معرفة

الشبكات العصبية في جوائز نوبل: هل آن للآلة أن تفكر؟

من فهم الكون إلى تحسين رفاهية الإنسان، اكتشف كيف احتل الذكاء الاصطناعي الصدارة في نوبل 2024؟

future صورة تعبيرية (الشبكات العصبية في جوائز نوبل: هل آن للآلة أن تفكر؟)

احتفلت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024 بإنجاز استثنائي في تقاطع الفيزياء والذكاء الاصطناعي، حيث اعترفت بمساهمات «جون جيه هوبفيلد» و«جيفري هينتون». لقد أرسى عملهما الرائد، المتجذر في الفيزياء والأساليب الإحصائية، الأساس للتقدم التحويلي في التعلم الآلي (Machine Learning) والشبكات العصبية (Neural Networks)، وتشكيل مجالات متنوعة من الرؤية الحاسوبية إلى معالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing – NLP) وإسهاماتهما البارزة في تطوير تعلم الآلة من خلال الشبكات العصبية الاصطناعية.

ويؤكد هذا التقدير على تحول محوري في المشهد العلمي – من السعي وراء الصيغ التحليلية الأنيقة إلى تبني أدوات حسابية معقدة قادرة على معالجة مشاكل متعددة الأوجه.

أصول الذكاء الاصطناعي والتحديات المبكرة

بيد أن السؤال «هل تستطيع الآلات أن تفكر؟» الذي طرحه «آلان تورينج» في الخمسينيات من القرن العشرين كان بمثابة بداية لظهور الذكاء الاصطناعي كمجال نظري. وعلى الرغم من إمكانياتها في ذلك الوقت، واجهت أبحاث الذكاء الاصطناعي المبكرة عقبات كبيرة بسبب قيود القوة الحسابية المعاصرة. كانت أجهزة الكمبيوتر تفتقر إلى السرعة والكفاءة اللازمة لمعالجة كميات هائلة من البيانات المطلوبة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، بشرت ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين بتحول نموذجي كبير مع ظهور مناهج مبتكرة مثل أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة على القواعد والشبكات العصبية، مما حفز التقدم في هذا المجال.

وبحلول عام 2024، كان تأثير تلك التكنولوجيا المستحدثة واضحًا لا لبس فيه، حيث امتدت تطبيقاتها إلى البحث العلمي والرعاية الصحية والحياة اليومية. واعترفت جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء العام المنصرم بهذه اللحظة التاريخية، وأقرت بالتأثير العميق للأساليب التي يقودها الذكاء الاصطناعي على العلوم الحديثة.

وعلى الرغم من أن بعض علماء الفيزياء ينظرون إلى هذه التطورات بتشكك، فإن الجوائز تشير إلى عصر جديد حيث يمتد الاستكشاف العلمي إلى ما هو أبعد من اكتشاف المبادئ الأساسية إلى الاستفادة من المعرفة الموجودة في الأنظمة واسعة النطاق.

الشبكات العصبية: مقدمة وفهم أعمق

الشبكات العصبية هي أنظمة حسابية مستوحاة من طريقة عمل الخلايا العصبية في الدماغ. هذه الشبكات قادرة على معالجة المعلومات بطريقة مشابهة للطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري. تتكون الشبكة من طبقات مترابطة من العقد (الخلايا العصبية الاصطناعية) التي تقوم بتحليل البيانات ومعالجتها.

لتوضيح ذلك ببساطة، الشبكات العصبية هي خوارزميات رياضية تحاكي العمليات الحسابية العصبية في الدماغ. داخل الشبكة، يتم تمرير البيانات عبر العقد بطريقة يتم فيها تعديل «الأوزان» التي تحدد الأهمية النسبية للمعلومات في كل مرحلة.

إذا نظرنا إلى شبكة عصبية أكثر تعقيدًا مثل تلك التي تُستخدم في التعلم الآلي، على سبيل المثال في حالة التعرف على صورة لحيوان، تحاول الشبكة تحديد ما إذا كانت الصورة تُظهر قطة أم كلبًا. تبدأ الشبكة بتخطيط عشوائي أولي، سواء في عدد العقد أو الأوزان المستخدمة. تتلقى الشبكة مدخلات من خارج البرنامج، مثل سطوع البيكسلات في الصورة. كل عقدة في الشبكة تتلقى رقمًا معينًا، ثم يتم إرسال هذه الأرقام إلى الطبقات التالية من العُقد، وهي «العقد المخفية»، التي تقوم بحسابات وسيطة بناءً على المدخلات. في كل عقدة، يتم ضرب المدخلات في أوزانها، ثم جمع النتائج للحصول على رقم جديد.

الجزء المثير هنا هو أن الأرقام التي يتم حسابها في الطبقات المخفية هي مجرد تمثيلات داخلية للمفاهيم في المدخلات، وليست معلومات يمكن للبشر فهمها بسهولة. على سبيل المثال، بينما نستخدم نحن البشر معايير مرئية مثل حجم الرأس أو شكل الأذنين لتمييز الكلب عن القطة، فإن الشبكة العصبية لا تعرف هذه الخصائص بالضبط؛ هي ببساطة تعالج أرقامًا وأنماطًا رياضية. في النهاية، تخرج الشبكة باحتمال أن تكون الصورة قطة أو كلبًا.

ثم يأتي دور التدريب. يجب أن تُخبر الشبكة إذا كانت النتائج صحيحة أم لا. على سبيل المثال، إذا توقعت الشبكة أن الصورة هي صورة كلب بنسبة 80%، وصورة قطة بنسبة 20%، وكانت الصورة بالفعل تظهر كلبًا، فسيتم تعزيز الأوزان التي أدت إلى النتيجة الصحيحة (الكلب)، وتقليل الأوزان التي أدت إلى النتيجة الخاطئة (القطة). مع مرور الوقت، وتكرار هذا التدريب مئات الآلاف أو الملايين من المرات، ستصبح الشبكة مدربة بشكل جيد جدًا في التمييز بين الصور أو الأصوات أو أي نوع آخر من البيانات التي تم تدريبها عليها.

الشبكات العصبية: جسر بين علم الأحياء والحوسبة

كان إسهام «جون هوبفيلد» المحوري في هذا المجال هو تطوير شبكة هوبفيلد (Hopfield Network) في عام 1982. مستوحى من مفهوم الذاكرة الترابطية (Associative Memory) في الأنظمة البيولوجية، قدم «هوبفيلد» نموذجًا حسابيًا قادرًا على تخزين واسترجاع المعلومات بناءً على الأنماط. يحاكي نموذج «الذاكرة الترابطية» الخاص به قدرة الدماغ على ربط واستدعاء المفاهيم ذات الصلة، مثل ربط الرائحة بذكرى أو أغنية بلحظة معينة. أثبت «هوبفيلد» أن هذه المبادئ يمكن نقلها إلى أجهزة الكمبيوتر، مما يمكنها من محاكاة وظائف إدراكية معينة للدماغ البشري.

لقد مثلت شبكة هوبفيلد خطوة رئيسية في تطور الشبكات العصبية، حيث قدمت إطارًا لنمذجة الذاكرة والتعرف على الأنماط. وكانت قدرتها على استرداد المعلومات المخزنة بناءً على مدخلات جزئية – على غرار التعرف على وجه صديق من صورة ضبابية – بمثابة مقدمة لأنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة اليوم. أرسى هذا الابتكار الأساس لقدرة الشبكات العصبية على التعميم من بيانات غير كاملة أو مشوشة، وهو ما يمثل القاعدة الأساسية في التعلم الآلي الحديث.

جيفري هينتون وآلة بولتزمان (Boltzmann Machine)

في حين ركز «هوبفيلد» على التعرف على الأنماط والذاكرة، أخذ عمل «جيفري هينتون» الشبكات العصبية إلى مستوى أكثر تقدمًا من خلال معالجة قدرتها على التعلم من البيانات. في منتصف الثمانينيات، طور «هينتون» وزملاؤه «آلة بولتزمان» (Boltzmann Machine)، وهي نموذج احتمالي مستوحى من الفيزياء الإحصائية. سعى هذا النموذج التوليدي إلى التقاط توزيع احتمالات البيانات بدلاً من مجرد تحديد الأنماط الفردية.

من خلال دمج المفاهيم الفيزيائية، مثل تقليل الطاقة والتوازن الديناميكي الحراري، مكنت آلة بولتزمان الشبكات العصبية من الكشف عن الهياكل المخفية في مجموعات البيانات المعقدة.

وقد أكد عمل هينتون على الطبيعة الإحصائية للتعلم، حيث أظهر أن الشبكات العصبية يمكنها نمذجة الأنظمة دون معرفة قوانينها الحاكمة صراحةً. على سبيل المثال، في الفيزياء، غالبًا ما تتطلب محاكاة الأنظمة الكمومية موارد حسابية هائلة بسبب النمو الأسي للحالات المحتملة. ولكن من خلال الاستفادة من التعلم الآلي، تمكن الباحثون من تجاوز الأساليب التقليدية، باستخدام الشبكات العصبية لتقريب القواعد الفيزيائية الأساسية وإجراء التنبؤات بكفاءة.

لقد أرست آلة بولتزمان الأساس للتعلم العميق، مما مكن من تحقيق تقدم في التعرف على الصور ومعالجة الكلام. وتستمر مبادئها في دعم تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تدعم التطبيقات التي تتراوح من المركبات ذاتية القيادة إلى المساعدين الافتراضيين.

آفاق الذكاء الاصطناعي المتوسعة

دفعت مساهمات «هوبفيلد» و«هينتون» الذكاء الاصطناعي إلى مجالات متنوعة، وحولت الصناعات وأعادت تعريف الاستكشاف العلمي. في الرعاية الصحية، على سبيل المثال، تُستخدم الشبكات العصبية لتحليل الصور الطبية للكشف عن الأمراض، بينما تُساعد في تشغيل المركبات ذاتية القيادة. وفي علم المناخ، تُستخدم تقنيات التعلم الآلي لمحاكاة أنماط الطقس والتنبؤ بتأثير السياسات البيئية.

كذلك، لا غنى عن الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، مثل تحسين تجربة المستخدم في منصات البث عبر الإنترنت، ومعالجة الصور في الهواتف الذكية، وحتى المساعدات الافتراضية مثل «سيري» و«أليكسا».

التداعيات الأخلاقية والفلسفية

مع استمرار تقدم الذكاء الاصطناعي، تُثار العديد من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية العميقة. وقد سلط «جيفري هينتون» – وهو منتقد صريح للتطور غير المقيد للذكاء الاصطناعي – الضوء على المخاطر المحتملة المترتبة على نشر خوارزميات قوية دون إشراف كافٍ. وتتطلب قضايا مثل التحيز الخوارزمي، وخصوصية البيانات، والتأثير المجتمعي للأتمتة دراسة متأنية لضمان خدمة الذكاء الاصطناعي للبشرية بمسؤولية.

وعلاوة على ذلك، فإن طبيعة «الصندوق الأسود» للشبكات العصبية – ميلها إلى إنتاج نتائج دقيقة دون الكشف عن عملها الداخلي – تشكل تحديات للمساءلة والثقة. إن تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي القابلة للتفسير والتي توفر رؤى حول عمليات صنع القرار الخاصة بها هو مجال حاسم للبحث الجاري.

عصر جديد في العلوم

لقد شكلت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024 لحظة فاصلة، حيث تحتفي بتقارب الفيزياء والذكاء الاصطناعي كقوة للابتكار والاكتشاف. ومن خلال تسخير مبادئ الميكانيكا الإحصائية، أحدث «جون هوبفيلد» و«جيفري هينتون» ثورة في فهمنا للتعلم والذاكرة، ممهدين الطريق للشبكات العصبية التي تحاكي القدرات المعرفية للدماغ البشري. وتسلط مساهماتهما الضوء على قوة التعاون بين التخصصات المختلفة، وتوضح كيف يمكن للرؤى من مجال واحد أن تدفع التقدم في مجال آخر.

وبينما نقف في طليعة عصر علمي جديد، يذكرنا عمل «هوبفيلد» و«هينتون» بأن السعي وراء المعرفة لا يقتصر على مجالات معزولة. ومن خلال تبني التعقيد والاستفادة من الأدوات الحسابية، يمكننا معالجة التحديات الأكثر إلحاحًا في عصرنا، من فهم الكون إلى تحسين رفاهية الإنسان. ولا شك أن إرث اكتشافاتهما سوف يلهم أجيالًا من الباحثين، ويشكل مستقبل العلوم والتكنولوجيا لسنوات قادمة.

# الذكاء اللإصطناعي # جائزة نوبل # علوم # تكنولوجيا # منحة أبو الغيط للكتاب 2025

Hopfield, J. J. (1982). Neural networks and physical systems with emergent collective computational abilities. Proceedings of the National Academy of Sciences, 79(8), 2554–2558.
هل نستطيع محاربة الفاشية بالانتخابات؟ نظرة على صعود اليمين المتطرف في انتخابات 2024
وهل الموت أمر سيئ؟
رامبو: البحث عن منفذ لخروج الجميع

معرفة