مجتمع

السودان وإثيوبيا: حدود لا تعرف الهدوء

السودان وإثيوبيا: ما الضريبة الباهظة التي يدفعها البلدان نتيجةََ للاستعانة بميليشيات خارج الجيش النظامي؟

future معبر القلابات الحدودي بين السودان وإثيوبيا

جاء إغلاق السلطات السودانية في الثاني من سبتمبر 2024 معبر القلابات الحدودي البري مع إثيوبيا، ليوقف التجارة الحدودية وتنقل المسافرين بين الدولتين. ثم ما لبثت أن بعثت السلطات السودانية تعزيزات عسكرية إلى المنطقة.

أتى القرار عقب سيطرة مليشيات «فانو» الإثيوبية على الجانب الإثيوبي من المعبر دون أي مقاومة عسكرية، فقام الجيش السوداني بسحب سلاح قوات حرس الحدود الإثيوبيين الفارين، وسمح لهم بالدخول إلى السودان للفرار من قوات «فانو»، التي سمحت في المقابل للسودانيين العالقين في المعبر بالمغادرة.

يعد هذا الفصل الأحدث من سلسلة طويلة من أحداث الصراع على الحدود الإثيوبية السودانية، الذي أدى إلى زعزعة استقرار المجتمعات على الجانبين لأكثر من قرن من الزمان. وتكمن جذور النزاع في خلاف البلدين على ترسيم الحدود وبخاصة منطقة الفشقة التي كانت جزءاً من المعاهدة الأنجلو-إثيوبية عام 1902، ولا تزال إثيوبيا ترفض ترسيم الحدود المعروف باسم خط جوين (المسمى على اسم الضابط البريطاني الذي قاد محاولة ترسيمه)، على الرغم من الجهود اللاحقة لحل النزاع.

في ظل هذا النزاع القديم، برزت مصادر أخرى ألهبت الصراع في المنطقة؛ فمنذ أواخر عام 2020، اشتعلت الحدود التي يبلغ طولها 740 كيلومتراً بسلسلة صراعات تركت آثارها الكبيرة على جانبي الحدود.

أبعاد الموقف السوداني

رغم اشتعال الحرب الداخلية في السودان بعد تمرد الدعم السريع ضد الجيش في منتصف أبريل 2023، فإن ولاية القضارف التي تضم منطقة الفشقة الحدودية جنوب شرقي البلاد لم تتأثر بشكل مباشر بهذا الصراع، وذلك لبعدها عن ساحات القتال.

تقع منطقة الفشقة، وهي منطقة يغلب عليها النشاط الزراعي، في ولاية القضارف السودانية، وتحاذي منطقتي تيجراي وأمهرة الإثيوبيتين. وتبلغ مساحتها 250 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الخصبة، وتشتهر بمحاصيل السمسم والذرة والقطن الجيد.

ظلت السيطرة على هذه المنطقة محل نزاع لأكثر من قرن من الزمان، لكن مع انشغال الحكومة الإثيوبية بصراعها الداخلي مع قومية تيجراي، توغل الجيش السوداني وسيطر على الفشقة في أواخر عام 2020. طرد السودانيون آلاف المزارعين الإثيوبيين من الفشقة، معظمهم من قومية أمهرة، ونتيجة لذلك تدهورت العلاقات بين الحكومتين.

منذ ذلك الحين، تسعى القوات المسلحة السودانية إلى تعزيز سيطرتها على تلك الأراضي الخصبة، خصوصاً مع تزايد الاعتماد على مواردها الاقتصادية لدعم المجهود الحربي في الصراع ضد ميليشيات الدعم السريع. ورغم استمرار المعارك الطاحنة في الخرطوم وغيرها، فإن الجيش عزز وجوده في شرق البلاد؛ إذ تشكل المحاصيل -خصوصاً السمسم- جزء من سلاسل التوريد التي توفر للقوات المسلحة السودانية تدفقات مالية حاسمة.

كان تدخل الجيش السوداني عام 2020 هدفه الأساسي الحد من الاستيطان والنشاط الزراعي المدعوم من ميليشيات «الشيفتة» الإثيوبية المقربة من أديس أبابا آنذاك، ويشير مصطلح «الشيفتة» إلى «قُطّاع الطرق» من قومية الأمهرا الإثيوبية غالباً، وينشطون في تلك المناطق الحدودية، ويكسبون المال من عمليات غير مشروعة، مثل اختطاف الناس والإفراج عنهم مقابل فدى مالية.

اشتهرت الشيفتة بشن هجمات إرهابية خاطفة على المناطق الزراعية، حتى هجر السودانيون مشاريعهم خصوصاً في منطقتي القرقف وحمداييت، بسبب خطورة المنطقة، فحل المستوطنون الإثيوبيون محلهم، وطالت الهجمات الجيش السوداني وقُتل عدد من منتسبيه في أكمنة الشيفتة.

نشأت الشيفتة في خمسينيات القرن الماضي، كعصابات نهب صغيرة من قومية ولغاييت، ثم تحولت إلى ميليشيات مسلحة جيداً من قومية الأمهرا الإثيوبية، وشنت هجمات على أطراف السودان حتى تمكنت من تفريغ منطقة شرق نهر عطبرة من سكانها بدعم غير معلن من أديس أبابا، بينما لم يكن هناك لدى المزارعين السودانيين ميليشيات لحماية أراضيهم؛ حيث اعتمدوا على حماية الجيش الذي تدخل متأخراً عام 2020 وأوقف الاستيطان الإثيوبي في الفشقة.

لكن الصراع الداخلي في السودان، وما أدى إليه من هجرة كثيرين إلى دول الجوار، وضع آلاف اللاجئين السودانيين في شمال إثيوبيا تحت رحمة ميليشيات القبائل الأمهرية، فهناك مئات العالقين في الغابات الإثيوبية.

ومع اشتعال القتال في منطقة أمهرا الإثيوبية بين الجيش وميليشيا «فانو» الأمهرية، تعرض اللاجئون السودانيون للخطر، وقُتل بعضهم في هجمات إرهابية، وتعرضت مخيماتهم الثلاث التي تضم 2652 لاجئاً لهجمات مروعة.

ويسعى بعض اللاجئين السودانيين في إثيوبيا للعودة إلى وطنهم مرة أخرى بعد تزايد الهجمات ضدهم؛ ففي الأول من سبتمبر 2024، أعلنت حكومة ولاية القضارف عن استقبال 2716 لاجئاً سودانياً في معسكر بمدينة القلابات بعد عودتهم من منطقة المتمة الإثيوبية سيراً على الأقدام قبل وصول قوات «فانو» للمعبر.

الموقف الإثيوبي الداخلي

استطاعت ميليشيات «فانو» السيطرة على منطقة المتمة الحدودية التي يوجد بها معبر القلابات وتقابلها منطقة الفشقة السودانية، وهدفت الميليشيا لقطع الإمدادات الغذائية والوقود القادمة من السودان عن الجيش الإثيوبي في إقليم أمهرا وإحكام السيطرة العسكرية على المنطقة.

ويمثل استيلاء «فانو» على المعبر خسارة لأديس أبابا؛ فقد كان مفوض عام التجارة بوزارة التموين بولاية القضارف، حسن محمد على أبوعوف قد أعلن في بداية أغسطس 2024، عن اتفاقية تجارة حدود بين ولاية القضارف وإثيوبيا بنحو 20 مليون دولار. ثم ما لبث أن احتد القتال في منطقة أمهرة الإثيوبية بين الجيش وميليشيا «فانو» في ذات التوقيت، لتلقي بظلالها على الاتفاقية الجديدة.

تنتمي ميليشيا «فانو» إلى قومية الأمهرا ذات الأغلبية الأرثوذكسية، وتتكون من عناصر مدنية مسلحة تحالفت مع الجيش النظامي الإثيوبي خلال حربه ضد قومية تيجراي. لكن العلاقة توترت في ما بعد بسبب محاولة رئيس الوزراء آبي أحمد، لكسر شوكة مراكز القوى التي تحتفظ بقوات شبه عسكرية، بهدف تعزيز سلطته. ونظم الأمهرا احتجاجات عنيفة في أبريل 2023، بعدما أمر آبي أحمد بإلغاء الميليشيات القومية ودمجها في الشرطة أو الجيش.

يتهم الأمهرا رئيس الوزراء بتهديد أمن إقليمهم، وبناء على ذلك انقلبت ميليشياتهم على الدولة، رغم أنها كانت تقاتل بجانب الجيش النظامي ضد جبهة تحرير تيجراي، وضد السودان في مناطق الفشقة، فضلاً عن تدخلها ضد جيش تحرير أورومو، الذي يطالب بحقوق قومية أورومو ذات الأغلبية المسلمة.

أتاحت تلك الحروب لميليشيات «فانو» فرصة لبناء معسكرات تابعة لها وتجنيد وتدريب شباب الأمهرا، والاستفادة من الدعم الحكومي. ثم سيطرت على منطقة غرب تيجراي الذي كان الأمهرا يطالبون به، واكتسبت خبرات قتالية وحضور شعبي كبير.

وبعد المشاركة القتالية المؤثرة لـ«فانو» في التصدي للتيجراي عندما توغلوا داخل أراضي أمهرا صيف 2022، ترسخت مكانة «فانو» كحامية حمى القومية الأمهرية وشرفها، لا سيما مع انهزام الجيش النظامي آنذاك أمام التيجراي وفراره، الذي أتاح لهم اختراق معاقل أمهرا. وقد شهدت تلك المعارك فظائع شملت الاغتصاب الجماعي لنساء كلا الطرفين.

بعد قرار آبي أحمد بتسريح القوات الأمهرية في أبريل 2023 ضمن حملة شملت البلاد كلها، شعر الأمهرا أن تسريح ميليشياتهم سيتركهم بلا حماية، خصوصاً مع خوفهم من تجدد المواجهات مستقبلا مع تيجراي. ويرى الأمهرا أن آبي أحمد استغل الانتماء القومي الضيق لهم وحشدهم خلفه في حربه ضد التيجراي، فحاربوا معه بعقيدة قتالية عنوانها الدفاع عن قومية الأمهرا، وبعد أن زال التهديد لحكمه استدار ليقضي على قوة حلفائه ويكسر شوكتهم، ببراجماتية فجة.

لعب آبي أحمد، ضابط المخابرات السابق، في البداية على انتماء والده المسلم إلى الأورومو، أكبر عرقية في البلاد، واستغل شعورهم بالتهميش في ظل حكم التيجراي، ثم تنكّر لهم وبطش بقادتهم وشن عليهم حرباً بمعاونة الأمهرا، مُستغلاً أن والدته أمهرية أرثوذكسية، وهو أصلاً بروتستانتي ينتمي لتيار المسيحية الصهيونية، وبعد أن لعب على استنفار الهوية الأمهرية ضد التيجراي، حاول كبت تلك الهوية العنصرية لصالح الهوية الوطنية الجامعة، بهدف إخضاع الأقليم لحكمه المركزي.

خاض آبي أحمد حروب داخلية ضد أهم ثلاث قوميات: الأورومو والأمهرا والتيجراي، وفشل حكمه فشلاً ذريعاً في النهوض بالدولة، بل أغرقها في مستنقع أزمات وخسر شعبيته. لذا يحاول تصدير مشاكله للخارج باختلاق قضايا قومية وعدو خارجي يتوحد الداخل في مواجهته، كمصر في ملف سد النهضة، وكذلك السودان في ملف ترسيم الحدود.

الأبعاد الإقليمية

توجه قوات الدعم السريع وإثيوبيا اتهامات للجيش السوداني بالاستعانة بمقاتلي تيجراي، وفي المقابل أعلن الجيش السوداني أن مقاتلين إثيوبيين يحاربون ضمن صفوف ميليشيات الدعم السريع، وسبق أن اعتقل الجيش السوداني سيدات مرتزقة قاتلن في صفوف الدعم السريع لأكثر من عام، وقيل إنه تم جلبهن من إثيوبيا وفق اتفاقيات عسكرية لم يتم توضيحها.

كذلك يتهم السودانيون آبي أحمد بمساندة الدعم السريع؛ حيث استضاف آبي أحمد الجنرال حميدتي قائد الدعم السريع، في ديسمبر 2023، ودعا رئيس الوزراء الإثيوبي في يوليو 2023 إلى فرض منطقة حظر طيران ونزع المدفعية الثقيلة لوقف الحرب في السودان، وهو ما اعتبره الجيش السوداني انحيازاً إثيوبياً لمتمردي الدعم السريع، لأن الجيش النظامي هو الذي يملك سلاح الطيران.

ولكن في يوليو 2024، زار آبي أحمد الجنرال عبدالفتاح البرهان قائد الجيش السوداني في بورتسودان في خطوة فُسرت على أنها جاءت على خلفية تقدم ميليشيا «فانو» قرب الحدود بين البلدين، بهدف التنسيق قبل سيطرتها على الحدود.

تشير تقارير إلى تلقي «فانو» دعماً من إرتيريا؛ حيث يجمع الطرفين العداوةُ لميليشيات التيجراي، واستبعد آبي أحمد حلفاءه الإريتريين والأمهرا من مباحثات اتفاق السلام مع التيجراي في بريتوريا، مما أوغر صدورهم عليه لأنه لم يراعِ مصالحهم في الاتفاق. وعارض الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، اتفاق وقف إطلاق النار مع تيجراي، وتحالف مع «فانو» من أجل إفساد الاتفاق؛ إذ يخشى الأمهرا أن يُسلِّم آبي أحمد أراضي غرب تيجراي إلى جبهة التحرير هناك.

مخاوف التصعيد

رغم تدهور الوضع الأمني في كلتا الدولتين فإن السيناريو الأسوأ لم يأت بعد، فوصول قوات الدعم السريع إلى الحدود كفيل بتعقيد المشهد بشدة، وبالفعل تسعى تلك الميليشيات للتمدد شرقاً؛ فقد وصلت إلى ولاية سنار السودانية أواخر يونيو 2024، وارتكبت جرائم مروعة نتج عنها فرار نحو 125 ألف مواطن سوداني إلى الحدود الإثيوبية.

وهناك مخاوف من انخراط التيجراي بقوة في الحرب الداخلية السودانية، وفضلاً عما يعنيه ذلك بالنسبة للسودان، فإن هذا التدخل المفترض قد يدمر اتفاق سلام بريتوريا، وقد يدفع الأمهرا الإثيوبيين للتدخل بجانب الدعم السريع، الذي يكن العداء للتيجراي أيضاً.

وكذلك هناك مخاوف من تصعيد «فانو» ضد التيجراي إن حاولوا استعادة منطقة غرب التيجراي، وقد تستفيد أديس أبابا من تصادم الأمهرا والتيجراي وانشغالهم ببعضهم البعض. كما أن الحدود بين البلدين مرشحة للاشتعال في بداية فصل الخريف كما يحدث كل عام مع بدء الموسم الزراعي.

وفي المجمل، فإن البلدين يدفعان ضريبة باهظة للاستعانة بميليشيات خارج الجيش النظامي؛ ففي السودان استعان النظام بعصابات الجنجويد ضد متمردي دارفور، وتكونت منهم ميليشيات الدعم السريع التي اشتهرت بالسلب والنهب وعمليات حرق القرى والاغتصاب الجماعي للخصوم، وأدخلت البلاد في حرب طاحنة دمرت الأخضر واليابس.

وفي إثيوبيا، استعانت الدولة بميليشيات «فانو» و«الشفتة» التي تحولت إلى ما يشبه قوات رديفة للجيش الإثيوبي، وفي النهاية انقلب السحر على الساحر، وأحرقت النار اليد التي حاولت اللعب بها، ونفس الدرس قدمته ميليشيات «فاجنر» الروسية التي حاول زعيمها الزحف بقواته إلى موسكو حين استشعر الثقة وكسر احتكار الجيش للقوة.

# سياسة # السودان # إثيوبيا # حرب السودان

أجساد بطولية: تاريخ قمع الجسد الأنثوي
كيف حفرت طرابلس الليبية اسمها في نشيد «المارينز» الأمريكي؟
ضربات البيجر واللاسلكي: بداية تصعيد أم تهدئة على جبهة لبنان؟

مجتمع