فن

الطبيب الذي أراد أن يحكي: كيف ألهمني شاكر خضير أن أبحث عن حكاية أخرى

حين يتحوّل الطب إلى مرآة للحكاية، وتصبح الكاميرا أداة للفهم، يولد الطبيب الذي قرّر أن يُخرِج… فكانت الحكاية طريقًا موازيًا للشفاء.

future المخرج والطبيب المصري محمد شاكر خضير

«حين يصبح الحكي طريقًا موازيًا للطب، وتصبح الصورة أداة للفهم لا تقل أهمية عن التشخيص».

في أول نَباطشية لي بمستشفى باب الشعرية الجامعي، وفي يومي الأول كطبيب بعد أن قضيت قرابة ثلثي عمري بين الكتب والمحاضرات، كنت أقف في طوارئ الجراحة المكتظة بالمرضى، تتشابك فيها الصرخات مع أنين الألم، وتتمازج روائح الدم والمعقمات، بينما أنظر حولي بعين مشغولة بشيء آخر تمامًا. تساءلت في لحظة صمت داخلي: ماذا لو كانت هناك كاميرا خفية توثق كل هذا؟ كل هذا الثقل، هذا العبء، هذا الزخم الإنساني المتفجّر. المشاجرات، البكاء، الأمل الهش، الحياة والموت يمران جنبًا إلى جنب.

قابلت مريضي الأول، ابتسمت في وجهه وسألته عن شكواه، وبدأ يحكي. لم أكن أتابع كطبيب فحسب، بل كمن يرى خلف الكلمات مشاهد كاملة، خلف الوجع حكاية، خلف التجاعيد سطورًا لم تُكتَب بعد.

في تلك اللحظة، تملكني شعور غريب، مزدوج، لم أستطع تفسيره على الفور. أنا أحب الطب، وأؤمن بقدرتي على تخفيف الألم، لكني شعرت – وبكل وضوح – أن هناك شيئًا آخر يملك قلبي أكثر. شعرت أنني أستطيع أن أُشفى من كل هذا الصخب إن استطعت فقط أن أحكيه، أن أراه على الشاشة، أن أسمعه في صوت راوٍ عابر.

رغبة ملحة كانت تزاحم كل شيء فيّ. شيء في داخلي كان يلح عليّ أن هناك طريقًا آخر ينتظرني. طريق لا يقودني بعيدًا عن الناس، بل يأخذني إليهم من باب مختلف: باب الحكاية.

«جراند أوتيل»: عندما تفكر الصورة

لم يكن المسلسل الذي فتح لي أبواب الحكي صاخبًا أو مبهرًا على مستوى الحدث، بل كان العمل الذي تشعر معه أن الصورة تُفكِّر، وأن الزمن له ملمس يمكن تذوقه. كنت في عامي الأخير من الثانوية العامة عندما شاهدت «جراند أوتيل»، لم أكن بعد قد قررت وجهتي الأكاديمية، لكنني كنت أعرف جيدًا أنني مهتم بالحكايات، بالدراما، بالصورة التي تستطيع أن تُخبر شيئًا لا يقوله النص. في تلك اللحظة، كنت أمام تجربة مفصلية، مسلسل يكاد يكون ناعمًا في لغته البصرية، ودقيقًا في بنائه الزمني، وحنونًا في تعامله مع الشخصيات. وكان اسمه على التتر: محمد شاكر خضير.

لاحقًا، عرفت أن شاكر خضير خريج كلية طب الأسنان، لم يدرس الإخراج أكاديميًا، لكنه اختار أن يخلق لنفسه طريقًا موازيًا، أن يلتقط أدوات الحكي من وسط الزحام، ويؤمن أن الصورة قد تكون علاجًا آخر، والعين قادرة على أن ترى ما لا تراه السماعة الطبية.

ربما لأنني درست الطب، وانشغلت طويلًا بمسارات التشخيص، شعرت أن ما يفعله خضير في أعماله هو نوع آخر من التشخيص، تشخيص للحياة، للمجتمع، للمشاعر. لكن أدواته مختلفة: كاميرا، إضاءة، موسيقى، وشخصيات شديدة الإنسانية.

بدايات شاكر خضير كمخرج دراما تلفزيونية لم تكن عادية. «جراند أوتيل» كان مشروعًا جريئًا بصريًا وزمنيًا، يعيد كتابة العلاقة بين الزمن والحدث في الدراما المصرية. كل شيء في المسلسل، من تصميم الإضاءة إلى الإيقاع الهادئ، كان يقول إن هناك مخرجًا يرى الحكاية بطريقة مختلفة. طريقة قادرة على أن تصنع التوتر بالصمت، وأن تحكي عبر النظرات.

في «جراند أوتيل»، كانت تفاصيل الفندق نفسها جزءًا من السرد. الجدران، اللوحات، الممرات، كلها كانت شخصيات صامتة. استخدام الألوان، وتدرجات الإضاءة، جعلك تشعر أنك داخل حلم، لكنه حلم مملوء بالغموض، بالحكايات غير المكتملة.

عمرو يوسف وأمينة خليل في مشهد من مسلسل «جراند أوتيل»

«طريقي»: حين تتحول الموسيقى إلى سرد

ما إن انتهيت من مشاهدة «جراند أوتيل»، حتى وجدتني مدفوعًا برغبة لا تقاوم في البحث عن أي عمل آخر يحمل توقيع محمد شاكر خضير. كان الفضول مشوبًا بشيء من الحنين، كأنني أبحث عن ظل لتلك الدهشة الأولى. عثرت على مسلسل «طريقي»، وبدأته في الليلة ذاتها، دون أن أُمهل نفسي كثيرًا. جلست أمام الحاسوب، ومع كل مشهد كنت أزداد انغماسًا، حتى وجدتني أنهي نصف المسلسل في جلسة واحدة. لم أكن أصدق أن شيرين، التي عرفها الجميع بصوتها، قادرة على أداء تمثيلي بهذه الجمال. طاقة فنية غريبة، نجح شاكر في استنطاقها من داخلها، لا تقل جمالًا عن أغنياتها، بل ربما تتجاوزها في التعبير عن هشاشة الروح وقسوة الطريق.

في «طريقي»، لم تكن الموسيقى مجرد خلفية تُزيِّن المشهد، بل كانت جزءًا من السرد، شريكًا في الحكي. شاكر استغل القالب الميلودرامي ليُخرج قصة نضج داخلي، لا تعتمد على الحدث بل على التحول. كانت الإضاءة حنونة، والزمن مرنًا، والمشاعر هي البطل الحقيقي.

بطلة العمل لم تكن تسير فحسب نحو حلمها، بل كانت تصطدم بكل قيد، بكل صوت يُراد له أن يُكتم. وكانت الكاميرا، في يد شاكر، تتباطأ حينًا وتتسارع حينًا آخر، كأنها ترقص مع الموسيقى، أو تُنصت معها. كان يجعل من اللحن أداةً للتفكيك، لا للزينة، وسيلة للحفر في الداخل لا لتغطية السطح.

شيرين في مشهد من مسلسل «طريقي»

«لا تطفئ الشمس»: مساحة للإنسان أن يكون

بعد أن انتهيت من «جراند أوتيل» و«طريقي»، لم أعد أتابع خريطة رمضان كمتفرج، بل كمنتظر. كنت أترقب إن كان شاكر خضير سيُطل من جديد، وهل سيمنحني هذا العام عملًا يحمل نفس السحر، نفس الأثر. وعندما عرفت أنه سيخرج مسلسل «لا تطفئ الشمس»، شعرت بأن شيئًا في داخلي ينتفض. كنت وقتها في خضمّ امتحانات السنة الأولى في كلية الطب، منهكًا، متوترًا، وغارقًا في تساؤلات لم أملك لها إجابة.

مع عرض المسلسل، ووسط الليالي التي كنت أهرب فيها من المذاكرة لأشاهد حلقة بعد الأخرى، بدأت أسمع الصوت الذي لطالما خفت أن أصدقه: هل أنا في مكاني الصحيح؟ هل أريد أن أُكمل هذا الطريق؟ شعرت للمرة الأولى أنني لا أُشاهد عملًا دراميًا، بل أتلقى علامة. وبعد نهاية المسلسل، وجدتني أفكر جديًا، وبكل وضوح، في التحويل إلى معهد السينما، لأدرس الإخراج. لم تكن فكرة عابرة. كانت رغبة مشتعلة، لكنها – وقتها – لم تملك من الجرأة ما يكفي لتصبح قرارًا. كنت أنتظر شيئًا يدفعني، يُمسكني من كتفي ويقول: هذا هو طريقك.. ماذا تنتظر؟!

«لا تطفئ الشمس» لم يكن مجرد مسلسل. كان صديقًا حميمًا زارني في لحظة شكّ، وأقنعني بأن للحكي سلطة لا تقل عن سلطة الطب، وربما – في بعض اللحظات – تفوقها.

شخصية آدم – بكل ما فيها من طيشٍ صادق، وسرعة انقلاب، وارتباك جميل – شعرت كأنها تحكي عنّي. لم يكن بطلًا بالمعنى التقليدي، لكنه كان مرآة، ناعمة وصادقة ومربكة. لم يكن يبحث عن المجد، بل كان يبحث عن نفسه. عن مكان له وسط هذا العالم القاسي بما يكفي لابتلاعك داخله! فشعرت أنني أرافقه لا أراقبه، أعيش معه لا أُشاهده فقط.

أما نادر، فكان في حضوره لحظة نادرة بحق في الدراما المصرية. لم يُقدَّم ككارثة تستحق الإنقاذ، ولا كعارٍ يستدعي الإخفاء، ولا حتى كحالة تُستنطق لتُدين أو تُبرَّر. بل جاء شاكر خضير بالكاميرا، ووضعها على قلب شخصية تحاول أن تفهم نفسها، وأن تُفهم من حولها، بلا شعارات، وبلا صراخ.

نادر، الشاب المثلي، لم يُختزل في هويته الجنسية، بل تجسدت أمامنا شخصيته بكل ما فيها من هشاشة، وتوق، ورغبة خجولة في الحياة. لم يكن شاكر يحاول أن يصنع من المثلية صدمة، بل واقعًا هادئًا يتنفس، ويتألم، ويحب، ويبحث عن حضن لا يُقصيه، وعن نظرة لا تُدينه.

في مجتمع لا يزال يخاف أن يُسمي الأشياء بأسمائها، جاء تقديم نادر كفعل فني بالغ الرهافة، وشديد الشجاعة. لا يروّج لقضية، ولا يتاجر بها، بل يخلق مساحة لأن يُرى الإنسان كما هو: معقدًا، متناقضًا، له طبقات، وأحلام، وانكسارات. وكأن شاكر كان يقول لنا همسًا: لا تحكم، فقط... استمع.

أحمد مالك من أحد مشاهد مسلسل «لا تطفئ الشمس»

«تحت الوصاية»: الأداء حين يُخرَج

بعد «لا تطفئ الشمس»، غاب اسم شاكر خضير عن الساحة لعدة مواسم. لكن بالنسبة لي، لم يكن غيابًا، بل بداية اكتشاف مختلف. كنت في تلك الفترة أُعيد مشاهدة أعماله السابقة، وأتتبع حواراته التلفزيونية والمصورة، أستمع له بشغف كأنني أحاول أن أفهم منه شيئًا لا يُقال إلا بين السطور.

أتذكر بوضوح لقاء سأله فيه المحاور عن الفنانين الذين يتمنى العمل معهم، فأجاب: منى زكي وأحمد حلمي. قال حينها إنه يرى في كلٍ منهما طبقات تمثيلية ما زالت تنتظر من يُخرجها، وإنه يشعر أنه قادر على استكشاف مناطق جديدة في أدائهما لم تُكتشف بعد. كنت أسمع كلماته وكأني أستمع لوعد.

ثم مرت الأيام، وجاء فيلم «واحد تاني» لأحمد حلمي، وعرفت أن مخرجه هو شاكر خضير. لم أتردد لحظة، دخلت السينما في أول يوم عرض، مُتحمسًا كمن يُطالع سطرًا جديدًا في كتاب يحبه. لكن الفيلم، رغم بعض لحظاته، لم يكن على قدر التوقعات، ولا على قدر ما أعرف أن شاكر قادر عليه.

ثم جاء «تحت الوصاية»..

هناك فقط، شعرت أن الوعد قد تحقق. كان العمل واحدًا من أكثر أعمال الألفية اكتمالًا في رأيي. عمق إنساني نادر، شجاعة هادئة، إخراج يحتضن الأداء لا يبتلعه. ومنى زكي – في نظري – قدّمت أفضل أداء في مسيرتها على الإطلاق. شخصية حنان كانت امرأة من لحمٍ ووجع، تحمل على كتفيها ثقل العالم، لكنها لا تنكسر. امرأة ممزقة، حادة، خائفة، لكنها تقاوم حتى وهي تبكي في صمت.

شاكر، كما وعد، استخرج من منى زكي طبقات تمثيل لم نرها بهذا العُمق من قبل. قادها إلى منطقة إنسانية شديدة التعقيد، بدون استعراض، بدون افتعال.

وكان العمل أيضًا شجاعًا في اشتباكه مع مفاهيم دينية موروثة، خاصة تلك المتعلقة بالوصاية على الأطفال بعد وفاة الأب. لم يقدّم نقدًا مباشرًا، بل فعل ما يفعله الفن الحقيقي: طرح الأسئلة. ترك الكاميرا تُراقب، تُشفق، تُصادق، دون أن تتورط في إصدار الأحكام. وبهذا، صنع شاكر خضير واحدًا من أنضج أعماله وأكثرها اتساعًا وتأثيرًا.

محمد شاكر خضير ومنى زكي من كواليس تصوير مسلسل «تحت الوصاية»

«إخواتي»: عندما تصبح الجرأة شاعرية

لم يكن مسلسل «إخواتي» مجرد عمل جديد أُضيف إلى قائمة شاكر خضير. لقد كان بالنسبة المحرك الرئيسي لكتابة هذا المقال، وكأن كل شيء قبله كان تمهيدًا للصوت الذي صاح بداخلي مع كل حلقة: "أريد أن أُخرِج". شعرت كأن القطعة الأخيرة في البازل قد وُضعت في مكانها، وأن المشهد أصبح كاملًا، واضحًا، ومضيئًا رغم كل ظلال التردد.

كانت مشاهدتي لـ«إخواتي» متزامنة مع لحظة خاصة في حياتي: بداية عملي في مجال الميديا بجانب ممارستي للطب. ولأول مرة، شعرت أنني أقف على الحافة بين طريقين، أحدهما مألوف، والآخر يناديني من بعيد، بصوت يشبه صوت شاكر في لقطاته، هادئًا لكنه لا يُقاوَم.

المسلسل نفسه كان توليفة من الجرأة والحساسية، من العبث الذي يعرف جيدًا كيف يصنع الشعر من الفوضى. إدماج أغاني شيرين فيه لم يكن مجرد استعانة بصوت جميل، بل كان فعل كتابة إضافية، نوعًا من البوح البصري-السمعي، فيه حنين وسخرية ولمسة وجعٍ ناعم.

من المشاهد التي تسكنني حتى الآن، ذلك المشهد الذي ينزل فيه الأزواج الأربعة لشراء الكباب، بينما الزوجات ينتظرن في البيت، يتأنقن ويتزينّ وكأنهن في طقوس انتظار رومانسية قديمة. في الخلفية، تدور أغنية «كلام عينيه في الغرام»، لا كصوت فقط، بل كروح تُغلف المشهد بطبقة من الشجن الشفيف، كأن الزمن يبطؤ للحظة، ويمنح كل امرأة فيه دقيقة واحدة لتتخيل الحب الذي لم يكتمل. المشهد كله بدا كحلم مرسوم فوق دخان الفحم المتصاعد من عربة الكباب، بقدر ما كان ساخرًا، كان مؤلمًا، وبقدر ما كان يوميًا، كان شاعريًا.

حاتم صلاح من أحد مشاهد مسلسل «إخواتي»

الطب والإخراج: محاولتان للفهم

لم يكن الطب بالنسبة لي حلمًا، بقدر ما كان محاولة أولى للفهم. فهم الجسد، الألم، الموت، ولحظات الهشاشة التي يتحول فيها الإنسان من كائن فاعل إلى جسد مُلقى على طاولة انتظار. دخلت الكلية وأنا أحمل وهم المعرفة الكاملة، وأن الطب سيمنحني مفاتيح الأسرار الكبرى. لكن شيئًا فشيئًا، بدأت أكتشف أنني لا أبحث عن إجابات طبية بقدر ما أبحث عن قصص؛ عن السياق، عن الخلفية، عن الإضاءة الخافتة حول الحدث.

في أولى سنين الكلية، كنت منجذبًا للحالات النادرة، لا لأسباب علمية بحتة، ولكن لأن كل حالة كانت تحمل قصة. كنت أقرأ الأشعة والتقارير كما لو كانت سيناريوهات ناقصة، أحاول أن أستكملها.

في الامتياز، عندما اختلطت بالوجع الحقيقي، لم أستطع الهرب من مشهد متكرر: غرفة طوارئ، أم تبكي، ابن يحتضر، ممرض يجري، وأنا.. واقف في المنتصف، كأنني ممثل غير مُدرّب داخل مشهد مكتوب بلغة لا أفهمها.

بدأت أطرح الأسئلة: لماذا يبدو بعض الأطباء آليين؟ لماذا نُدرب على التعامل مع الألم كما لو أنه وظيفة، لا كبوصلة؟ كنت أشعر بالضياع، لكن في كل ضياع كنت أعود للحكاية. كنت أكتب. أو أراقب. أو أتخيل كيف يمكن تصوير هذا المشهد، لو كان جزءًا من فيلم.

كل مرحلة من مراحل دراستي الطبية كانت تقربني أكثر من الكاميرا، لا من السماعة. كنت أبحث عن لقطة مقرّبة لوجه أب مكسور، أو لقطة عامة لغرفة مزدحمة بالحياة والموت في آن. الطب كان محاولتي الأولى لفهم الإنسان، لكن الإخراج منحني اللغة التي كنت أفتقدها.

ربما تبدو مهنة الطب بعيدة تمامًا عن الإخراج، الأولى علم يراقب الجسد، والثانية فن ينصت للروح. لكنني، مع مرور الوقت، بدأت أرى بينهما تقاطعات أعمق مما كنت أتصور. الطبيب الجيد يصغي، يُشخّص، ويهتم بالتفاصيل التي لا تُقال بالكلمات. والمخرج الجيد يفعل الشيء ذاته، لكن بكاميرا بدلًا من سماعة، وبمشهد بدلًا من وصفة طبية.

علّمني الطب أن أنظر في عيون الناس بحثًا عن ما يوجعهم، لكن شغفي بالحكي هو ما علّمني أن أسمع ما لا يُقال. الحكايات التي تنكسر بين السطور، تلك التي يخنقها الخوف أو يختبئ خلفها الحياء، وجدتني أراها دومًا لا في تقارير الأشعة، بل في نظرات المرضى، في وجوههم التي تشبه لقطات قاسية تُصوَّر بلا كاميرا.

ما فعله شاكر خضير، في نظري، لم يكن مجرد إخراج متقن، بل فعل تحرُّر. تحرر من الصورة النمطية للطبيب، ومن المسار المرسوم سلفًا. أثبت أن المهنة لا تُلغي الشغف، وأن الطريق يمكن أن يتفرع دون أن يعني ذلك ضياعًا، بل بحثًا أصدق عن الذات.

واليوم، وأنا أقف في بداية طريقي كطبيب، لا أستطيع أن أُنكر أن قلبي يميل في اتجاه آخر، في عمق آخر. الإخراج لم يعد بالنسبة لي مجرد احتمال، بل نداء. صورة لم تُصوَّر بعد تسكن رأسي، ومشهد لم يُكتب بعد يستقر في صدري.

وبعد كل التردد، كل الخوف، كل الصمت الطويل… قررت أن أسمع الصوت. قررت أن أبدأ، وأن أتقدّم هذا العام لمعهد السينما. وإن لم تُكتب لي الفرصة، فسأصنعها. سأدرس، سأبحث، سأحضر الورش، وسأتعلم. لأنني أعرف الآن – بيقين لم أعرفه من قبل – أن هذا المقال، الذي كتبته على مهل، هو اللحظة التي اتخذت فيها القرار. هنا… في هذه السطور، بدأ المشهد الأول من حكايتي.

# سينما # السينما المصرية # خواطر

فيلم Un Simple Accident: الانتقام كفعل تطهري
عائشة لا تستطيع الطيران: الحياة من وراء النافذة
فيلم Sirat: تعزية صوفية لأب حزين

فن