مجتمع

«الروتين والإبداع»: صداقة لا يعترف بها المجتمع الحديث

هل الفوضى تؤدي إلى الإبداع، وهل الروتين يعني دائمًا خفوت شعلة الإبداع، ومقدمة لموت المبدع؟

future الروائي الأمريكي تشارلز ديكنز

الفوضى، كلمة وجدت لنفسها مكانًا في العالم الحديث. بدأت من زاوية الازدراء لتصبح في مركز حركة العالم، وأساسًا لنظرياته. فبعدما أقنعت الحداثة البشر أن كل شيء يجب أن يكون منسقًا ومرتبًا، وأن هناك مُقدمات يجب أن تؤدي لنتائج محددة، وأن العلم دائمًا يملك الإجابة عن كل شيء؛ أصبح عالم اليوم -عالم ما بعد الحداثة- غير مؤمن بكل هذا التنسيق والتراتبية، وأن العلم لم يعد قادرًا على تفسير سلوكيات البشر، ولا التنبؤ بمسارات حياتهم، وأثبتت الحروب العالمية -الأولى والثانية- أن الإنسان ليس متحضرًا كما يدّعي، وأن الوحشية والبدائية لا تزالان كامنتين فيه، تتربص اللحظة المناسبة لتظهر للعلن.

ظهرت نظرية الفوضى لتُوضِّح للإنسان جانبًا مما يراه، وأن هذا اللانظام المحيط به هو في واقعه نظام بصورة ما. وعلى الإنسان أن يبحث عن المعنى في تلك البيانات المشوشة. فتصبح الفوضى المادة الخام التي يتشكل منها الترتيب، لا أن تكون الفوضى نقيضه. أو يقف الإنسان موقف المتأمل من الفوضى حوله، محاولًا إيجاد الترتيب الموجود مسبقًا في هذه الفوضى المتوهمة.

الفوضى في حياة المبدعين

انتقلت تلك النظريات إلى الأدب. فباتت الأعمال الأدبية من منتج خطي له بنيان محدد إلى عالم من الدوامات المتداخلة، تبدو كلها مجرد دوامات، لكن عند التركيز فيها يجد الناقد أو القارئ فيها إبداعًا وإضافة في كل دوامة عن الدوامات الأخرى. وأصبح المبدعون يتنافسون في اختلاق أساليب جديدة للكتابة، فلم تعد جدّية الفكرة أو أصالتها العامل الأساسي في العمل الإبداعي، لكن كذلك باتت طريقة التنفيذ. وبما أن المعتاد هو النسق المنظم، فإن الجديد صار هو الخروج عن النظام، مما يعني بكلمات أخرى اللجوء للفوضى.

انتقلت الفوضى من النصوص والمنتجات الإبداعية إلى حياة المبدع نفسه. وبدأت حالة من الإيمان بالفوضى الحياتية سبيلًا وحيدًا للإبداع. وأن الفنان يجب ألا يلتزم بأي روتين يومي أو وظيفي مثلًا، لأن هذا الروتين سيقتل إبداعه ثم يأكل روحه الشفافة. مما يطرح سؤالًا جوهريًا: هل الفوضى تؤدي إلى الإبداع، وهل الروتين يعني دائمًا خفوت شعلة الإبداع، ومقدمة لموت المُبدع؟

ربما يمكن المحاججة النظرية عن كل فكرة؛ عن أن الروتين يقتل الإبداع، وأيضًا عن أن الروتين يساعد الإبداع. ويمكن الجدال من منطلق أن الفوضى الحياتية، والانعتاق من كل قيد أو مسئولية، يساعد المبدع على الانطلاق والإنتاج. ويمكن كذلك القول إن الفوضى الحياتية تجر المبدع إلى الغرق في عالم من الملذات الحسية قد لا يستفيق منها لإبداعه، وتسلب منه كذلك الشعور بالأمان المادي والنفسي، فتكون الفوضى هي السبب في نوعية جديدة من المشكلات يعاني منها الإنسان، فيتعطل إبداعه.

لذا من باب المحاولة للخروج من الجدل الدائري، والهرولة في حركة مفرغة، يمكن أن نستقصي آراء المبدعين أنفسهم، ونسق حياتهم. سنجد الصورة المتخيّلة للمبدع أنه فوضوي، يستيقظ كل يوم غير مدرك ماذا عليه أن يفعل في يومه، فقط يحاول النجاة منه ليحيا يومًا آخر. توافق تلك الصورة الذهنية عددًا فعليًا من المبدعين والأدباء، لكن عددًا كبيرًا منهم على الجانب الآخر ارتبطوا بروتين يومي لحياتهم، والتزموا فيه بأداء وظائف مملة، ومهام اجتماعية إلزامية مراعاة للأسرة ولأعراف المجتمع أو الانتماء الديني.

الروتين من أجل حالة ذهنية أعمق

في كتابه الجديد، «طقوس اليومية: كيف يعمل المبدعون»، يستعرض ماسون كيري عديدًا من الأعمال الفنية لأكثر من 160 شخصية مبدعة، ما بين رسامين وكُتّاب ومؤلفين. نكتشف إجمالًا أن هذه الشخصيات تتعامل مع الروتين اليومي باعتباره أمرًا إلزاميًا وضروريًا، ليس مجرد رفاهية يمكن الاستغناء عنها. فبعضهم كان يلتزم بالمشي لمدة ثلاث ساعات يوميًا أيًّا كانت ظروفه، والبعض الآخر كان يفرض على نفسه كتابة 250 كلمة كل 15 دقيقة ويستمر في الكتابة لمدة ثلاث ساعات متواصلة. وغالبيتهم يلتزم بأداء وظائف أخرى حكومية غير الوظائف الإبداعية.

بعيدًا عن الكتاب، سنجد أن الأديب التشيكي فرانتس كافكا من هؤلاء الموظفين. فقد كان يكتب في أوقات الليل وحسب، بسبب ارتباطه بوظيفته في شركة تأمينات. وبالطبع كانت تلك الوظيفة تلتهم ساعات الصباح يوميًا. كافكا شرح لخطيبته، فيليس بوير، كيف كان يومه مُقسمًا بصرامة، فقال لها إنه من الثامنة صباحًا وحتى الثانية أو الثانية والنصف ظهرًا يكون في المكتب. ثم يتناول الغداء في الثالثة أو الثالثة والنصف، بعدها يقضي الوقت في محاولات النوم حتى السابعة والنصف. وبعد أن يستيقظ يمارس الرياضة لعشر دقائق في الهواء، ثم يسير ساعة وحيدًا أو مع صديقه ماكس برود. بعدها يتناول طعام العشاء مع عائلته، ومن العاشرة والنصف وحتى الواحدة أو الثانية أو الثالثة أو حتى السادسة صباحًا، بحسب طاقته، يكتب.

هكذا وضع كافكا لنفسه نظامًا صارمًا، استطاع من خلاله المواظبة على مصدر دخله وعلى حياته الاجتماعية والأهم استطاع أن يستمر في الكتابة، ويستحضر إلهامه ليلًا، رغم أن عديدين يرون الإلهام شيئًا صباحيًا، لكن كافكا وآخرين درّبوه أن يكون كائنًا ليليًا مثلهم.

ومن هؤلاء أيضًا نجد الكاتب المسرحي الأمريكي تينيسي ويليامز، الذي يعد من أبرز ثلاثة كُتّاب للمسرح في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين، لكنه كان يعمل لفترة طويلة في شركة أحذية. كذلك نجد الأديب البريطاني دي إتش لورانس، كاتب عديد من الروائع العالمية، مثل «عشيق الليدي تشارلي» و«أبناء وعُشّاق» وغيرهما، كان موظفًا في أحد البنوك. وكان يستغل فترة الليل للكتابة.

الروائي الياباني هاروكي موراكامي يكشف لنا عن نقطة أخرى، إذا وفّر لك منتجك الإبداعي دخلًا ثابتًا، فهل يكون من الصواب التخلي عن الروتين؟ موراكامي بدأ الكتابة وهو في مرحلة عمرية متأخرة. يصف الرجل تلك اللحظة بأنها واتته فجأة وهو يشاهد مباراة بيسبول، أن عليه كتابة رواية. اندفع موراكامي خلف هذا الشعور الغامض، وكتب أولى رواياته حتى صارت شهرته العالمية مصدرًا كافيًا للدخل.

ترك موراكامي نادي الجاز الذي كان يديره واكتفى بالكتابة. لكن بعدها يقول إن يومه بدأ يضيع أكثر وكذلك جسده. يقول إنه حين ترك النادي، واعتمد على الجلوس للمكتب والكتابة. بدأ وزنه يزيد بشكل ملحوظ، كما قال إنه صار يُدخِّن كثيرًا، بمعدل ستين سيجارة يوميًا، حينها أدرك أن العودة للروتين هي الحل. يقول إنه يستيقظ في الرابعة صباحًا، ويعمل لخمس أو ست ساعات. ثم بعد الظهر يجري عشرة كيلومترات أو يسبح لكيلو ونصف، بعدها يقرأ قليلًا ويستمع للموسيقى حتى التاسعة مساء. وأضاف في أحد حواراته أنه يحافظ على ذلك الروتين كل يوم بلا أي تغيير. موضحًا أن التكرار في حد ذاته شيء مهم، إنه نوع من التنويم، فكأنما يقوم بتنويم نفسه ليصل إلى حالة ذهنية أعمق.

روتين نجيب محفوظ

الأمثلة الغربية أعلاه لا نستطيع أن نذكرها دون ذكر أن لها معادلًا شرقيًا أصيلًا، هو نجيب محفوظ. فقد التزم بالعمل الحكومي حتى بلوغه السن القانونية للمعاش، رغم أن أعمال محفوظ السينمائية تحديدًا كان بإمكانها توفير دخل محترم له ولأسرته، لكنه آثر التمسك بالوظيفة كعلامة على استمرار روتينه اليومي؛ فقد كان يكتب لساعة قبل الذهاب إلى الوظيفة، ثم يعود من عمله بعد الثانية ظهرًا، ثم يعود للبيت لتناول الغداء والنوم، ويبدأ الكتابة عندما تدق الساعة الرابعة، فيكتب لمدة ثلاث ساعات متصلة، ثم عند الساعة السابعة يبدأ ثلاث ساعات أخرى للقراءات المتنوعة. ويقول إنه كان يضطر للنوم كي يستيقظ صباحًا للوظيفة، لأن الموظف يجب أن يكون ملتزمًا بأقصى درجات الالتزام.

رغم أن محفوظ قال لرجاء النقاش في كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» إن الوظيفة التهمت من عمره 37 عامًا، وإن تلك الأعوام كانت ظلمًا كبيرًا له، لكنه استدرك أن الوظيفة هي من أمدته بنماذج بشرية مختلفة لم يكن ليقابلها على المقهى، أو في دائرته الاجتماعية. وأن الوظيفة من علمته كيف يستغل باقي يومه.

يشارك محفوظ في التمسك بالوظيفة الروائي الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز؛ إذ عمل صبيًا في مصنع، ثم صار كاتبًا في مكتب محاماة. كذلك كان يعمل أنطون تيشخوف طبيبًا، وقال كلمته الشهيرة: إن «الطب هو زوجته الشرعية، أما الكتابة فهي عشيقته».

قانون باركينسون

ربما إذن لا تسلبنا الوظائف ولا يسرق منا الروتين، قدرتنا على الإبداع أو الإنتاج لشيء نحبه. وأن الكمية التي سننتجها ستكون هي نفسها في كل الأحوال. طبقًا لقاعدة في علم الإدارة تُعرف بقانون باركينسون؛ إذ يقول إن الفرد إذا مُنح شهرًا لإتمام مهمة فسوف ينجزها على مدار الشهر كله، وإذا مُنح أسبوعًا فقط فسوف ينجز المهمة نفسها بكفاءة قريبة في الأسبوع. لأن تقليل الوقت المتاح لا يؤثر نسبيًا على الكفاءة، لكنه يقلل من المماطلة والتسويف، ويرفع من قدر الجهد المبذول.

لذا فقبل أن تفكر في الهروب من الروتين، أو ترك الوظيفة، كي تتفرغ لإبداعك المُرتقب، عليك أولًا أن تسأل نفسك: هل تستغل كل دقيقة تقضيها بعيدًا عن العمل أو التزامات الروتين في تنفيذ منتجك الإبداعي؟ وهل ما يمنعك عن الإبداع والانطلاق هو روتين حياتك الوظيفي والاجتماعي، أم إن هناك عوائق أخرى تختبئ خلف أسطورة الروتين قاتل الإبداع، وأسطورة الوظيفة خانقة الفنان؟

# الإبداع # كتابة # تطوير الذات

لماذا نكتب عن كرة القدم؟
سدة الكتابة: ما هي وكيف تتغلب عليها؟
وِرش الكتابة: صقلٌ للمواهب أم قتلٌ للإبداع؟

مجتمع