كان هناك اعتقاد سائد لدى أجيال متتالية من العرب أن الإسرائيليين ليس لديهم معدلات الإنجاب اللازمة لمواكبة الخصوبة الفلسطينية، العصية على التراجع. لكن وفقاً لتقرير نشره معهد الديمقراطية الإسرائيلي؛ فقد عزَّز المجتمع الحريدي النمو السكاني اليهودي بشكل عام، حيث يولد لكل امرأة حريدية 6-7 أطفال.
ذكر هذا التقرير الإحصائي أن معدلات الولادة المرتفعة لدى الحريديم أدت إلى وجود هيكل سكاني أرثوذكسي متشدد من الشباب، مع توقعات بأن يصل عدد الحريديم إلى نحو 27% من سكان إسرائيل بحلول عام 2059، مما يعني أن التيار الصهيوني الليبرالي أثناء استغلاله للمتطرفين اليهود واستعمالهم كماكينات إنجابية مُحفِّزة على إنتاج المزيد من البويضات اليهودية، فُوجئ بأن تطور الحريديم الديموغرافي والاجتماعي والارتماء في حضن التعصب العبري، سينعكس بالضرورة على الظرف السياسي في إسرائيل.
هذا الانعكاس لم يرتد فقط في صورة اغتيال إسحاق رابين في عام 1995، بل وصلت سيطرة اليمين إلى ذروتها في عام 2022، عندما تشكَّلت ربما أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل تحت قيادة بنيامين نتنياهو.
من أجل من التعرف على تلك الشريحة الانتخابية، التي ترى في الوزيرين الإسرائيليين المتطرفين إيتمار بن غفير وبتسائيل سموتريتش، قامات سياسية مرموقة، أجرى كروم استقصاءً سريعاً على منصة إنستجرام؛ حيث تم تتبع مؤثرين من الحريديم، ينشرون على صفحاتهم الشخصية مقاطع فيديو عن حياتهم اليومية وتصرفاتهم وتقاليدهم وتفاعلهم الاجتماعي مع مناسبات أسبوعية، مثل الشابات، وفيه يُحرَّم إشعال النار كما هو مذكور في سفر الخروج، ليُقرِّر بعدها الحاخامات تحريم كل الأجهزة الكهربائية في العطلة الأسبوعية اليهودية.
وحتى يمكننا استيعاب صعوبة التعايش مع المتطرفين اليهود، يمكننا الاستشهاد بتصريح لنفتالي بينيت، الذي شغل منصب رئيس الوزراء الإسرائيلي من يونيو 2021 إلى يونيو 2022، انتقد فيه فكرة مزج الأيديولوجيات من خلال وجود المستوطنين في المدن العلمانية، مُشيراً إلى أن قيمهم وأنماط حياتهم تناسب أكثر الاستيطان في المناطق التي تُعتبر جزءاً من الهوية اليهودية، مثل الكيبوتز في الضفة الغربية (يهودا والسامرة).
في هذا السياق، يُفهم أنه من خلال تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية، لم يكن الهدف فقط تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم، ولكن كان هناك توجه أيضاً لتخفيف التوتر بين العلمانيين والمتدينين في المراكز الحضرية مثل تل أبيب.
الآن تخيل أنها الجمعة، وأنك تريد التسكع مع صديق يبعد بيته قليلاً عنك، ماذا ستفعل؟
صباح الجمعة، ستعد كأساً من الشاي ثم ستمسك الهاتف كي تسأله عن الوقت الذي ستخرجون فيه. وقبل التحرك من البيت ستضع يدك في جيبك للتأكد من أنك لم تنسَ المفاتيح. بالطبع، ستستخدم المصعد في النزول للطابق الأرضي وعندما تصل إلى السيارة، ستبعث له برسالة على واتساب كي تخبره أنك بصدد التحرك إلى بيته، وبعد أن تصل هناك ستطلب رقمه كي يركب معك السيارة. وعندما تشعران بالجوع، تذهبان إلى مطعم قريب. وبعد الأكل لا مشكلة في استعمال حمام المطعم النظيف. وبعد قضاء وقت طيب ستأخذ سيارتك وتعود إلى بيتك.
ولكن الأمور لم تكن لتسير على هذا النحو لو أنك مندل نربوني، المؤثر الحريدي على إنستجرام، الذي يشرح من خلال مقاطع فيديو سريعة كيف أثَّر تدينه على لقائه مع صديقه يوم السبت أو الشابات.
يقول مندل إنه: «من الأشياء التي لا يُسمح لنا بها، في الشابات، استخدام الكهرباء، كذلك لا يُسمح لنا بالطهي. عندما لا يكون يوم السبت، نستخدم الغلاية لتسخين المياه وتحضير الشاي أو القهوة، لكن في يوم السبت، لا أستطيع استخدام الكهرباء».
يحصل مندل على مياه ساخنة في الكوب من خلال الترموستات غير الكهربائي، لكن حتى بعد الحصول على ماء ساخن لا يمكنه إضافة كيس الشاي بعد؛ لأن الماء قد يكون لا يزال يغلي. لذا يحضر كوباً ثانياً ويسكب الماء الساخن فيه. والآن يمكنه إضافة كيس الشاي. السبب في ذلك هو أنه عندما يسكب الشاي من وعاء إلى آخر، فإن ذلك يبرد الماء، لذلك لا يعتبر هذا طهياً، بالتالي فهذا مسموح له بفعله في يوم السبت.
يقول مندل: «تحظر قوانين السبت (شابات) في اليهودية نقل الأشياء من منطقة خاصة إلى منطقة عامة، مثل أخذ مظلة للخروج إلى الشارع. يعتبر ذلك ممنوعاً، لأنك تنقل شيئاً من المجال الخاص (المنزل) إلى المجال العام (الشارع). أصل هذا الحظر هو أنه يجب علينا التحقق من جيوبنا قبل الخروج، حتى نتأكد من عدم وجود أشياء غير مصرح بها، مثل المنديل في جيبنا. لذا، لا يمكنني أخذ مفاتيحي في يوم السبت؛ لأنني إذا أغلقت باب منزلي بالمفاتيح، ثم أخذتها وخرجت، سأكون قد انتهكت الحظر».
لحل هذه المشكلة، يتحدث مندل عن نظام يُعرف بحزام السبت؛ حيث يقوم بوضع مفاتيح المنزل على الحزام، ثم يرتديه حول خصره. وتعتبر المفاتيح وقتها مثل الملابس، مما يتيح له الخروج إلى الشارع بها دون انتهاك الحظر. وليس هناك حظر على ارتداء الحزام أثناء التجول. كذلك لا يمكن للمتدينين حمل أطفالهم في الشارع يوم السبت، لكن لا توجد مشكلة في ذلك داخل المنزل.
يقول مندل: «قبل يوم السبت، يتم الضغط على وضع (شابات) في المصعد. وهو وضع يسمح له بالتوقف عند كل طابق طوال يوم السبت، مما يعني أن المستخدمين لا يحتاجون إلى الضغط على الأزرار، وبالتالي يتجنبون انتهاك الحظر». وهذا النظام شائع في أماكن مثل أمريكا وبلجيكا، ولكنه لم يُطبق بشكل واسع في فرنسا بعد.
كذلك هناك قيود على التمزيق يوم السبت، لذا ابتُكِر ورق التواليت الخاص بالشابات، وهو مشابه للمناديل، لكنه مُصمم لتجنب التمزيق في النقاط المحددة. ومع ذلك، إذا كان اليهودي المتدين في حالة حيث لا يوجد ورق تواليت خاص بالشابات، مثل زيارة أشخاص غير متدينين، أو الدخول إلى الحمام في مطعم ما، يمكنه استخدام ورق التواليت العادي، ولكن عليه تمزيقه بطريقة مختلفة، مثل استخدام اليد اليسرى بدلاً من اليمنى، ليُظهر الاختلاف بين أيام الأسبوع والشابات.
يحكي مندل: «لأنني لا أستطيع استخدام الهاتف يوم السبت قلت لصديقي يوم الجمعة، دعنا نقضي فترة بعد ظهر السبت معاً. وبعد انتهاء السبت وانتصاف الليل سأعيدك إلى منزلك بالسيارة. أنت على بُعد ست ساعات مني سيراً بالأقدام، سأمشي لمدة ثلاث ساعات، وأنت ستسير ثلاث ساعات، وفي الساعة الثالثة سنلتقي هناك في منتصف الطريق بيني وبينك، ثم نذهب إلى منزلي ونقضي اليوم معاً».
بالطبع كثيراً ما فشل مندل في لقاء صديقه، وكان يضطر للسير لمدة ساعات دون التمكن من لقاء صديقه. كل هذا حدث، لأنه خلال يوم السبت ليس لديهم هواتف؛ لذا لا يستطيعون الاتصال بعضهم ببعض، كذلك لا يمكنهم ركوب سيارة أو ترام، ليصبح الأمر برمته فوضوياً.
إجمالاً، وبعد تتبع بعض قصص المتدينين اليهود في إسرائيل، يمكن القول إن على العرب أن يدركوا أن التغيرات السياسية والاجتماعية في إسرائيل قد أسفرت عن تحولات عميقة في طبيعة الحكم وممارساته في إسرائيل، لأن الجيل الذي حكم إسرائيل في الستينيات والسبعينيات، والذي ضم في معظمه ليبراليين يهوداً جاءوا من خلفيات ثقافية أوروبية، يختلف عن هذا الجيل الذي تبوأ فيه الحريديم مواقع السلطة، مما أدى إلى تغيرات ملحوظة في السياسات والمواقف تجاه القضايا الإقليمية، وفي ذلك السلام.
وبينما كانت هناك رغبة معلنة - وإن لم تكن حقيقية - في التفاهم مع الفلسطينيين والمجتمعات العربية خلال فترات سابقة، فإن التوجهات الحالية قد تعكس مواقف أكثر راديكالية تجاه هذه القضايا، وإذا كانت الأنظمة العربية تعتبر السلام خياراً استراتيجياً، فإن الوضع الحالي في إسرائيل قد لا يعكس نفس الرغبة؛ لأن الشاب الإسرائيلي الذي يؤمن أن تمزيق ورق التواليت حرام يوم السبت، يعتقد أيضاً أن تمزيق أشلاء الأطفال العرب حلال كل أيام الأسبوع.