صحة

السرطانات المتأخرة: هل لا يزال الشفاء ممكناً؟

كيف نتعامل مع السرطانات المتأخرة، وما الأسلحة المتاحة حالياً لموجهتها، وهل يمكن الشفاء منها؟

future خلايا سرطانية

إذا استفتينا معظم البشر من شعوبٍ وثقافات مختلفة عن أكثر الأمراض التي يخشون منها، سيربح السرطان المركز الأول بفارق كبير، وإذا أُطلقَ وصف «المرض الخبيث» سيفهم كل من يسمعه تقريباً أن المقصود هو السرطان. في عام 2020 وحده، سُجلَت قرابة 20 مليون إصابة جديدة بالسرطان الخبيث، وما لا يقل عن 10 ملايين وفاة نتيجة السرطانات الخبيثة حول العالم.

هناك عشرات أو مئات الأنواع من السرطانات الخبيثة التي تُصيب جسم الإنسان، والتي تتفاوت في خطورتها واحتمالات شفائها، ومن المعلوم بالضرورة دون مواربة أنه كلما تأخر تشخيص السرطان، كان علاجه أقل يُسراً، والاختيارات أكثر محدودية، لا سيما إذا انتشر خارج مكانه الأصلي إلى أعضاء حيوية أخرى مثل الكبد أو الكلى أو العظام أو المخ... إلخ، ووُصِفَ بأنه «سرطان متأخر».

في السطور التالية، سنسلط الأضواء بشكل موجز على مسألة التعامل مع السرطانات المتأخرة، والأسلحة المتاحة حالياً تلك المواجهة، ونحاول الإجابة عن السؤال الصعب في عنوان المقالة، الذي يبحث عن إجابته عشرات الملايين من البشر حول العالم.

لا تزال الكرة في الملعب

لحظة كتابة هذه الكلمات، لدينا دون مبالغة مئات الدراسات البحثية العلمية التي تركز على علاجات السرطانات المتأخرة والتي ظهرت نتائجها خلال العامين الأخيرين، وأمثالها أو أكثر لا يزال قيدَ البحث، وستظهر نتائجَها خلال الشهور والسنوات القادمة، ونتوقع مزيداً من الآمال والطفرات في علاج من تلك السرطانات المتأخرة جذرياً، أو على الأقل كبح جماحها، وإعطاء المريض مزيداً من السنوات الخالية من الأعراض المزعجة، والبعيدة عن الحاجة للحجز بالمشافي.

ونأمل خلال السنوات القليلة القادمة، أن يبدأ وصف «المتأخرة» بالانحسار تدريجياً عن عديد من أنواع السرطانات الخبيثة، فهذا الوصف في حد ذاته يمثل ضغطاً نفسياً إضافياً يُضاعف حمولة المرض وتبعاته. وقد شهدنا خلال الأعوام الـ30 الماضية وفقاً لمراجعة بحثية كبرى أُجريت على بيانات قرابة مليوني مريض بالسرطانات المتقدمة، ونُشرت نتائجها في دورية JNCI العلمية المرموقة، تحسناً في معدلات نجاة مرضى السرطانات المتقدمة، ونأمل في مزيد من هذا في السنوات المقبلة.

العلاج المناعي للأورام

خلال العقود القليلة الماضية، ركز البحث العلمي الطبي بكثافة على تحسين قدرات جهاز المناعة في مواجهة السرطانات المتقدمة، فالسرطانات الخبيثة تتغلب على مواجهة المناعة لها بحيلٍ عديدة مثل إخفاء نفسها عن رصد خلايا المناعة، أو إنتاج مثبطاتٍ لرد الفعل المناعي ضدها. وهنا يأتي دور العلاجات المناعية للأورام، التي تحسن قدرة مناعة الجسم على رصد الخلايا السرطانية ومهاجمتها بشكل فعال ودقيق، وتقوم بعض العلاجات المناعية التجريبية بإعادة برمجة خلايا المناعة للمريض لتحسين كفاءتها في مواجهة نوع السرطان المصاب به.

تمتاز بعض العلاجات المناعية بكفاءة ودقة كبيرتين في استهداف الأنسجة السرطانية دون إصابة الأنسجة الطبيعية بأضرار، مما يجعلها أشبه بالصواريخ الموجهة، ومن أمثلتها الأجسام المضادة وحيدة النسيلة Mono-Clonal Antibodies، التي أظهرت نتائج جيدة في بعض حالات السرطانات المتقدمة؛ فهي قادرة على مواجهة الخلايا السرطانية بشكل مباشر، أو يمكن دمجها مع العلاجات الإشعاعية والكيميائية، لتعمل نواقل لها تحملها إلى النسيج السرطاني المستهدَف بشكل محدد.

بالطبع لا تخلو العلاجات المناعية من آثارٍ جانبية كغيرها من الأدوية، لكنها في المجمل أقل من العلاجات الكيماوية التقليدية، وكذلك يعيبها الارتفاع الكبير في أسعارها؛ إذ قد يكلف بعضها عشرات الآلاف من الدولارات، ويحتاج إلى مظلة تأمينية قوية.

علاجات إشعاعية أحدث وأكفأ

العلاج الإشعاعي من أعمدة خطط علاج العديد من أنواع السرطانات المختلفة، ويسهم في تقليل حجم وتمدد الأنسجة السرطانية مكانياً، وتحجيم انتشارها في الأعضاء الحيوية البعيدة، مما يسمح في بعض الحالات بإزالتها جراحياً كحل جذري للسرطان. وتختلف الاستجابة للعلاج الإشعاعي بحسب نوع الخلايا السرطانية.

وقد ظهرت تقنيات أحدث من العلاج الإشعاعي، منها على سبيل المثال لا الحصر، ما يُعرف بالجراحة الإشعاعية التجسيمية stereotactic radiosurgery، التي لا تكتفي فقط باستهداف وقتل الخلايا والأنسجة السرطانية بشكل مباشر، إنما وجد الباحثون أنها تسهم أيضاً في تحسين رد الفعل المناعي للجسم ضد السرطان. وهناك أيضاً تقنية FLASH-RT، التي تتضمن إعطاء جرعات مكثفة ومركزة من الإشعاع تستهدف الأنسجة السرطانية بشكلٍ دقيق، مُحققة نتائج تماثل العلاجات الإشعاعية التقليدية، لكن دون إتلاف أنسجة الجسم الطبيعية سواء المجاورة أو البعيدة، مما يُحجم كثيراً من الآثار الجانبية للعلاج الإشعاعي.

هناك تفصيلات عديدة في مسألة العلاج الإشعاعي للسرطانات المتقدمة، وهناك أطباء أورام متخصصون فقط في هذا المجال العلاجي، نظراً للتمدد الكبير لهذا النمط العلاجي يومياً، وبالتالي فكل حالة مُصابة بسرطان متقدم عليها مراجعة طبيب الأورام المختص حول الاختيارات المتاحة لهذا المريض بعينه. ولا يُشترط أن نمط العلاج الذي لم يُحقق النتائج المرجوة مع أحد المعارف، سيعجز أيضاً هنا، والعكس صحيح، ويسري هذا على العلاجات عموماً. لذا، فنحنُ بحاجة ماسة للتحرر من سطوة «اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً»، لا سيما في الحالات الحساسة كالسرطانات المتقدمة.

تقنيات جديدة أفضل مضادة للسرطان

تحظى العلاجات الكيماوية للسرطان بسمعة سيئة بين الغالبية العظمى من مرضى السرطان، نتيجة الآثار الجانبية الكثيرة لعديد منها، التي أحياناً ما تفوق أعراضها، أعراض السرطان نفسه، بجانب الألم النفسي الناجم عنها. لكن لا يتوقف البحث العلمي الطبي عن محاولات التغلب على هذا، وإنتاج علاجات كيماوية أكثر دقة في استهداف السرطان، وأقل في آثارها الجانبية على الأنسجة الطبيعية، وأفضل في الامتصاص من الجهاز الهضمي، ولها قدرة أطول وأكفأ على محاربة السرطان، ومن أمثلتها العلاج الكيماوي المُوجه.

هناك أنماط علاجية جديدة تحت البحث المكثف، وبدأ استخدام بعضها في الواقع، مثل العلاج بالخلايا الجذعية الموجودة في نخاع عظم الإنسان، والقادرة على تجديد بعض الأنسجة التي أتلفها السرطان، أو خلايا المناعة، التي أظهرت نتائج مُبشرة في مواجهة بعض السرطانات المتقدمة المنتشرة في أكثر عضو بالجسم. وهناك العلاج بالكي الحراري الدقيق أو الكي بالتبريد لبعض مناطق انتشار الخلايا السرطانية لتحجيمها مكانيا، ومنعها من إتلاف المزيد من الأنسجة الحيوية في مناطق تمددها.

كذلك هناك مجال علاجي واسع يحظى بمزيد من الاهتمام بمرور الوقت، وهو العلاج الجيني، الذي يرتكز على تعديل بعض الجينات في المادة الوراثية لخلايا المناعة، لجعلها أكثر قدرة على مواجهة التمدد السرطاني بكفاءة. على سبيل المثال، هناك عقار تجريبي اسمه «جينيسيدين»، وهو عبارة عن فيروس أُضعِف معملياً، يحمل جين p53 المثبط للخلايا السرطانية، أظهر نتائج جيدة في انحسار سرطان الخلايا الحرشفية في جلد الرأس والرقبة للمرضى المشاركين في التجربة، وذلك بالتكامل مع العلاج الإشعاعي.

وفي العموم، يُفضل أن يقوم مرضى السرطانات المتقدمة الذين لا يتوافر لهم حالياً علاج محدد، أن يتطوعوا ويشاركوا بإيجابية في الأبحاث المبكرة لعلاجات السرطان الاختبارية في المراكز البحثية والعلمية المرموقة، فهذا يسهم في منحهم الأمل، وفي منح غيرهم ممن يواجهون نفس المرض، ويُسهِم في تسارع عجلة البحث العلمي الطبي في هذا المجال؛ إذ إن كل ثانية من التأخير، قد تساوي فقدان أرواحٍ غالية. وتركز تلك الأبحاث أولاً على أمان العلاجات الجديدة قبل فاعليتها، وفي حالة ظهور أي آثار جانبية غير محتملة، تُوقَف التجربة.

خطوط عامة لتعايش أفضل مع السرطانات المتقدمة

بالتوازي مع السعي من أجل حلول علاجية جذرية غير تقليدية لكل حالة بعينها من حالات السرطانات المتقدمة، بعد استشارة أطباء أمراض الأورام المتخصصين في مثل تلك الحالات من المتابعين الجيدين للتطورات البحثية على مدار الساعة، فيجب السير في المسارات العامة المعروفة من العلاجات التلطيفية، التي تركز على منح المريض أطول وقت ممكن من جودة الحياة، بالسيطرة على الآلام المصاحبة لبعض السرطانات المتقدمة، لا سيما المنتشرة في العظام، والتغذية الجيدة التي تمنع فقدان الوزن الشديد والهزال، الذي قد يعاني منه كثير من مرضى السرطانات المتقدمة.

كذلك من المهم تحسين الصلابة النفسية للمريض، عبر بث الأمل الواعي بحالته واحتمالاتها، دون تهوين أو تهويل، وبوضع أهداف واقعية ملموسة لخطة العلاج. نعم كثيراً ما يضطر الأطباء -التزاماً بمبادئ الأخلاقيات الطبية- أن يصارحوا المريض بحقيقة إصابته بالسرطان الخبيث، والمرحلة الحالية للمرض، وتحديات العلاج، لكن لغة الطبيب المنطوقة وغير المنطوقة تُحدِث الفارق إذا كان متوازنة تتحقق فيها المعادلة الصعبة التي تبتعد عن كل من الأمل الزائف أو التشاؤم الزائد.

# صحة # السرطان

«نوبل» في الطب 2024: لماذا لا يملك البشر زعانف السمكة؟
بحثاً عن الكمال: هل يجب تقنين المنشطات في الرياضة؟
الميكروبيوم: المدينة التي تعيش داخل معدتك

صحة