بالتوازي مع تتويج الهند كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وصعودها الاقتصادي الكبير، تتزايد أهمية القوة الناعمة ويزداد استثمار نيودلهي فيها وسعيها للتكسب من ورائها.
في ظل العولمة وانهيار الحواجز بين الشعوب، لا يتم تغريب العالم وأمركته فقط، بل يُصدِّر الشرق بضاعته الروحية أيضاً إلى نصف الكرة الآخر، ويغزو قلاع المادية بأديانه القديمة ونظمه الغذائية ورياضاته، وتتحول المنتجات الثقافية إلى رصيد كبير من القوة الناعمة.
مع تقدم وسائل التواصل بين الشعوب، تتسلل عناصر الثقافة الهندية إلى أنحاء العالم بخاصة في دول الغرب المادية؛ حيث ظهرت فئة من الغربيين المنجذبين إلى سحر الشرق، والمفتونين بروحانيات البوذية، وممارسات اليوجا الجالبة للصفاء الذهني، وعالم الطب البديل والعودة للطبيعة.
تنتشر معابد الأديان الهندية كالهندوسية والبوذية والجاينية في عديد من الدول الأوروبية والغربية، وتنتشر أيضاً منصات تبشيرية بتلك المعتقدات، وفي الولايات المتحدة تضم لوس أنجلوس وحدها أكثر من 300 معبد ومركز بوذي، تمثل كل الممارسات البوذية في مختلف أنحاء العالم تقريباً.
تتقاطع كثير من أفكار المتدينين الهنود وممارساتهم مع جماعات وأحزاب الخضر في الغرب، وتعد الأفكار المشتركة مثل نظام الأكل النباتي وحماية البيئة، نقاط التقاء وتعاون بين الطرفين، وقد يُنسِّق الطرفان في الانتخابات في الدول الأوروبية بسبب هذا التقارب الفكري.
تضم الهند أكبر مجموعة نباتية في العالم، وتُبيِّن معظم المطاعم هناك ما إذا كانت «نباتية» أو «غير نباتية»، وأحياناً يبالغ بعض الرهبان والمتدينين الهنود في الحرمان من تناول أي طعام حتى النباتات، باعتبارها كائنات حية لا ينبغي التعرّض لها، وقد يكمل بعضهم الصوم حتى الموت.
وفي الغرب، حيث تسود الحياة المادية، يتطلع البعض إلى الروحانيات الهندية بصفتها رمزاً للمثالية ومصدراً للإلهام ووسيلة لحياة أكثر صفاء، ويعتبرها البعض أسلوب حياة أكثر من كونها ديناً؛ ففي عام 2009، أفادت شبكة «CNN» الإخبارية بأن برامج تثقيف السجناء حول التأمل واليوجا بدأت تنتشر في الولايات المتحدة، وأن هناك أكثر من 75 منظمة تعمل في هذا المجال بذريعة تحقيق السلام الداخلي للسجناء والنضج الروحي، من خلال التأمل وممارسة الرحمة. وفي نفس العام، تم تعيين توماس داير، أول قسيس بوذي في تاريخ الجيش الأمريكي، وتم إرساله إلى أفغانستان لإدارة شئون الجنود الأمريكيين البوذيين هناك.
وفي الصين، حيث القبضة الحديدية للحزب الشيوعي الحاكم والتضييق على معتنقي كل الأديان، انتشرت طريقة «فالون جونج» الروحية المتأثرة بالبوذية، واجتذبت عشرات الملايين، حتى رأى فيها الحزب الشيوعي تهديداً له، فأعلنها جماعة محظورة، وقتل الآلاف من أعضائها تحت التعذيب.
كذلك أنتجت سينما هوليود عديداً من الأفلام التي تتناول البوذية وروّجت لها وطرحت قضاياها، وبمرور الوقت وجدت الممارسات الروحانية الهندية طريقها إلى عدد من المشاهير في الولايات المتحدة وأوروبا، من مغنيين وفنانين وموسيقيين وممثلين وسياسيين وغيرهم. ومن هؤلاء، الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، الذي عين راهباً بوذياً لتعليمه فنون التأمل، واشتُهر عن كلينتون أنه لجأ إلى البوذية من أجل الصحة العقلية والجسدية بعد مروره بأزمة قلبية في فبراير 2004، وقال إن التأمل ساعده على الاسترخاء مما جعله يشعر بتحسن كبير، وتحول إلى نظام غذائي نباتي أيضاً.
كان ستيف جوبز، مؤسس شركة «أبل» الأمريكية، صديقاً لكلينتون، وقد تأثر في مقتبل عمره بكتاب شهير بعنوان «السيرة الذاتية ليوغي» لبرمهنسا يوغانندا. وفي عام 1974 سافر جوبز إلى الهند، للقاء المعلم الروحي الهندوسي الشهير نيم كارولي بابا الذي كان مصدر إلهام لأصدقائه، لكنه وجده مات لتوه، وحينها تعرف على البوذية وظلت معه بقية حياته، لأنها تسمح بمزيد من الانخراط في العالم أكثر مما يُسمَح به للهندوس الزاهدين. وعلى مدار سنوات، رتّب جوبز لقاء أسبوعياً براهب بوذي في مكتبه لإرشاده حول كيفية تحقيق التوازن بين حسه الروحي وأهدافه التجارية.
وقد اشتهر جوبز بوصفه رجلاً مُلهِماً، وراجت مقولاته حول تغيير العالم، وإيمان الفرد بنفسه، ووفرت البوذية الأساس الفلسفي لاختياراته المهنية، وكيفية المزج بين البحث عن التنوير الشخصي، وطموحه لإنشاء شركة تقدم منتجات تُغيِّر العالم.
وقبل بضعة أشهر من وفات جوبز في عام 2011، كان هذا الكتاب الذي قرأه في مطلع حياته هو الكتاب الوحيد على جهاز الـ«آيباد» الخاص به، ولمّا شعر بقرب موته، نظّم حفل تأبينه مسبقاً، وجهّز هدايا للحاضرين المفترضين، فلما مات فتحوا هداياهم فوجدوها عبارة عن نسخ من نفس الكتاب.
وفي عام 2015، عندما زار رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، المقر الرئيسي لشركة «فيسبوك» في الولايات المتحدة، أخبره مارك زوكربيرج أن جوبز اقترح عليه زيارة نفس المعبد في الهند لاكتشاف نفسه، وبالفعل زاره عام 2008، وظل هناك لمدة شهر تقريباً.
وأصبح بعض المشاهير في الغرب يمارس بعض الطقوس البوذية للحصول على الصفاء الروحي من دون أن يعتنق المعتقد ذاته، فاللاعب المصري في نادي ليفربول الإنجليزي، محمد صلاح، أدى إحدى وضعيات اليوجا، مرتين في 2019 و2022، احتفالاً بتسجيله أحد أهدافه، فوقف على رجل واحدة وثني الأخرى وضم يديه أمام رقبته، وهذه تسمى وضعية الشجرة أو «فريكساسنا» باللغة الهندية، وقد صرّح صلاح لاحقاً، تعليقاً على ذلك:
«أنا رجل يوجا، أمارس اليوجا، وفكرت في أن أحتفل بهذه الطريقة».
بحسب بعض الإحصاءات، يبلغ عدد أعضاء الشتات الهندي في الخارج نحو 31 مليون نسمة، كثير منهم عمال غير مؤثرين، لكن نسبة مهمة منهم يقبعون في مناصب ووظائف مرموقة، ويحظون في العالم الغربي بقبول أكثر من جنسيات أخرى، فلا يُنظر إليهم بتشكك عالعرب أو الصينيين، ويساعدهم إتقانهم للغة الإنجليزية، ولو بلكنة خاصة، وتعليمهم العالي على الترقي الوظيفي.
وقد لمعت أسماء كبيرة في هذا المجال مثل الرئيس التنفيذي لموقع «يوتيوب» نيل موهان، والرئيس التنفيذي لـ«جوجل» ساندر بيتشاي، والرئيس التنفيذي السابق ل«ستاربكس» لاكسمان ناراسيمهان، والرئيس التنفيذي لشركة «أدوبي» شانتانو ناراين، والرئيس التنفيذي لـ«مايكروسوفت» ساتيا نادالا، والرئيس التنفيذي لشركة «آي. بي. إم» أرفيند كريشنا. وغيرها من كبريات الشركات والأصول التي تضاهي الناتج المحلي الإجمالي للهند.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، هناك كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي، ومرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة، التي تحمل جذور هندية. كذلك سعى رجل الأعمال، فيفيك راماسوامي، والسفيرة نيكي هالي، وهما من أصول هندية، لنيل ترشيح الحزب الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة هذا العام، لكن الرئيس السابق، دونالد ترامب، استطاع الفوز بثقة الحزب، واختار السيناتور جي دي فانس، نائباً له، مما سلّط أضواء الإعلام على زوجته أوشا تشيلوكوري، وهي محامية تُجسِّد قصةَ نجاح المهاجرين الهنود إلى أمريكا، لما تحظى به من مؤهلات تعليمية ومهنية مثيرة للإعجاب.
ويُذكر أن حوالي 70% من الجالية الهندية في الولايات المتحدة يحملون الجنسية الأمريكية، ويزداد عدد الهنود بشكل مستمر في دول متقدمة مثل اليابان وألمانيا؛ حيث يتزايد الطلب على المهاجرين أصحاب الكفاءات؛ ففي بريطانيا يقود المعارضة حالياً، ريشي سوناك، زعيم حزب المحافظين، وهو هندي الأصل، وقد شغل منصب رئيس الوزراء من أكتوبر 2022 إلى يوليو 2024.
خلف كل هذا الوجود الكبير، تكوّنت مجموعة مؤثرة تدافع عن مصالح الهند، وشكلت «لوبي» استطاع انتزاع امتيازات مهمة؛ ففي عام 2005 عقدت واشنطن مع نيودلهي اتفاقاً، اعترفت بموجبه بالهند قوة نووية، رغم عدم توقيعها على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وقيل إن ضغوط وأموال اللوبي الهندي هي التي مرّرت هذه الصفقة إلى الكونجرس الأمريكي.
وفي محاولة لاستثمار هذه الموارد البشرية الهائلة، أطلق رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، حملة الهند بلد العجائب، للترويج للسياحة في بلاده، وطلب من كل فرد من مواطنيه في الخارج حث خمسة من أصدقائه الأجانب على زيارة الهند كل عام.
احتلت الهند المركز الأول عالمياً من حيث أعداد المغتربين، وأصبحت الأولى عالمياً في تلقي تحويلات العاملين في الخارج، واستضافت دول مجلس التعاون الخليجي أكبر تجمع للهنود خارج بلادهم بتعداد يقارب الـ10 ملايين نسمة، أي نحو ثلث إجمالي العمالة الأجنبية في الخليج، وهو ما يساوي تقريباً تعداد مواطني دول الخليج العربي مجتمعة عدا السعودية.
وفقاً لإحصاءات وزارة الخارجية الهندية، تنفرد الإمارات وحدها بنحو ثلاثة ملايين ونصف المليون هندي يمثلون 30% من سكانها، بينما يوجد في السعودية أكثر من 2.4 مليون، وفي قطر أكثر من 800 ألف، وأكثر من مليون في دولة الكويت، ونحو 780 ألفاً في سلطنة عُمان، وفي البحرين نحو 332 ألفاً.
وبحسب البيانات، فإن أكثر من 20% من المهنيين على الأقل من ذوي الياقات البيضاء في دول مجلس التعاون، هنود، منهم الأطباء والمهندسون والمعماريون والمحاسبون والمصرفيون ورؤساء الشركات ورجال الأعمال.
ومع ارتفاع دخل بعضهم، جلب الهنود عائلاتهم إلى البلدان الخليجية، وبالتالي ظهرت مدارس مختلفة بمناهج هندية، وأُنشئت معابد لممارسة عباداتهم، وبدأ العرب يتعرفون أكثر على ثقافاتهم، ودخلت ممارسات اليوجا إلى الجامعات السعودية ضمن رؤية 2030 التي تبنتها الرياض منذ عام 2016، كما أن مساجد دول مجلس التعاون الخليجي التي تزيد على 100 ألف مسجد، أصبحت أغلبية الأئمة والمؤذنين والعاملين الأجانب فيها من الهنود.
كما أصبحت الإمارات والسعودية عضوتان في مشروع الممر الهندي الذي يمتد لأكثر من ثلاثة آلاف ميل من الهند حتى أوروبا، ويمر أيضاً بالأردن وإسرائيل. أي إن المنطقة العربية أصبحت في قلب هذا المشروع الغربي الهندي. وهناك أيضاً مشروع لإنشاء قطار الخليج لربط السكك الحديدية بين جميع دول مجلس التعاون والهند، وحين الانتهاء من هذا المشروع ستزداد أهمية دور الجالية الهندية في الخليج.
تمثل ممارسات تنظيمات اليمين الهندوسي المتطرف خصماً من رصيد القوة الناعمة الهندية، خصوصاً في الوقت الذي يقبع فيه حزب بهاراتيا جاناتا اليميني المتطرف في السلطة للعام الـ11 على التوالي، ويعد الحزب هو الجناح السياسي لمنظمة «RSS» شبه العسكرية، التي تقوم على أيديولوجية متطرفة تُدعى «هندوتفا»، تستوحي أفكارها من النازية والفاشية الإيطالية. ويُعد كتاب «كفاحي» للزعيم النازي، أدولف هتلر، من أكثر الكتب مبيعاً في الهند، وتشجع المنظمة وتقود المجازر ضد أكبر أقلية مسلمة في العالم، وثالث أكبر تجمع للمسلمين.
وقد تسببت المتحدثة باسم الحزب الحاكم في الهند في أزمة دبلوماسية مع العالم العربي عام 2022، حين أدلت بتصريحات مسيئة للدين الإسلامي، فاستدعت الكويت وقطر وإيران السفراء الهنود لديهم وأبلغوهم باحتجاجات رسمية، وأصدر مجلس التعاون الخليجي بياناً يرفض فيه ما حدث.
تعالت الدعوات الشعبية لمقاطعة المنتجات الهندية، وطُردت عمالتهم من دول الخليج لحرمانها من تحويلاتهم، ورغم قمع الحكومة الهندية لمظاهرات الأقلية المسلمة بعنف، فإنها خارجياً عملت على احتواء الأزمة بسرعة، واتخذت إجراءات لتهدئة ردود الأفعال الدولية؛ إذ إنها لا تستطيع الاستغناء عن الخليج العربي ومصالحها معه بسهولة.
والجديد في هذا الصدد هو تنامي عنف متطرفي «هندوتفا» مؤخراً ضد مسلمي أوروبا؛ حيث تم توثيق اعتداءات وأعمال عنف هندوسي واسعة ضد الجالية المسلمة في بريطانيا في عهد حزب المحافظين، الذي يُتهم بأنه دخل تحالفاً انتخابياً غير معلن مع حزب «بهاراتيا جاناتا»، وتم رصد دعم قادة الهندوس في بريطانيا للتصويت للمحافظين لأسباب منها التقارب الفكري بينهما نسبياً، رغم أن رئيس الوزراء الهندي الحالي، ناريندرا مودي، كان ممنوعاً من دخول بريطانيا بعد مذبحة جوجارات 2002، التي ذهب ضحيتها ما يزيد على الألف مسلم، شبههم مودي -آنذاك- بالكلاب التي تدهسها السيارات على الطرق.
كذلك تمثل الأقلية الهندية في كندا حجر عثرة أمام تطور العلاقات بين البلدين، لأن السيخ يمثلون شريحة كبيرة من هذه الأقلية، وهم يطالبون باستقلال إقليمهم عن نيودلهي، ودخلت العلاقات بين البلدين في أزمات قبل ذلك على خلفية هذا النزاع.
كما تنتشر بعض الجماعات الإرهابية المتأثرة بالهندوسية حول العالم، مثل جماعة «أناندا مارجا»، التي مدت أذرعها إلى 85 دولة على الأقل، وصنّفتها نيودلهي في السبعينيات جماعة محظورة، بسبب تورطها في هجمات إرهابية عنيفة في الهند وأستراليا ونيبال، وقد أسسها موظف في السكك الحديدية أقنع أتباعه باعتباره إلهاً، وتنطوي طقوس الجماعة السرية على استخدام جماجم بشرية وخناجر، وتنفذ عمليات إعدام سرية للمنشقين عنها.
حاولت بعض الجماعات الهندية نشر أفكارها في الدول الغربية والعربية تحت غطاء مراكز العلاج بالتأمل والطاقة، مثل جماعة «المهاريشي»، التي تتبنى خطة تبشيرية عالمية، وانتشرت مراكزها وأتباعها في أكثر من 60 دولة، وتم طرد عناصرها من إمارة دبي بالإمارات.
إجمالاً، يبدو أن الهند التي أصبحت فجأة ودون إعلان رسمي إحدى أكبر دول العالم، لا تزال غير مستوعبة لتلك المكانة، في ظل انشغالها بصراعاتها الداخلية بسبب تسلط اليمين الهندوسي المتطرف، أو بعبارة أخرى فإن لدى الهند آفاقاً هائلة لاستغلال وتعظيم قوتها الناعمة بالنظر إلى قوة تأثير الثقافة الهندية، بخاصة في ظل الدعم الغربي لهذا النموذج، الذي يسد الفراغ الروحي في الدول المتقدمة كبديل عن النموذج الإسلامي، والذي يُنظر إليه كتهديد لا يمكن التعايش معه.