أمنية
«... أن تزول الغشاوة عن أعين القلائل الذين يتوهمون أن نجيب محفوظ يحاربهم من قبره البعيد!...»
احتجاج: «نفسي أعرف الكُتّاب المستائين من الاحتفال بنجيب محفوظ ما مشكلتهم! في ثقافات أخرى من هو مثل محفوظ يكون هناك مركز أبحاث كامل متخصص فيه، ومتحف محترم يضم أرشيفه كله، ومؤتمر سنوي يقدم قراءاتٍ عنه. هم مظاليم الثقافة مش قادرين يعتقوا حد ليه كده؟...»
— الشاعرة والكاتبة المصرية المقيمة بكندا إيمان مرسال
استهلال
فيما يمكن اعتباره ظاهرة مستحدثة يمكن أن نطلق عليها موسم الهجوم على نجيب محفوظ، صارت عادة مكرورة منذ ما يزيد على السنوات العشر الآن، بمجرد استحضار الاسم في أية مناسبة كانت؛ في ذكرى حصوله على جائزة نوبل (12 أكتوبر من كل عام)، وفي ذكرى ميلاده (11 ديسمبر من كل عام)، وفي ذكرى رحيله (30 أغسطس)، تنفتح فوهات الهجوم والاعتراض بعنف غير مسبوق، وكأن طلاب الشهرة والباحثين عن البروباجندا يتحينون الفرصة؛ أي فرصة للفت الانتباه والأنظار عن طريق الهجوم على محفوظ والاعتراض على محفوظ.. بأي طريقة كانت وأي وسيلة ممكنة!
هنا في هذا المقال إشارات — مجرد إشارات — للقيمة والجدارة بالاحتفاء بها والإعلاء من شأنها، وحاجتنا نحن إليها وليس العكس...
الصيحات الخائبة
تشتعل مهاترات ومعارك تنقشع كالضباب في حينها، لكنها في الآن نفسه كانت كاشفةً عن قطاع محدود، موجود، من مدعي الثقافة ودعيّ الكتابة والإبداع الذين يسيرون بمبدأ «خالف تُعرَف» أو «خُلقنا لنعترض» أو «فلتشعروا بنا فنحن نكرات لا يعرفنا أحد!».. أفكارهم الموهومة تختزل المنجزات الإبداعية الكبرى في علاقات ومؤامرات محبوكة وتربطها بالجوائز! حتى مع غياب ورحيل قامات كبيرة وكبرى فيما يزيد على العشرين سنة!
أتحدث هنا عن تلك الصيحات الخائبة الهزيلة التي تستغل حضور وشهرة وعظمة نجيب محفوظ كي تجذب قراء أو متابعين أو تثير زوابع دون داعٍ، من وراء التعدي على قيمته أو اتهامه بباطل أو الطعن في استحقاقه بنوبل!! (هكذا!!) إلخ تلك المهاترات الساذجة التي لا تزيد الرجل إلا حضورًا ورسوخًا رغم رحيله منذ 20 سنة كاملة!
سأبدأ بالتهمة المكرورة؛ تلك الفكرة الخائبة التي يرددها الضعفاء وذوو الثقافة الضحلة أن نجيب محفوظ ما كان لأحد أن يعرفه لولا فوزه بجائزة بنوبل 1988 (هكذا)!! وفي ظني وفي تفسيري لهذا الاتهام وأشباهه أن نجيب محفوظ أصبح يمثل بالفعل مشكلة كبرى حقيقة لضعاف الموهبة ومحدودي الوعي وذوي الثقافة الضحلة والمعرفة السطحية! مشكلة كبرى بمعيارية وكلاسيكية أدبه وإبداعه، بجودة ورقي هذا الإبداع للدرجة التي صار بها معيارًا دقيقًا وكاشفًا للغث من الثمين، ومن الجاد للهزيل، ومن صاحب الموهبة والجدارة للتافهين الذين يظنون في أنفسهم ما ليس موجودًا ولا قدرة لهم على إيجاده!
هذه هي الحقيقة التي يتجنب الكثيرون الخوض فيها أو التعرض لها بمناسبة أو بدون مناسبة، خاصة مع تعالي الصيحات الاحتجاجية عقب الإعلان عن اختيار محفوظ شخصية معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الجديدة المنعقدة خلال الفترة (21 يناير – 2 فبراير 2026).
فلسفة محفوظ الإبداعية في العمل لا العبقرية
إن مشكلة الذين يهاجمون محفوظ أو يعتبرونه «عقبة» أو يصرون على أنه صنم أو إله بأي طريقة كانت؛ بتعسف في التأويل، أو باستقراء ناقص ومنقوص للتاريخ الأدبي والوقائع المرجعية ولأدبه ونصوصه نفسها (وهذا ليس مصادرة أبدًا على من لم يستسغه أو لم تكن ذائقته قادرة على تلقي أعماله.. فهذا حق صريح وحرية مطلقة لا جدال فيهما)، أنهم يريدون إسقاط قيمة كبرى فعلًا من الصعب إسقاطها! أو التعامي عنها أو إغفالها أو صرف النظر عنها!!
لسببٍ بسيط غاية البساطة؛ يتمثل في أن نجيب محفوظ كان يحترم الموهبة بلا شك، لكنه لم يعول عليها وحدها أبدًا في صنع إنجازه الكبير، إنما كان يعول دائمًا على العمل فقط، وبذل المجهود وحده، يعتبرهما الشيء الوحيد الذي يملك الإنسان أن يعول عليهما؛ لأنه ببساطة يمتلكهما ويمكن أن يتحكم فيهما، ولا يمتلك شيئًا آخر غيرهما، فبقدر عطاء الإنسان عملًا ومجهودًا بقدر تحقيق الإنسان لذاته وهدفه، ولقد أعطى محفوظ درسه الإبداعي والإنساني العظيم، وهو أن يهتم الإنسان بقيمة العمل فقط، وحب العمل فقط، وإتقان العمل فقط، أكثر من اهتمامه بالثمرة الناتجة عنه.
يقول نجيب محفوظ: «اعتمدت في مسيرة حياتي على عناصر أعتقد أنها ضرورية لكل إنسان، أو هذا ما أرجوه، أولها الانتماء، وهي كلمة بسيطة لكنها تعني الانتماء للأسرة، وللوطن، وتتسع لتشمل الإنسانية، فالإنسان من خلال كلمة الانتماء يشعر بأنه عضو في أسرة الكرة الأرضية. وعلى رأسها بيته الخاص الذي هو وطنه، هذا الانتماء يجعله ينظر للحياة نظرة جدية، وأنه مطالب بأعمال مثل تلك التي يطالب بها رب الأسرة نحو أسرته وأولاده.
العنصر الثاني الإيمان بالعمل، فأنا لم أُتوِّه نفسي في اصطلاحات غامضة قد تكون وقد لا تكون مثل: العبقرية.. الموهبة.. الإلهام.. الشيء المحسوس الذي أثق منه وفي يدي، هو العمل، والباقي (يقصد الموهبة، العبقرية، الإلهام) إن كان موجودًا فأهلاً، مافيش.. نشوف العمل يؤدي إلى إيه.. وأقصد هنا العمل بإصرار وقوة، إصرار يستمده من العنصر الأول وهو الانتماء..
العنصر الثالث؛ هو حب هذا العمل، دائمًا ما يتهيأ للمرء أنه بديهية، لكن في الواقع يجب أن يكون حب العمل أكثر ولو درجة عن حب الثمرة بتاعته؛ لأن لو الإنسان نظر إلى الثمرة فقط، فهناك أكثر من طريق تؤدي إليها، وهناك أكثر من طريقة وأسلوب يؤدي إليها وقد يضيع قيمتها كلها. إذن مطلوب من الإنسان أن يحب عمله أكثر من الثمرة، وأن يصرّ عليها..»
محاكمة محفوظ الأبدية
أما الوجه الآخر للمشكلة التي يشعر بها البعض ممن يطلقون على أنفسهم «شباب الكُتّاب» أو «كُتّابًا» بأي معنى كان، فتتمثل في نظرتهم إلى نجيب محفوظ والشكوى الدائمة من حضوره المتوهج والحديث الدائم عن عظمته ككاتب وعظمة أعماله السردية التي يمكن اعتبارها دون أدنى مبالغة أهم وأثمن ما كتب في الأدب العربي كله خلال المائتي عام الأخيرة.
أحيانًا أشعر أن مشكلة كثير من هؤلاء الكُتّاب الشباب (أو غير الشباب!) مع نجيب محفوظ هي «العجز».. بالمعنى الحرفي للكلمة!
عجز القراءة (قراءة مشروعه الإبداعي، واستيعاب أبعاده الإنسانية والجمالية الكلية)، وعجز الكتابة (أن تكون هناك كتابة مغايرة ومجاوزة لما قدمه محفوظ)، والعجز عن تحقيق إنجاز إبداعي كبير يجسد قيمًا إنسانية باقية وحقيقية!
هؤلاء طموحهم الفكري والإبداعي — في الغالب — أكبر بكثير جدًا من قدراتهم وإمكاناتهم فعلًا؛ ثقافيًا ولغويًا وفلسفيًا، ورؤيويًا، وكل شيء.. فلم تكتمل لهم رؤية صحيحة، ولا ثقافة عميقة، ولم يصلوا إلى «رُبع» وعي وثقافة نجيب محفوظ أو «رؤيته» الكلية المتجددة المتطورة، ولا استيعابه المذهل لقضايا الإبداع والفن، وهموم الثقافة المحلية والإنسانية التي ينتمي إليها، فضلًا على امتلاك الموهبة في أصفى وأنصع مجاليها.
ومن الغريب أنهم يتهمون المختلفين معهم في طروحاتهم المنقوصة بأنهم «مِديوكر» (أي ضحل الثقافة مدعيها)؛ الكلمة التي أصبحت، من كثرة ابتذالها وسخافتها وتكرارها السمج ورائحتها العطنة، دلالة على هذا الفريق كله أولًا عن آخر!
هؤلاء يحدثون أنفسهم سرًّا بالتأكيد؛ يقولون: لا نستطيع أن نقلص من منجزه الإبداعي؛ أو حضوره الإنساني أو مكانته العالمية التي بالمناسبة كانت قائمة وحاضرة قبل نوبل بسنواتٍ طويلة؛ إذن.. فلنحاكمه سياسيًّا ودينيًّا وأيديولوجيًا (وكل كليلة!) سنظل نحاكمه قسرًا وجبرًا حتى بعد رحيله لننتزع منه اعترافًا «لن ينتزع ولن يصدقه أحد» بأنه فاز بنوبل لموقفه من اليهود، وآرائه في التطبيع، وهذا الكلام التافه المكرور الذي ردده أشياع اليسار ثم تراجعوا عنه (أو هكذا يُفترض)!
نقد عقلاني أم محاكم تفتيش؟!
شيء محزن ومخجل والله أن يكون التعامل مع قضايا أثبت الزمن والتاريخ والمنطق أنها «متهافتة» ولا تصمد لأي نقاش جاد وحقيقي. يلومون على الرجل ويعيبون عليه أنه كان «مبدعًا عبقريًا إنسانيًا كبيرًا»!
بسبب أنه مبدع عبقري صار «صنمًا» و«عقبة»، وصار «فتنة»، وصار «سجنًا» وصار «سقفًا»، وصار... بلا بلا بلا بلا بلا... من هنا للغد! أو صار مقدسًا «نبيًا» و«إلهًا» (هكذا).. إلخ إلى إلخ ما شئت من تهم مكرورة ومحفوظة وقديمة وسخيفة وتافهة!
لكن لا بأس. رائع جدًا.. قدِّم أنت يا سيدي للثقافة المصرية والعربية بإبداعك الحر الأصيل العبقري ما يهدم هذا الصنم، ويبدد هذه القداسة، ويجترح هذه النبوة.. قدم طروحاتك الإبداعية وإنجازاتك الفنية ورؤاك الثقافية الكلية الشاملة التي تحتاجها الثقافة المصرية (كلمة كبيرة جدًا قياسًا إلى فكرة الثقافة المصرية ولوازمها.. والحديث عنها أمر ليس هينًا بالمناسبة، ويستدعي ثقافة جادة عميقة وأصيلة وراسخة، ومجهودًا وشغلًا دؤوبًا ومتصلًا في فهم طبيعة هذه الثقافة، ومكوناتها وأزماتها التاريخية والراهنة.. إلخ).
حطم أسطورته كما تشاء، وتمرد على أدبه بكامل لوازمه وتأثيراته، وما احتله من مكانة كبرى (ليس في الأدب العربي فقط، إنما في الأدب الإنساني كله عبر تاريخه).. انقده نقدًا عقلانيًا مستنيرًا محكمًا ولا تنصب له محاكم التفتيش على النوايا وعلى المواقف السياسية وعلى العقيدة الدينية.. بالضبط مثلما كان جماعات التكفير والتجهيل من كل شكل ولون يلوكون هذا الأمر دونما كلل أو ملل لعقود طويلة..
نعم. سيظل نجيب محفوظ فعلًا مشكلة.. ومشكلة كبيرة جدًا!