رياضة

الكثير من جوارديولا لا يضر: هل أسكت الفيلسوف مدرجات البريميرليج؟

كيف تستفز بعض أساليب اللعب حماسة الجمهور أكثر من غيرها، في حين تدعو أساليب أخرى متابعيها للنعاس؟

future بيب جوارديولا، المدير الفني لفريق مانشستر سيتي

قبيل بداية الموسم الماضي الذي عاد فيه نادي بيرنلي الإنجليزي بقيادة فينسينت كومباني إلى البريميرليج بعد هبوطه؛ نشرت قناة «Paddy Power» عبر «يوتيوب» إسكتشاً ساخراً يصور انطباع شريحة من جمهور بيرنلي عن المدرب البلجيكي وأسلوب لعبه، ممثلاً في أحد المشجعين الأوفياء العجائز.

يتحسر العجوز على السنوات العشر الخوالي التي كان يقف فيها شون ديتش بِدوجلسِه المميز على الخط، يصرخ في اللاعبين ويقدم 90 دقيقة أو أكثر من الكرات الطويلة العالية والصراعات الهوائية والدفاع المستميت.

يعترف العجوز أن كرة ديتش كانت سيئة، وكانت تؤلم عنقه لكثرة ما كان يتابع الكرة صعوداً وهبوطاً، لكنه أحبها بقدر ما كره نوعية الكرة التي يقدمها كومباني، حتى ولو كانت تلك الكرة من أعادتهم لدوري الأضواء والشهرة وكسبت لهم بطولة الشامبيون شيب.

«إن الكرة التي جعل كومباني فريقنا يلعبها، لا مكان لها في ملعبنا تيرف مور. الأظهرة المقلوبة! والأجنحة التي تقطع الملعب وتسدد من أي مكان! وحراس يركلون الكرة بطراوة للخلف بدلاً من قذفها عالياً للأمام! إنها النسخة الرديئة من مانشستر سيتي».

يلملم العجوز الساخر شتات نفسه، ويقول بنبرة عميقة لا تخلو من الجدة والحسرة: إنني أريد استعادة ناديي الذي أعرفه!

الإسكتش ساخر بالطبع، والتشابه بينه وبين الواقع وارد أن يكون حقيقياً ومقصوداً، ولكن ما الذي أغضب هذا العجوز فيما رآه حتى قال ما قاله؟ ألا تغفر النتائج تغير الوسائل، وهل هناك علاقة بين أسلوب اللعب ومقدار استمتاع المشجعين به، والأهم من كل ذلك: هل لـ بيب جوارديولا يد في ذلك؟

تأثير جوارديولا: ثورة الصُلع

ورد في أمثال العرب قديماً: «أسمع جعجعة ولا أرى طحناً». ومَضرب المثل فيمن يُكثر القول ولا يَقرب الفعل، كالرحى إن علا صوتها فراغاً، ولا نِتاج لها يُذكر.

ولم يعد الحديث عن تأثير جوارديولا «جعجعةً»؛ لأن «الطحين» الذي نشره في الكرة الأوروبية والإنجليزية ينساب يوماً بعد يوم حتى يكاد ينظره الأعمى. ولسنا بصدد سرد بطولات وأرقام قياسية لم يسبقه إليها أحد، فذلك مما يمكن تتبعه ورصده بالأرقام التي لا تكذب ولا تُحابي. وإنما الحديث عن مستوى التأثير الذي جعله نُسخةً فريدة يود الكل امتلاكها أو على الأقل امتلاك أقرب نسخة منها، عملاً بالمثل الشعبي: من جاور السعيد؛ يسعد.

يعلم الجميع أن أرسنال لم يجد أرجى من مساعد بيب شخصياً ميكيل أرتيتا مُنقذاً للجانرز من هاوية لا قرار لها، كذلك علقت مانشستر يونايتد آمالها على مدرب هولندي تين هاج تشرب أفكار جوارديولا عندما عملا معاً في بايرن ميونخ، وعندما أعلن كلوب الرحيل؛ ذهب ليفربول إلى هولندي آخر آرنى سلوت يجد متعته الخالصة في مشاهدة الفريق الذي يدربه بيب جوارديولا.

لكن اللافت للنظر حقاً هو تأثير جوارديولا على الثقافة التي تحتكم لها الفرق الكبرى في اختيار مدربيها. فكم مرة رأيت مدرباً ارتبط اسمه بأكبر أندية أوروبا وأعرقها، لمجرد أنه صعد بفريق للدوري الممتاز أو هبط بفريق آخر للدرجة الأدنى؟

قبل ذلك كان على المدرب الصاعد حديثاً أن يثبت نفسه في أكثر من تجربة أو في تجربة طويلة، وأن يتحول بناديه الصاعد إلى مصاف أندية منتصف الجدول على الأقل، وإلا فإن تجربته البِكر لن تؤهله لقفزة بذلك الحجم.

إن التأثر بأفكار بيب وتبنيها، هو ما جعل نادياً بحجم بايرن ميونخ يقرر التعاقد مع كومباني مدرباً للفريق بعد أشهر من هبوطه بنادي بيرنلي إلى دوري التشامبيون شيب، وهو أيضاً ما حول أنظار تشيلسي إلى إنزو ماريسكا، مساعد جوارديولا السابق ومدرب ليستر سيتي الذي أعادهم مرة أخرى للبريميرليج، وهو أيضاً ما جعل مانشستر يونايتد يركض في إثر كيران ماكينا مدرب إبسويتش تاون الذي صعد بهم للبريميرليج، قبل أن يقرر أن يمدد إقامته مع ناديه الصاعد.

ولم يقف ذلك التأثير عند الأندية الكبرى في إنجلترا وأوروبا، حيث ينشط جوارديولا وفريقه الأكثر هيمنة حالياً، وإنما امتد إلى أندية الدرجات الدنيا مثل بولتون وندررز، التي عاشت عصوراً ذهبية بهوية كروية لمدربين مخضرمين مثل سام ألارديس، قبل أن تقرر تغيير جلدها بمدرب شاب انغمس في أفكار جوارديولا من رأسه حتى أخمص قدميه، اسمه إيان إيفات.

تختبر الجماهير يوماً بعد يوم حركة المد تلك بحذر، وكأنها تنتظر دورها القادم لا محالة، وتفكر: هل تؤثر أساليب اللعب الجديدة على الهوية الكروية للأندية وتجربة المشجعين، هل يشعر الجمهور بالملل من الكرة المُتقنة التي يقدمها جوارديولا والمُريدون في طريقته؟

الهدوء والصخب: مَن أكل لسان الجمهور؟

«إنه يحب لعب الكرة وحيازتها والتمرير، أسلوبه يُشبه الأوركسترا، لكنها تعزف أغنية صامتة؛ أما أنا فأحب الهيفي ميتال، أحب الصخب».

يورجن كلوب

يأخذنا مايكل كوكس الصحفي والمحلل الرياضي الشهير إلى رحلة عميقة في أنماط اللعب ترتبط كلياً بالجمهور وثقافتهم. كيف تستفز بعض أساليب اللعب حماسة الجمهور أكثر من غيرها، في حين تدعو أساليب أخرى متابعيها للنعاس؟

يسهل ملاحظة خفوت صوت الجماهير في السواد الأعظم من مباريات مانشستر سيتي، وليس ذلك انحيازاً أو اتهاماً بل رأي جوارديولا نفسه الذي أزعجه الأمر منذ قدومه، ولم يكتم حقيقة افتقاده ضغط الجمهور وصخبه الذي لا يتوقف في إسبانيا وألمانيا.

يزعم كوكس أن الفيلسوف قد غفل عن  نقطة مهمة تتعلق بطبيعة الثقافة الكروية الإنجليزية، وهي أن الجمهور دائماً ما يكون مدفوعاً بالحركة والعاطفة. وتتحدد حالة الهياج أو السكون بشكل أساسي على ما يدور في الملعب. 

وليس ضرورياً أن يكون ذلك داخل المستطيل فحسب؛ بل يكفيهم مناوشة واحتداماً بين المدربين على الخط؛ حتى تتحول المدرجات إلى مرجل يغلي. ومثال ذلك مباراة ليفربول وأرسنال في موسم 2021 التي بدأها أرسنال بلعب متقن أسكت جمهور الأنفيلد، قبل أن يدخل أرتيتا في مشادة كلامية مع كلوب على الخط، لينقلب بعدها الجمهور بطريقة درامية، بحضور عنصر العاطفة والإثارة، وانتهت المباراة بفوز الريدز برباعية نظيفة.

 

يسير الأمر في الاتجاه الآخر كسهمي تفاعل كيميائي مستمر، ففي كتاب «بناء الفريق: الطريق إلى النجاح- Teambuilding: The ROAD To Success»، يرى رينس ميتشيل، مهندس الكرة الشاملة، أن طبيعة الجمهور الإنجليزي كانت المحفز الأكبر على انتشار أسلوب اللعب الذي ميزهم منذ عقود والقائم على ركل الكرة والركض «Kick and Run» والنفور من ثورة اللعب الموضعي. وذلك لأن أسلوب اللعب هذا، يُنبئ بحدوث شيء ما قريباً من منطقة الجزاء، شيء مثير يستفز الجمهور ويأججه.

أورد جوزيه مورينيو الانطباع ذاته في سؤال تقريري، في حديثه مع جيانلوكا فيالي النجم الإيطالي الذي تعرف على الكرة الإنجليزية مدرباً ولاعباً، وكتب عنها كتاب «الوظيفة الإيطالية -The Italian Job»: «كم دولة تعرف، تُصفق للركلة الركنية كما تصفق للهدف؟ إنها إنجلترا وحدها، وأنسب طريقة لذلك أن تركل الكرة للأمام وتركض».

وإنجلترا ليست الدبة الباندا، وليست في ذلك بدعاً من الجمهور؛ بحسب ما يرى كوكس فالاستحواذ التام وحرمان الخصم من الكرة وتدويرها بين المدافعين عشرات المرات دون الإتيان بجديد، ليس أمراً مثيراً للجمهور، ذلك لأنه أغنية صامتة بحسب وصف كلوب الذي يختصر كوكس الفارق بين أسلوبه وأسلوب جوارديولا في أنه «أقل آلية وأكثر شاعرية».

كبش فداء لا بد منه

بيعت حقوق البث التلفزيوني للبريميرليج داخل المملكة المتحدة فقط بقيمة 6.7 بليون جنيه استرليني لمدة أربعة مواسم تبدأ من موسم 2025/2026، فيما وُصف بأكبر صفقة لحقوق الإعلام الرياضي في تاريخ المملكة.

يعرف مسئولو البريميرليج سر وصفة النجاح جيداً، ويرى الرئيس التنفيذي السابق للبريميرليج ريتشارد سكادمور أن الجمهور الحاضر في المدرجات والأجواء التي يخلقونها كانت سبباً في إتمام صفقات بيع الحقوق عالمياً بأثمان أعلى بكثير مما قُدر سلفاً.

إحدى الدراسات التي ربطت بين تأثير أجواء الملعب على تجربة الجمهور وسلوكياتهم، نُشرت عام 2020 وتحديداً ملعب إسكيشير الجديد بتركيا؛ أثبتت أن هناك علاقة بين أجواء الملعب ومعدلات الرضا عند الجمهور وسلوكياتهم الاستهلاكية. وهو ما يمهد الطريق لعلاقة إيجابية طويلة الأمد، تجعل الجمهور أكثر حرصاً على حضور المباريات داخل الملعب، وبالتالي زيادة في إيرادات النادي من هذا المصدر للدخل.

الآن يمكن أن نطرح سؤالاً جموحاً، ونترك الإجابة مفتوحة: هل يمكن أن يتتبع أصحاب القرار تلك الف من منابعها وتجفيفها للحفاظ على حالة التباين المطلوبة في أنماط اللعب؟ أم إن الأمان النسبي الذي تحققه أساليب اللعب تلك والبطولات والمكافآت التي تعود على الأندية من ورائها أهم من صوت الجمهور وصخبه؟

# رياضة # بيب جوارديولا # مانشستر سيتي # الدوري الإنجليزي # الكرة العالمية

تبادل القمصان: التقليد الكروي الذي قد يجعلك مليونيراً
الطابق المسحور: أين اختفى جيل منتصف التسعينيات؟
هل يمكن للكرة المصرية مواجهة نفوذ الخليج؟

رياضة