فقد توقفت المذبحة حين تعالت أصواتهم طلباً للرحمة، فاستحيينا ثلثهم» [2]

(10)

موجة من حالات الصدمة اعترت رواد منصات التواصل الاجتماعي بعدما صفق الكونجرس الأمريكي لنتنياهو 81 مرة في خطاب استغرق 52 دقيقة، لم أجد أي موقع عربي نقل أو ترجم الخطاب كاملاً، قرأته من موقع Times of Israel The وتأثرت كثيراً بالقصص العاطفية التي غص بها الخطاب، والحكايات المأساوية تارة، والبطولية تارة أخرى لمواطنيه في مواجهة الهمجية المتطرفة كما سماها في صراعها من الحضارة التي تمثلها إسرائيل وأمريكا بالطبع، شعرت بكل موضع تصفيق، لكن هذه المرة شعرت كذلك بالدافع الكامن وراء كل يد تصفق، ليست حبكة القصة، ولا الملكة الخطابية، ولا المصالح البراجماتية، وإنما كما قال عدد من المغردين الأمريكيين إن هذا التصفيق لا يمكن أن يحظى به نتنياهو في الكنيست الإسرائيلي نفسه، أو كما عبر الحاخام ليفنغر بأنهم: «أكثر يهودية من اليهود».

لقد كان نابليون أول رجل دولة يستخدم اللغة التوراتية والبراجماتية في تحفيز اليهود كي ينضموا لحملته ويستوطنوا فلسطين، وكان هو مهندس الإبادة الجماعية الحديثة على الرغم من مساحيق التجميل التي توضع له منذ قرنين من الزمان، مساحيق مقززة لا تختلف كثيراً عن تلك التي وضعتها فرنسا لمجموعة من المسوخ منذ أيام في حفل افتتاح دورة الأولمبياد 2024 ، ولو ذهب إلى الكونجرس لاستقبل كما استُقبل آخر رجل دولة - ستنهار إسرائيل من بعده كما نستبشر جميعاً– بالتصفيق الحاد، بقدر كل مجزرة ترتكب، وكل دم يراق، من دمائنا.

 

# الولايات المتحدة الأمريكية # إسرائيل # نابليون بونابرت

[1] الصهيونية غير اليهودية، ريجينيا الشريف، ص 37 بتصرف
[2] بونابرت في مصر، كريستوفر هيرولد
«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
من هو ماركو روبيو المرشح لمنصب وزير الخارجية الأمريكي؟
هيجسيث: وزير دفاع يكره المرأة في الجيش الأمريكي

مجتمع