معرفة

الكنيسة والشيوعية: من محاربة الأغنياء إلى اغتيال الدين

ما أبرز الأفكار الثورية والتعاليم المسيحية التي اهتمت بالفقراء، وكيف يمكن مقارنتها بالشيوعية الحديثة، وهل كان لها أثر على الحركات الشيوعية في العالم؟

future صورة تعبيرية: (الكنيسة والشيوعية)

لم يكن المسيح مجرد رجل نادى بالأخلاق القويمة والمُثل الإنسانية العليا فحسب، فقد كان له تأثير ثوري حاسم على المجتمع اليهودي آنذاك، ومن بعده على العالم أجمع.

من بين أهم ما ظهر في الأفكار الثورية التي أتى بها المسيح التعاليم التي أخذت جانب الفقراء على نحو حاد وواضح، واستعدت الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال ونفوذهم وسلطاتهم، بل واستعدت حتى المال نفسه.

تلك الأفكار والتعاليم التي ورثها رسل المسيح من بعده، وبشروا بها في أنحاء العالم القديم خلال رحلات الكرازة والتبشير، وأسسوا عليها المجتمعات المسيحية الأولى. فما أبرز تلك التعاليم والممارسات التي اهتمت بالفقراء، وكيف يمكن مقارنتها بالشيوعية الحديثة، وهل كان لها تأثير فعلي على الحركات الشيوعية في أنحاء العالم؟

المسيح لا يحب الأغنياء

ظهر المسيح في فلسطين في عصر من عصور الاضمحلال الكثيرة التي مر بها المجتمع اليهودي في الأزمنة القديمة، إذ كانت فلسطين واقعة تحت احتلال أعتى قوة سياسية في العالم آنذاك، الإمبراطورية الرومانية.

وكما الحال في طبيعة أي مجتمع محتل، عج المجتمع اليهودي المقهور من قبل الرومان بالفقر والبؤس والتشرذم والفروقات الطبقية الكبيرة، إذ انقسم اليهود في فلسطين بين طبقة من الفقراء الذين يعملون مقابل قوت يومهم، وطبقة أخرى من رجال الدولة والدين الأثرياء، والذين كانوا يوالون الاحتلال الروماني بطبيعة الحال.

من تلك النقطة كان ظهور المسيح محوريًا، حيث انحاز المسيح منذ اليوم الأول لطبقة الفقراء، فاتخذهم أصدقاء له، وعاش في بيوتهم، كما احتقر الأغنياء، وضرب بهم الأمثال في الجشع والشر والفجور.

يتجلى ذلك الانحياز في أشهر خطبة ألقاها المسيح، والمعروفة بالموعظة على الجبل، التي أرسى فيها الخطوط العريضة لمنهجه الفكري والروحي، حيث قال المسيح في إنجيل متى الإصحاح السادس العدد 24: «لا يستطيع أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال».

هنا يضع المسيح، صراحة ودون ريب، المال نقيضٌ لله، خطان متوازيان لا يلتقيان أبدًا، فلا يمكن أن يكون المؤمن مؤمنًا بحق إلا لو تخلص من السعي خلف المال.

لم تتوقف بيانات المسيح ضد الثراء والأثرياء عند هذا الحد، فقد عرج على مبدأ التراكم الرأسمالي كذلك، ولكن بصورته الشعبية البسيطة طبعًا، فيُذكر في إنجيل لوقا الإصحاح 12 بداية من العدد 10، أن رجلًا من التابعين طلب من المسيح أن يحث أخاه على أن يعطيه حقه من الميراث، فضرب المسيح مثالًا برجل غني أخذ في جمع الثروات والتخطيط لينعم بها طوال سنوات مديدة، ويمنّي نفسه بالراحة والأمان المادي، ثم وفي لحظة يموت وتذهب أمواله وأمنياته هباءً منثورًا.

كان المسيح يستغل أي فرصة للتذكير بأن الثراء نقمة، وأن السعي وراء المال خدعة تنطلي على النفوس الضعيفة، وأن على الأغنياء توزيع ثرواتهم على الفقراء.

أما عن التوزيع العادل للثروة، فكان له مساحة من التعاليم التي استهدف بها المسيح رأس المال وأصحابه، فيروي مرقس في إنجيله في الإصحاح العاشر بداية من العدد 17، أن شابًا غنيًا اعترض المسيح في أثناء مروره، وسأله كيف يمكن له أن يدخل الجنة، فأجابه المسيح بأن يذهب ويبيع كل أملاكه، ويعطي أثمانها للفقراء.

فتحول وجه الشاب إلى العبوس والحزن ومضى مكتئبًا؛ لأنه كان ذا ثروة كبيرة، وفي حينها نظر المسيح إلى الجموع وقال لهم: «مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».

هكذا كان يستغل المسيح أي فرصة للتذكير بأن الثراء نقمة، وأن السعي وراء المال خدعة تنطلي على النفوس الضعيفة، وأن على الأغنياء توزيع ثرواتهم على الفقراء.

الكنيسة: المجتمع الشيوعي الأول

بعد موت المسيح بحسب العقيدة المسيحية، ظل تلاميذه في مدينة أورشليم يجتمعون يوميًا للصلاة، إلى أن بدأوا في التبشير برسالة المسيح، فانضم إليهم فقط خلال الأيام الأولى أكثر من خمسة آلاف شخص، إذ كانوا يتمتعون بألسنة مفوهة وقدرات استثنائية على التأثير في الجموع.

أصبح هذا العدد الكبير من المسيحيين الجدد هو النواة الأولى للكنيسة، التي عرفت أول شكل لها بمدينة أورشليم، حيث كان يجتمع المؤمنون برفقة الرسل يصلون ويأكلون معًا، كما كانوا يتشاركون حل المشكلات الاجتماعية والمادية، وكان التركيز في هذه النقطة على مساعدة الحلقات الأفقر والأضعف من المسيحيين الجدد.

كان المؤمنون الأوائل يبيعون ممتلكاتهم، ويعطون أثمانها للفقراء لسد احتياجات الجميع، إذ كان الجميع يؤمن بأن أمواله ليست ملكًا له، بل هي شيء مشترك وملكية عامة.

سرعان ما تحولت الكنيسة الأولى في أورشليم إلى مجتمع صغير، أو ربما حتى دولة داخل الدولة، فقد أرسى الرسل مجموعة من السياسات الاقتصادية التي كانت تهدف لسد الفجوات بين الطبقات من خلال إجراءات لا يمكن وصفها بلغة اليوم إلا بالشيوعية.

يذكر سفر أعمال الرسل في إصحاحه الثاني أن المؤمنين الأوائل كانوا يبيعون ممتلكاتهم، ويعطون أثمانها للفقراء لسد احتياجات الجميع، كما أنه لم يكن هناك مساحة في الكنيسة الأولى لخطاب الملكية الفردية حتى، إذ كان الجميع يؤمن بأن أمواله ليست ملكًا له، بل هي شيء مشترك وملكية عامة.

كما كان هناك سلطة مركزية تنظم تلك الإجراءات، وتهتم بالتوزيع العادل للثروة على الجميع، وقد تمثلت تلك السلطة في الرسل الاثني عشر، حيث كان يعطي المؤمنين الأثرياء أموالهم للرسل، ومن ثم يوزعها الرسل على الفقراء والمحتاجين من المؤمنين كلٌ بحسب احتياجه.

وقد نجحت تلك السياسة في القضاء على الفقر داخل المجتمع المسيحي فعلًا، إذ يذكر الإنجيل أنه لم يكن هناك محتاج بين المؤمنين في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة الأولى.

وكما الحال في أي مجتمع تنظمه مجموعة من القوانين والسياسات، كان هناك آلية عقابية للمخالفين، وربما كانت أكثر قسوة من شكلها الحالي.

يروي سفر أعمال الرسل في الإصحاح الرابع قصة زوجين من المؤمنين يدعيان حنانيا وسفيرة يمتلكان حقلًا، وكما يفعل المؤمنون جميعهم، باع الزوجان الحقل وذهب حنانيا إلى بطرس الرسول، وأعطاه ثمن الحقل، ولكن بعد أن اختلس جزءًا من الثمن لنفسه.

كان بطرس يعرف بالأمر، فواجهه بحقيقة اختلاسه، وقال له إنك كذبت على الله، ولم تكذب على الناس، فوقع حنانيا ميتًا في الحال عقابًا من الله.

ثم بعدها بثلاث ساعات جاءت زوجته سفيرة إلى بطرس، ولم تكن تعرف ما دار بينهما من حوار، فسألها عما إذا كان مبلغ التبرع هو الثمن الحقيقي للحقل، فأجابت بالإيجاب، فقال لها بطرس إن الرجال الذين دفنوا زوجك سوف يدفنونكِ أنت أيضًا. ووقعت سفيرة جثة هامدة على الفور.

انتشرت أخبار تلك الواقعة بين جموع المؤمنين سريعًا، وصار خوفًا عظيمًا في أرجاء الكنيسة، وبات الأمر واضحًا كالشمس، من يختلس من أموال المؤمنين، حتى وإن كانت تلك الأموال هي أمواله في الأساس، ينال عقابه فورًا من الله، يموت.

السوفييت واللاتينيون

بالطبع لم يبقَ المجتمع المسيحي على هذا الحال دومًا، فمع انتشار المسيحية وتوسع رقعة المؤمنين بها، وخصوصًا بعد تحول الإمبراطورية الرومانية إلى الإيمان بالمسيحية، أخذت المسيحية تتخلص تدريجيًا من نزعتها الثورية، وتأخذ أشكالًا مؤسسية تناسب وضعها الجديد كدين للحكام والسلطة.

ذلك الأمر الذي فطن له مؤسسو أهم تجربة شيوعية في التاريخ البشري، الاتحاد السوفييتي، إذ حارب البلاشفة الدين بضراوة كبيرة، وخصوصًا المسيحية، دين المجتمع الروسي.

فقد أغلق السوفييت الكنائس والمدارس الدينية، واضطهدوا رجال الدين المسيحي إما بالاعتقال أو بالاغتيال، كما أسسوا منظمات تدعو إلى الإلحاد من أجل الترويج لمذهب المادية التاريخية الذي يعد الأساس النظري للشيوعية.

إجمالًا، لم يرَ السوفييت أي إمكانية للاستفادة من النزعة الشيوعية للمسيحية لخدمة أهدافهم السياسية، بل على العكس تمامًا، وضعوا المسيحية في الخندق نفسه مع الرأسمالية، باعتبار أنها منظومة فكرية تخدم المجتمع الرأسمالي من خلال إخضاع الفقراء ذهنيًا لسلطة الأغنياء ورأس المال.

لكن في أقصى الجنوب الغربي، في أمريكا اللاتينية تحديدًا، كان هناك قصة أخرى، فلقد نشأت في القارة اللاتينية خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين حركة فكرية قادها رجال الدين المسيحي سميت بلاهوت التحرير، حيث اعتمد لاهوت التحرير أساسًا على التوفيق بين الدين المسيحي والتحليل الماركسي للاقتصاد الرأسمالي من أجل معالجة قضايا الفقر والظلم والتخلف التي كانت تضرب المجتمع اللاتيني آنذاك.

تلك الحركة التي لم تعتمد فقط على التعليم النظري، بل انخرط رجالها من الكهنة المسيحيين على نحو مباشر في العمل السياسي المناهض للرأسمالية والاستعمار في دول أمريكا اللاتينية، إذ شاركوا في المظاهرات والاحتجاجات، واستخدموا مكانتهم الدينية لحشد الناس وتسليط الضوء على قضايا الفقر والظلم والاستغلال، بل ودفع كثير منهم حياته بسبب المواقف السياسية.

مع توسع حركة لاهوت التحرير وزيادة زخمها وتأثيرها بين الناس، سارع الفاتيكان فورًا باتخاذ إجراءات ضد أفكار الحركة، حيث صدرت وثيقتان خلال ثمانينيات القرن الماضي أشرف عليهما الكاردينال جوزيف راتزينغر، الذي أصبح لاحقًا البابا بنديكتوس السادس عشر، تحذران من خطورة استخدام الأفكار الماركسية في الشؤون اللاهوتية، وتدينان اعتماد الحركة على الأفكار العلمانية.

لكن رغم ذلك، لم تؤثر تلك التحركات المؤسسية من كنيسة روما الأوروبية على الكنيسة اللاتينية الثائرة، حيث ظل فكر لاهوت التحرير حاضرًا طوال العقود الأخيرة، بل ولا تزال الأفكار الثورية التي تبنتها الكنيسة اللاتينية ذات حضور بارز في تصورات المسيحيين اللاتينيين عن الإيمان والدين وعلاقته بالسياسة وقضايا المجتمع حتى يومنا هذا.

ربما يعود ذلك إلى التباين الكبير بين المجتمع الأوروبي ونظيره اللاتيني، من حيث التاريخ وطبيعة الصراعات والمنظومة الاقتصادية وعلاقتها بالعولمة، والكثير من المتغيرات الأخرى.

في النهاية لا يستطيع الإنسان إلا أن يناضل من أجل وجوده، ومن أجل حياته، مستعينًا بالتحليل الماركسي تارة، وبالتعاليم المسيحية تارة أخرى، أو بكليهما معًا، من أجل هدف واحد، هو أسمى الغايات الإنسانية، الحرية.

# الشيوعية # الكنيسة # الفقر

معرفة