معرفة

السياسة والاقتصاد: لماذا وضعت الأحاديث على لسان النبي؟

نلقي الضوء في هذا المقال على ظاهرة وضع واختلاق الأحاديث والروايات المزيفة. متى ظهرت تلك الروايات، ومن قام بوضعها، وما أهم الأسباب التي أدت لظهورها؟

future صحيحي البخاري ومسلم

حظي الحديث النبوي بقدر كبير من الاحترام والتبجيل في الثقافة الإسلامية الجمعية. نظر العلماء للأقوال المنقولة عن النبي باعتبارها الأصل الثاني من أصول التشريع الإسلامي. ولذلك أحاطوها بقدر وافر من الاهتمام. وتعاهدوها بالعناية والحفظ. في هذا السياق، ظهرت المدونات الحديثية الكبرى ومن أهمها صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن النسائي، وموطأ مالك بن أنس، وغيرها من الكتب المُعتبرة.

كانت ظاهرة وضع الحديث ونسبتها إلى النبي، واحدة من أهم الظواهر التي ارتبطت بتدوين الحديث النبوي. حاول كثيرون دس الروايات المزيفة المنسوبة إلى النبي وكبار الصحابة. وفي المقابل، بذل المحدثون جهوداً مضنية في سبيل تنقية السنة النبوية من تلك الروايات المزيفة. نلقي الضوء في هذا المقال على ظاهرة وضع واختلاق الأحاديث والروايات المزيفة. متى ظهرت تلك الروايات، ومن قام بوضعها، وما أهم الأسباب التي أدت لظهورها؟

لا تكذبوا عليّ

بشكل عام، لا يمكن أن نحدد توقيتاً واضحاً لبدء ظاهرة الأحاديث المزيفة المنسوبة للنبي ولكبار الصحابة. من الممكن أن يكون عصر النبوة قد عرف تلك الظاهرة بشكل محدود نوعاً ما. ولعل هذا يفسر المقولة المشهورة للنبي، «من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار».

بلا شك، انتشرت تلك الظاهرة بعد وفاة النبي، لا سيما زمن الحرب الأهلية التي نشبت بين المسلمين وبعضهم البعض عقب مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان في سنة 35ه. حاولت الفرق المتحاربة أن توجد لنفسها الشرعية الدينية التي تستند إليها. في هذا المقام، انتشرت عديد من الأحاديث التي تبرر موقف كل فرقة.

مع مطلع القرن الثاني الهجري، بدأت ظاهرة وضع الأحاديث في الانحسار بشكل بطيء نوعاً ما. وذلك بالتزامن مع بدء تدوين وجمع الأحاديث النبوية زمن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز. شيئاً فشيئاً، سيشتد الخناق على ظاهرة وضع الأحاديث بسبب وضع المدونات الحديثية الكبرى في القرن الثالث الهجري. انتهج أصحاب تلك المدونات -كالبخاري ومسلم وابن حنبل والنسائي والترمذي وغيرهم- نهجاً حازماً في قبول الروايات الحديثية المنتشرة على ألسنة العوام. وبالتالي، لم ينته القرن الرابع الهجري، حتى أضحى هناك مراجع كبرى للأحاديث المنسوبة للنبي. خصوصاً، بعدما ظهر علم الجرح والتعديل، ووضعت قواعد صارمة لفحص الرواة، ومعرفة أحوالهم في ما يخص الصدق أو الكذب.

من وضع الأحاديث المزيفة؟

لا توجد إجابة سهلة لهذا السؤال. وضعت الأحاديث المزيفة من قِبل عديد من الرواة. ولا يمكن بطبيعة الحال حصرهم أو تحديدهم على وجه اليقين.

بحسب وجهة النظر السنية الأرثوذكسية الرسمية الموالية للسلطة، فإن العدد الأكبر من الرواة الكذبة الذين اختلقوا الأحاديث، انتموا -في الأساس- إلى الفرق المبتدعة كالخوارج والشيعة. وهي الفرق التي روجت لسرديات مخالفة للسردية السنية المرجعية. في هذا السياق تظهر أسماء كثيرة معروفة ومنها سليم بن قيس الهلالي الذي نُسب إليه كتاب مشهور عُرف باسمه.

حمل هذا الكتاب تصوراً شيعياً إمامياً محضاً عن الفترة التي أعقبت وفاة النبي. وجمع عشرات الروايات المنسوبة للنبي ولعلي بن أبي طالب ولسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود وأبي ذر الغفاري. بموجب النظرة السنية، فإن الكتاب مُختلق ومزور بالكلية، ولا يمكن التعويل عليه أو الاستناد له بأي حال من الأحوال.

على الجهة المقابلة، يرى الشيعة والخوارج أن هناك عديداً من الأحاديث والروايات المزورة التي تضمنتها السردية السنية. من تلك الأحاديث ما عُرف باسم «الإسرائيليات». وهي الروايات التي نُقلت عن بعض الصحابة والتابعين من ذوي الأصول الدينية اليهودية والمسيحية. من أشهر هؤلاء، الصحابي تميم الداري، الذي وصفه ابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة بأنه «كان أول من قَصَّ؛ استأذن عمر بن الخطاب في ذلك فأذن له...».

ومنهم التابعي الشهير كعب الأحبار الذي اعتنق الإسلام وترك اليهودية في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. أشارت بعض الروايات إلى أن كعباً توسع في الرواية بعد إسلامه، وروي عن عمر بن الخطاب أنه منع كعباً من الرواية، فقال له، «لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة». اعتماداً على ذلك، وصف رجل الدين اللبناني المعاصر محمد رشيد رضا كعب الأحبار في تفسير المنار، بأنه «بطل الإسرائيليات الأكبر». وبأنه كان يضع الروايات الخرافية «ليغش المسلمين، وليفسد عليهم دينهم وسنتهم، ويخدع بها الناس لإظهاره التقوى... ».

بشكل عام، يمكن القول إن هناك خمسة عوامل رئيسية تسببت في وضع الأحاديث النبوية في القرون الأولى من الهجرة. نناقش تلك العوامل في السطور التالية.

المزج بين الحقيقة والخيال

يُعدّ العامل الوعظي أحد أهم العوامل المسؤولة عن وضع الحديث النبوي. مع توسع الدولة العربية الإسلامية، ظهرت طبقة جديدة من القصاصين والرواة والإخباريين. استمد هؤلاء نفوذهم من واقع القصص المشوقة التي اعتادوا على حكايتها للناس في المساجد والزوايا والأسواق. بشكل عام، عمل هؤلاء القصاصون على أن تجمع أخبارهم بين الحقيقة والخيال بهدف شد الأسماع وجذب الانتباه. ولذلك لم يجدوا بأساً في نسبة عديد من الأخبار الكاذبة للنبي ولكبار الصحابة. وكانوا يبررون كذبهم بأنه ضروري لترهيب العامة وترغيبهم.

تذكر المصادر التاريخية عديداً من القصص الطريفة التي تعبر عن مسؤولية الوعاظ في اختلاق الأحاديث والروايات. من أشهر تلك القصص أن التابعي عامر الشعبي سمع واعظاً في أحد المساجد ينقل عن النبي «إن الله خلق صوراً فسينفخ فيه نفخة الصعق، وخلق صوراً آخر ينفخ فيه نفخة القيامة». فلمّا راجعه وطالبه بسند الحديث، اعتدى عليه الواعظ وأتباعه بالضرب. ولم يتركوه حتى قال، «إن لله 30 صوراً سينفخ في كل صور نفخة»!

كذلك يُحكى أن أحمد بن حنبل وصاحبه يحيى بن معين قد خرجا يوماً لزيارة مسجد على أطراف بغداد. فوجدا أحد الوعاظ يحكي للناس قصة غريبة منسوبة للنبي، ويقول إنه سمع تلك القصة من ابن حنبل وابن معين! بعد أن انتهى الواعظ من قصته الغريبة، ذهب له المحدثان وسألاه عن مصدر القصة، وقالا له إنهما ابن حنبل وابن معين، وأنهما لم يحدثا من قبل بتلك الرواية. غضب الواعظ لمّا سمع ذلك، وقال للرجلين إنه قابل العشرات ممن يسمون بابن حنبل وابن معين، وإنه سمع القصة من اثنين غيرهما!

إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً

أسلفنا القول عن دور العوامل السياسية في اختلاق الحديث ونسبته إلى النبي زمن الحرب الأهلية وما بعدها. في هذا السياق، ينقل ابن حجر العسقلاني في كتابه «لسان الميزان» عن بعض الشيوخ الذين بدؤوا حياتهم على المذهب الخارجي، ثم رجعوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة، قولهم، «إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً... ».

لم يستأثر الخوارج بالتزييف وحدهم. بل شاركهم فيه الشيعة وأهل السنة والجماعة أيضاً. بالَغ الشيعة في وضع الأحاديث التي تشيد بفضائل علي بن أبي طالب، وفاطمة الزهراء والحسن والحسين. على الجهة المقابلة، وضع أهل السنة الروايات التي تبالغ في تبجيل الصحابة، ومن ذلك الحديث المشهور المتداول على ألسنة الناس حتى الآن «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم».

في كتابه «شرح نهج البلاغة»، ألقى ابن أبي الحديد المعتزلي الضوء على الظروف التي زامنت وضع الأحاديث بسبب الخصومات السياسية المُنعقدة بين الأمويين والهاشميين، فقال: «...كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب -يقصد علي بن أبي طالب- وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته... ».

يتابع ابن أبي الحديد بعدها، فيقول: «...إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتُعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يُرغمون به أنوف بني هاشم... ». يذهب أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي إلى الأمر نفسه في كتابه «الموضوعات». فيقول: «...قد تعصب قوم لا خلاق لهم يدعون التمسك بالسنة فوضعوا لأبي بكر فضائل وفيهم من قصد معارضة الرافضة بما وضعت لعلي عليه السلام، وكلا الفريقين على الخطأ... ».

ظلت العوامل السياسية مؤثرة بعد انتهاء الحقبة الأموية بعدما وُضعت عديد من الأحاديث للإشادة بالخلافة العباسية. وروج كثيراً للمسودة -شعار العباسيين كان اللون الأسود- الخرسانيين الذين سيقدمون من الشرق لإقامة دولة الحق.

كذلك، تذكر بعض المصادر التاريخية أن بعض المحدّثين لم يجدوا بأساً في الإضافة إلى الأحاديث النبوية بهدف نيل الحظوة لدى الخلفاء. على سبيل المثال، يذكر جلال الدين السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء» أن المحدث غياث بن إبراهيم النخعي دخل بلاط الخليفة العباسي المهدي، وكان المهدي وقتها يلعب بالحمام، وطلب من غياث أن يحدثه ببعض الأحاديث عن النبي. فقال له: حدثنا فلان عن فلان عن فلان: أن النبي قال، «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح». وزاد فيه الجناح -للإشارة إلى الحمام- حتى يستدر عطف الخليفة ومودته، فأمر له المهدي بمكافأة كبيرة.

صراع المذاهب

اعترف عديد من العلماء بتحريف بعض الأحاديث النبوية بهدف خدمة مذهب فقهي معين. على سبيل المثال، قال أبو العباس القرطبي في كتابه «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» في سياق حديثه عن فقهاء الحنفية: «استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس الجلي إلى الرسول نسبة قولية، فيقولون في ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا! ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة تشبه فتاوى الفقهاء، ولأنهم لا يقيمون لها سنداً».

كذلك، اعترف أبو شامة المقدسي في كتابه «مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول»، أن عديداً من علماء الشافعية اعتادوا الاستدلال بالأحاديث الضعيفة لنصرة أقوالهم، ومن هنا غيروا ألفاظ الروايات «فتارة ينقصون منها، وتارة يزيدون فيها».

من جهة أخرى، عرفت المتون الحديثية عديداً من الروايات المزورة المنسوبة للنبي، التي تظهر فيها آثار الصراع المذهبي العنيف الذي دار لفترات طويلة في الأوساط الفقهية. من ذلك النوع «يكونُ في أُمتي رجلٌ يقالُ له محمدُ بنُ إدريسَ أضرَّ على أمتي من إبليسَ، ويكونُ في أمتي رجلٌ يقالُ له أبو حنيفةَ هو سراجُ أُمَّتي». و«يكون في أمتي رجل يقال له وهب -المقصود وهب بن منبه- يهب الله له الحكمة، ورجل يقال له غيلان -المقصود غيلان الدمشقي- هو أضر على أمتي من إبليس».

التجارة والاقتصاد

لعبت العوامل الاقتصادية أدواراً مهمة في اختلاق عديد من الأحاديث ونسبتها للنبي. من ذلك أن حلوانياً كان يريد أن يقبل الناس على شراء الحلوى من دكانه، فكان يقول لهم ناقلاً عن النبي: «الهريسة تشد الظهر». كما نُقل عن بعض بائعي الفاكهة أنهم كانوا يروجون لعديد من الأحاديث التي تدعو لشراء وأكل الفاكهة. ومن ذلك النوع «تفكهوا بالبطيخ؛ فإنها فاكهة الجنة، وفيها ألف بركة، وألف رحمة، وأكلها شفاء من كل داء». و«ما من امرأة حامل أكلت البطيخ، إلا يكون مولودها حسن الوجه، والخلق». و«البطيخ قبل الطعام يغسل البطن غسلاً، ويذهب بالداء أصلاً».

يعلق ابن القيم الجوزية على ذلك النوع من الروايات فيقول في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف: «...وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَتِ الإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهِ، أَحَادِيثُ مَدْحِ الْعَدْسِ، وَالأُرْزِ، وَالْبَاقِلاءِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَالرُّمَّانِ وَالزَّبِيبِ وَالْهَنْدِبَاءِ وَالْكُرَّاثِ، وَالْبَطِّيخِ وَالْجَزَرِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرِيسَةِ، وَفِيهَا جُزْءٌ كُلُّهُ كَذِبٌ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ...».

الصراع على أفضلية الأعراق

لم تمر عقود معدودة على وفاة النبي، إلا وقد تمددت الدولة الإسلامية في أنحاء مختلفة من الشرق الأدنى القديم. تسبب ذلك في دمج عديد من الشعوب وصهرها في الأمة الإسلامية. وحاول العرب أن يثبتوا أفضليتهم على جميع الأعراق والأجناس الأخرى. فظهرت أحاديث منسوبة للنبي تُعلي من قدر العرب وتحقر من شأن بقية الشعوب. قبل أن تُعلن العرقيات الأخرى عن نفسها وهويتها هي الأخرى من خلال مجموعة من الأحاديث المقابلة.

من النوع الأول من تلك الأحاديث، التي يظهر فيها أفضلية العرب، أن العربية لغة أهل الجنة، وأن الفارسية لغة أهل النار. وما ذكره ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» عندما نقل «أن حاماً -ابن نوح- واقع امرأته في السفينة، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته، فولد له ولد أسود، وهو كنعان بن حام جد السودان». وما نقله المسعودي في كتابه «مروج الذهب ومعادن الفضة» في سياق حديثه عن الأكراد أن أحد الشياطين قد تمثل في صورة النبي سليمان، ووقع على بعض جواريه، فأنجبن منه أبناء، فلما عرف سليمان بذلك، أمر بطردهن من فلسطين، وقال «أكردوهن إلى الجبال». فجاء منهم العرق الكردي. وما ورد في مسند أحمد بن حنبل «من أخرج صدقة فلم يجد إلا بربرياً فليردها».

أما النوع الثاني، فيتضمّن الروايات التي تحدثت عن إسلام مجموعات من الأمازيغ/ البربر في عهد النبي، وعن حديث النبي باللغة الفارسية، ومقابلته لبعض الأكراد، وغير ذلك من الروايات التي استخدمتها الشعوب غير العربية على نطاق واسع أثناء سعيها لإثبات وجودها في المجتمع الإسلامي.

# السنة النبوية # فكر إسلامي

رشيد رضا: لماذا تخلى عن عباءة الإصلاح الديني؟
ردموا بيته بالحجارة حتى مات: الطبري والصدام مع الفقه الحنبلي
العمارة المتدينة: كيف يؤثر الدين والأيديولوجيا في المعمار؟

معرفة