حين روى رجل الاستخبارات الشهير وليام هود قصة العميل المزدوج والمقدم في الاستخبارات العسكرية السوفيتية G.R.U بيوتر بوبوف في تسعينات القرن الماضي، اختار لها اسم Mole / «الخلد» مشبهاً أحد أهم جواسيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية C.I.A بحيوان الخلد الذي يخترق جذور النباتات ويحفر فيها بلا هدف، ومن ثم شاعت هذه التسمية بشكل غير رسمي لوصف عمليات الاختراق الاستخباري طويل الأمد وعالي القيمة للعدو، واليوم يبدو أن هناك «خلداً» من نوع خاص وسط رجال السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله الذي تساقط كبار قادته واحداً تلو الآخر بصورة دراماتيكية.
فما كاد الحزب يستفيق من صدمة الإطاحة بالحاج محسن السيد فؤاد شكر أحد مؤسسيه التاريخيين ورئيس أركانه العسكري، في يوليو الماضي، حتى صُعق بتفجيرات أجهزة الـ«بيجر» فالـ«ووكي توكي» في 17 من سبتمبر الجاري، فاغتيال إبراهيم عقيل/ الحاج عبدالقادر، أحد القادة المؤسسين للحزب ومسئول العمليات الخاصة الذي يُرجح أنه خلف الحاج محسن في منصبه، ومعه ثلة من نخبة قادة قوة الرضوان الذراع الطولى للحزب في 20 سبتمبر، في أكبر ضربة يتلقاها حزب الله على مدار تاريخه.
وما هي إلا أيام قليلة حتى نفذت إسرائيل غارة جوية أخرى في 24 سبتمبر استهدفت القيادي علي كركي قائد الجبهة الجنوبية للحزب وثاني اثنين من قادة الصف الأول تبقيا بعد سلسلة عمليات «قطع رأس القيادة» أو الاغتيالات الدقيقة التي استهدفت الحزب، ومع أن هذه العملية فشلت بصورة لافتة إلا أن الحزب تلقى ضربة قوية بعد يوم واحد باغتيال إبراهيم قبيسي قائد الوحدة الصاروخية للحزب، وتلتها ضربة أخرى خلال يومين فقط استهدفت قائد وحدة المسيرات الجوية بالحزب.
وبالطبع لم يكن مستغرباً أن تثير تلك الأحداث تساؤلات عن الخرق الاستخباري والفشل الأمني الذي أدى لنجاح تلك الإغارات الدقيقة على حزب الله وكبار قادته، فالصورة المرسومة للحزب في أذهان أعدائه قبل حاضنته الشعبية تصوره بأنه منظمة مؤمنة على أعلى مستوى، وهو ما لا يتطابق مع حجم ونوعية الضربات التي تلقاها خلال الفترة الأخيرة.
قبل الحديث عن عملية الاختراق والأسباب التي أدت لخلخلة القيادة العسكرية العليا لحزب الله والمعروفة باسم «مجلس الجهاد»، لا بد من الإشارة إلى طبيعة الجهاز الأمني والاستخباري للحزب والمنوط به الإشراف على تأمين الحزب والقيام بعمليات مكافحة الاستخبارات والتجسس، فضلاً عن العمليات الاستخباراتية الهجومية (الاستخبارات الإيجابية) التي تشمل العمل على اختراق العدو وجمع المعلومات عنه من المصادر المختلفة.
وأنشأ حزب الله منذ بداياته المبكرة جهازاً أمنياً واستخباراتياً قوياً يُعرف بـ«جهاز أمن المقاومة»، وحظي الجهاز بدعم الاستخبارات الإيرانية التي تولت عملية التدريب ونقل الخبرات المختلفة إليه، فيما تشير مصادر عسكرية واستخباراتية إسرائيلية إلى أن الحزب لديه علاقات بروسيا وكوريا الشمالية وأنه استفاد منها في تعزيز قدراته الأمنية والعسكرية.
وينقسم جهاز أمن المقاومة، كغيره من الأجهزة الأمنية الشبيهة، إلى وحدات وأقسام منها قسم الأمن والمعلومات التي تعمل على متابعة القنوات الدبلوماسية والسياسية والعلاقات مع فصائل المقاومة الفلسطينية والكيانات الأخرى في لبنان، وهذه الوحدة أشرف عليها القيادي الراحل إبراهيم عقيل بنفسه، وهناك قسم للأمن الاستراتيجي الذي يتولى جمع المعلومات عن أعداء الحزب في المنطقة وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل، كما أن هذا القسم به وحدات ارتباط بدول تتعامل مع حزب الله مثل إيران ودول بأمريكا اللاتينية وأفريقيا وبه قسم للدعاية والعمليات الإعلامية والنفسية.
وينضوي تحت جهاز الأمن قسم الأمن الخارجي الذي يضم الوحدة الإلكترونية المعنية بأمن الاتصالات وعمليات المراقبة والتنصت ومراقبة الاتصالات وكذلك عمليات الاختراق للهواتف وأجهزة الحاسوب وغيرها من الأجهزة التقنية، ولهذه الوحدة إمكانيات كبيرة تتواءم مع طبيعة الدور المنوط بها.
وتؤدي الأقسام السابقة مهمة ودور الاستخبارات الهجومية في ما يلعب قسم الأمن الوقائي مهمة الاستخبارات الدفاعية التي تعمل على تأمين الحزب ومكافحة التجسس وعمليات الاستخبارات المضادة ، وهذا القسم يتولى أيضاً تأمين قادة حزب الله أي إنه يعمل كجهاز أمني للقادة، وراج على نطاق واسع أن الأمين العام للحزب حسن نصر يخضع لتعليمات هذا الجهاز في ما يتعلق بتحركاته واتصالاته.
مع أن جهاز أمن المقاومة هو جهاز أمني فريد من نوعه بالنسبة لدوره في تأمين الفاعل المسلح الأكبر من غير الدول في العالم إلا أن هناك جملة من العوامل التي أدت لحدوث اختراقات مؤثرة في داخله منها ما يتعلق بطبيعة الحزب نفسه ومنها ما يتعلق بالسياق الذي ينشط فيه الحزب، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى عدم وجود أي نظام أو جهاز أمني يخلو من ثغرات ويكون عصياً على الاختراق.
وبنظرة تحليلية إلى الهجمات التي استهدفت المجموعة القيادية لحزب الله وكذلك نظام الاتصالات الخاص به يُلاحظ أن هذه الهجمات لم تكن لتتم دون وجود اختراق بشري من قبل الاستخبارات المعادية له بجانب بعض الأخطاء الأمنية التقليدية التي تنم عن وجود تراخ أمني لدى كوادره، وهذا لا ينفي أيضاً أهمية المعلومات التي توفرها مصادر الاستخبارات الأخرى كاستخبارات الإشارة «SIGINT» التي يقصد بها المعلومات الاستخباراتية التي تُجمع من الاتصالات واعتراض الإشارات الإلكترونية المختلفة.
وعلى الرغم من اتباع حزب الله إجراءات أمنية مشددة في انتقاء وتجنيد كوادره فإن الثغرة المحتملة ربما تكون وجدت من حيث لا يحتسب قادة الجهاز الأمني، لا سيما المسئولون عن جهاز/ قسم الأمن الوقائي، وهذه الثغرة متعلقة بجوهر العمل التنظيمي له، فخلال السنوات الماضية دخل الحزب على خط الأزمة السورية لدعم نظام الرئيس بشار الأسد والحفاظ على خطوط إمداده الممتدة من إيران حتى لبنان.
وشارك الحزب في معارك عديدة داخل الساحة السورية ومن ثم كان طبيعياً أن يفقد الحزب المئات من مقاتليه إن لم يكن الآلاف، وهو ما فرض عليه أن يقوم بعمليات تجنيد جديدة لتعويض خسائره وجبر الخلل البنيوي الحاصل في نسيجه التنظيمي، غير أن هؤلاء المُجَندين الجدد لم يكونوا كالأجيال السابقة من ناحية التمسك بالأيديولوجيا التي يعتنقها الحزب، وربما لم يدقق الجهاز الأمني بشكل كامل في الخلفيات الأيديولوجية للمنضمين الجدد له خلال تلك السنوات كما ينبغي، وبالتالي سمحت هذه الثغرة لأجهزة الاستخبارات الأجنبية بما في ذلك جهاز الاستخبارات الخارجية والعمليات الخاصة الإسرائيلي المعروف بـ«موساد» باختراق الحزب.
ومن المعروف أن الحزب قام بالأساس على أكتاف ثلة من المقاتلين المؤمنين بمبادئ الثورة الإسلامية الإيرانية والقتال من أجل طرد الاستعمار الأجنبي من لبنان والنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفق ما يحدده برنامج الحزب، وهذه المجموعة المؤسسة ومنها حسن نصر الله وعماد مغنية وفؤاد شكر وإبراهيم عقيل وغيرهم تميزت بالالتزام الشديد بالأيديولوجيا الشيعية ومرجعية الولي الفقيه، وهو ما لا ينطبق بشكل كامل على الأجيال الأحدث التي قد تتشارك نفس الأطر الأيديولوجية العامة دون التعمق في الالتزام الأيديولوجي كالقادة المؤسسين والأجيال التالية لهم.
ومن ناحية أخرى أسهمت الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها لبنان في منح أجهزة الاستخبارات المختلفة فرصاً ذهبية لا تعد لتجنيد عدد هائل من العملاء الذين قبلوا الانخراط في أعمال الجاسوسية مقابل المال، وتطورت هذه الشبكة من العملاء والجواسيس على مدار سنوات بالتوازي مع استمرار عمليات جمع المعلومات بواسطة استخبارات الإشارة- من قبل استخبارات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل وغيرهم من الدول، حتى جاءت اللحظة المناسبة لتوظيف كل هذه الموارد الاستخبارية واستخدامها ضمن عمليات التخريب والاستهداف عالي القيمة لكبار قادة حزب الله وشبكته التنظيمية والعملياتية.
وفي مقابل العمليات الاستخباراتية المكثفة التي قام بها خصوم حزب الله، عانى الحزب من تراخ أمني في بعض الجوانب بحيث صارت مبادئ الأمن العملياتي الأساسية لا تتبع من قبل بعض كوادره في كثير من الأحيان لا سيما في ما يتعلق بأمن الاتصالات والتساهل في الحديث عن كواليس العمل المكلفين به لدوائر الأقارب والمعارف لعدة أسباب منها الرغبة في إظهار الأهمية الشخصية للفرد أو ظهوره بمظهر العالم ببواطن الأمور أو للحصول على نوع من الوجاهة الاجتماعية في إطار البيئة الحاضنة لحزب الله في الجنوب اللبناني، وكل هذه الأخطاء خدمت خصوم الحزب الراغبين في الحصول على أسراره.
إلى ذلك تكشف عملية تفجير «البيجر» و«الووكي توكي» جانباً آخر من جوانب التقصير والتراخي الأمني لدى كوادر «جهاز أمن المقاومة»، فنجاح هذه العملية يشير إلى أن جهاز الموساد الإسرائيلي كانت لديه معرفة بالإجراءات الأمنية المتبعة أو البروتوكول الذي يتم اتباعه عند حصول الحزب على أجهزة اتصال جديدة، بما في ذلك الأجهزة والتقنيات التي يستخدمها لفصح أجهزة اتصاله اللاسلكية، وبهذه الطريقة استطاع الموساد التحايل على هذه الإجراءات، ومن ثَمّ أصبحت أجهزة الاتصالات المفخخة في حوزة كوادر الحزب.
وبمراجعة المعلومات المتاحة عن عملية الـ«بيجر» يتجلى انعدام الكفاءة والإهمال والتراخي الأمني من الناحية التقنية ومن ناحية التدقيق في سلاسل التوريد التي يتعامل معها الحزب والتي تعد هدفاً حيوياً لأجهزة الاستخبارات المعادية لها، فمن جهة لم يتم فحص خلفية الشركات المسؤولة عن توريد أجهزة الـ«بيجر» لحزب الله بشكل كاف، كما لم تُثر العروض التي قدمتها هذه الشركات والتي كانت مقابل سعر مغرٍ للغاية مقارنة بسعر السوق انتباه مسؤولي الحزب الأمنيين، أي إنهم تجاهلوا الإشارات التي يُفترض أن تنبههم لوجود فخ استخباري تنصبه لهم أجهزة الاستخبارات المعادية.
ووفقاً لما كُشف بعد عملية الـ«بيجر» فإن الأجهزة المفخخة وصلت لحزب الله عن طريق شبكة من الشركات المسجلة في أوروبا الشرقية (بلغاريا والمجر) وآسيا (تايوان)، ووجدت حول هذه الشبكة شبهات قوية كانت كفيلة بإبعاد حزب الله عن التعاقد معها بيد أن ذلك لم يحدث، حتى وقع هجوم الـ«بيجر»، فعلى سبيل المثال تقول شركة «جولد أبولو» Gold Apollo التايونية التي وُجد شعارها على عدد من الأجهزة المنفجرة في لبنان، إنها حصلت على ترخيص تصنيع أجهزة الـ«بيجر» من شركة «بي أيه سي كونسالتينغ» BAC Consulting التي اتخذت من العاصمة المجرية بودابست مقراً لها، بينما تقول BAC Consulting، إنها مجرد وسيط- وهي بالفعل مسجلة كذلك كما يُظهر موقع الحكومة المجرية- لشركة أخرى وهي Norta Global المسجلة في بلغاريا التي أسسها النرويجي الجنسية رينسون خوسيه وحولت الشركة الأخيرة لـ BAC Consulting، في وقت سابق مبلغ 1.6 مليون دولار مرتبطة بصفقة الـ«بيجر».
ونشط رينسون خوسيه على موقع فوندر ناشين/ FOUNDERS NATION وهي منصة إلكترونية تسهم في ربط رواد الأعمال بالشركات الإسرائيلية الناشئة، كما أن شركته Norta Global تعرف نفسها بأنها مجرد وسيط تجاري لنقل التقنيات بين مقدم الخدمة والمستخدم النهائي، وعنونها مسجل في مبنى يضم عناوين 200 شركة أخرى كثير منها شركات ليس لها وجود حقيقي أي إن الشركة مجرد واجهة في الغالب لكيانات أخرى، وهو ما لم يلاحظه الجهاز الأمني لحزب الله.
وعلى نفس المنوال، سجلت شركة BAC Consulting عام 2022، في العاصمة المجرية بودابست باسم الإيطالية المجرية كريستيانا بارسوني أرسيدياكونو/ Cristiana Barsony-Arcidiaconoالرئيس التنفيذي للشركة والموظف الوحيد بها، ومع ذلك فالتدقيق في السيرة الذاتية لـ«كريستيانا» التي كانت متاحة على موقع «لينكد إن» وغيره، يثير التساؤلات فهي تُعرف نفسها بأنها مستشارة استراتيجية، وخبيرة في تقييم المشروعات التمويلية، ومديرة مشروع في الهيئة الدولية للطاقة الذرية بيد أن سجلات الهيئة تقول، إنها كانت متدربة فقط، ورغم مبالغتها في وصف نفسها فإن مراجعة مسيرتها المهنية يبين أنها لم تعمل سوى لفترات قصيرة جداً في مهن مختلفة وكافحت من أجل إيجاد مصدر دخل منتظم كي تغير وظيفتها مجدداً، بتعبير من عرفوها.
وفي ضوء هذه المعلومات المتاحة قبل عملية الـ17 من سبتمبر كان ممكناً إدراك أن الشخصيات الرئيسية التي تتولى عملية توريد أجهزة الاتصال اللاسلكي مجرد واجهات لجهات أخرى، إذا أُجري تدقيق أمني في خليفتهم أو على الأقل التشكك بشأن حقيقة الادعاء الذي يدعونه، وهو ما لم يفعله أمنيو حزب الله الذين يبدو أنهم اطمأنوا إلى عملية التوريد على أساس أنها مصنعة في الشركة التايونية Gold Apollo، التي لم تكن سوى واجهة أخرى لعملية الخداع والتضليل التي تعرض لها الحزب.
على أن عملية الـ«بيجر» توحي بأنها كانت أبعد من مجرد عملية تخريب لأجهزة اتصال حزب الله خصوصاً عند النظر إلى التوقيت الذي نفذت فيه، ومن المحتمل أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية «الموساد»، استخدم هذه الأجهزة للحصول على معلومات استخباراتية بشأن كوادر ومقاتلي الحزب والتنصت على اتصالاتهم وتحديد مواقعه الجغرافية قبل تفجير هذه الأجهزة.
ويُرجح أن هذه العملية أجريت بالتعاون بين أفرع الاستخبارات الإسرائيلية وتحديداً جهاز الاستخبارات الخارجية «الموساد» والوحدة 8200 المسؤولة عن عمليات استخبارات الإشارة، والوحدة 504 المسؤولة عن العملاء في الدول العربية وكلتا الوحدتين تابعتان لشعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، وهذا يؤكد ما كشفته قناة CNN الأمريكية في تقرير لها أشار إلى تعاون «الموساد» والجيش الإسرائيلي في العملية.
وبالطبع تستغرق مثل هذه العمليات وقتاً وجهداً طويلاً قد يصل لسنوات، وفي حالة الـ«بيجر» فإن الاستخبارات الإسرائيلية وظفت الشركات المذكورة كواجهات دورها نقل أجهزة اللاسلكي إلى حزب الله، وكي تكسب هذه الواجهات ثقة المستخدم النهائي، وهو الحزب في هذه الحالة، ترسل له شحنات سليمة تماماً لفترة من الوقت ثم بعد ذلك يتم توريد المعدات المفخخة أو المجهزة لغرض الاختراق وتفعيلها عندما تحين اللحظة المحددة أو المناسبة.
ومن الجدير بالذكر أن اهتمام الاستخبارات الإسرائيلية بهذه العملية يرجع إلى معرفتها بحزب الله الذي آثر التحول لاستخدام التقنية البدائية كأجهزة الـ«بيجر» واللاسلكي، بغرض حرمان تل أبيب من المعلومات التي تحصل عليها عبر استخبارات الإشارة، فهذه الأجهزة أصعب من ناحية الاختراق لأنها تعتمد على تقنية قديمة وبدائية (تناظرية)، غير أن التوسع في استخدام هذه التقنية وعدم تنويع طرق الاتصال بصورة تتلاءم مع طبيعة المعركة والعدو، عُدّ بمثابة نقطة ضعف وظفها الإسرائيليون ضد حزب الله فأوقعوا خسائر كبيرة في صفوفه خلال العملية.
لكن هذه الخسائر والمحسوبة كأحد الانتصارات التكتيكية للاستخبارات الإسرائيلية على حزب الله قد تتضمن في جوهرها فشلاً استراتيجياً يتطلب سنوات أخرى من العمل الدؤوب للحصول على فرصة شبيهة واستغلالها بصورة حاسمة، كما أن حزب الله ومن خلفه الحرس الثوري الإيراني والاستخبارات الإيرانية سيحرصون على استخلاص الدروس المستفادة من هذا الخرق الأمني وسيعززون من تأمين اتصالاتهم وشبكاتهم التنظيمية وهو ما سيصعب المهمة على تل أبيب بالطبع.
كما أن تلك العمليات لن تؤدي إلى تقويض القيادة العملياتية للحزب بالكامل، فحتى مع حجم الخسارة الكبير فالأجيال الجديدة في الحزب قادرة على تولي المهام القيادية علاوة على أن نمط إدارة الحزب يجمع بين المركزية واللامركزية وهو ما يضمن استمراره حتى بعد توجيه ضربات قوية لنخبته القيادية، وهذا يفسر استمرار عملياته بما في ذلك قصف قاعدة رامات ديفيد ومجمع رفائيل للصناعات العسكرية ومقر الموساد الإسرائيلي، في حيفا وتل أبيب على التوالي خلال الأيام الماضية.
وفي نفس الإطار السابق، يمكن القول إن النجاحات التكتيكية للاستخبارات الإسرائيلية لم تكن لتتم لولا استخلاصها العبر والدروس من فشلها التكتيكي في المواجهة الأخيرة مع حزب الله عام 2006، وهو ما ذكره وزير الاتصالات وعضو الكابينت الأمني سابقاً يوعاز هيندل في دراسة له عن أداء الاستخبارات الإسرائيلية في حرب لبنان الثانية، نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي في ديسمبر 2022.
وخلصت الدراسة إلى أن أهم جوانب فشل الاستخبارات الإسرائيلية تركزت في وجود عقبات في جمع المعلومات الاستخبارية وعدم وجود مصادر بشرية موثوقة يمكن الاعتماد عليها في هذا الشأن وصعوبة الاستفادة من استخبارات الإشارة بسبب طبيعة نظام اتصالات حزب الله والتشفير العالي الذي يستخدمه، وكذلك وجود أخطاء في التقييم الاستخباري بما فيها الأخطاء في تقييم قدرات حزب الله وحجم ونوعية الأسلحة التي يمتلكها وطرق نقلها لها.. إلخ.
وعملت الاستخبارات الإسرائيلية على تلافي هذا الفشل عن طريق اختراق حزب الله وزرع عملاء لها في قلب حزب الله أو كما سميناهم «الخلدان»، واختراق قسم حيوي من منظومة اتصالاته، ومع ذلك فلم تتمكن من تلافي كامل أخطائها إذ بقي جزء من شبكة اتصالاته بعيداً عن الاختراق، كما أن تقييمها لقدرات الحزب لا يزال مشوباً بعدم الدقة، وهذا يفسر الإعلان غير الدقيق لمسؤولين إسرائيليين بشأن تدمير نصف ترسانة الحزب من الصواريخ الدقيقة خلال يومين فقط من حملة القصف الجوي، وهو ما نفاه جيش الاحتلال لاحقاً.
ومن محصلة ما سبق، يمكن القول إن النجاحات الاستخبارية التكتيكية لا تُخفي الفشل الاستراتيجي للاستخبارات الإسرائيلية، منذ الـ7 من أكتوبر، ومن هذا الفشل التعجل في استخدام سلاح «البيجر» قبل المواجهة الحاسمة مع حزب الله، ويتفق هذا الطرح مع ما أورده المحلل العسكري لصحيفة هآرتس الإسرائيلية يوسي ميلمان، في مقال له بالصحيفة، قائلاً إن مخططي عملية الـ«بيجر» أردوا الضغط على الزر في الوقت المناسب أي في بداية حملة واسعة النطاق أو حرب شاملة ضد الحزب، ليحققوا صدمة استراتيجية في قلب الحزب تماثل صدمة تدمير الطائرات المصرية في حرب الأيام الستة عام 1967، التي مهدت للاستيلاء على شبه جزيرة سيناء بلا مقاومة مصرية تذكر لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المهتم بمسيرته السياسية في المقام الأول اختار الضغط على الزر قبل الآوان ليتباهى بهذه الضربة ويوظفها لزيادة شعبيته على حساب مصالح الأمن القومي الصهيوني.
وبحسب يوسي ميلمان فإن نتنياهو أهدر سنوات من العمل الاستخباراتي السري والمعقد في وقت مبكر للغاية ولأسباب خطأ، ولذا سرب للإعلام خبراً مفاده أن تفجير الـ«بيجر»، جاء بسبب شكوك لدى اثنين من كوادر جهاز أمن حزب الله حول هذه الأجهزة، ليظهر كأنه لم يكن أمامه إلا خيار وحيد وهو تنفيذ العملية على الفور لينفي عن نفسه أي اتهام بالتعجل في استخدام هذا الخيار.
ولعل ما ذكره المحلل العسكري لصحيفة هآرتس يلفت إلى المعضلة الاستراتيجية التي تعيشها إسرائيل في الوقت الحالي، فقد تكون استخباراتها زرعت عميلاً أو خلداً في حديقة حزب الله الخلفية واخترقت جزءاً من اتصالاته محققة نجاحات استخبارية تكتيكية غير أن تلك الضربات النوعية المتفرقة لا تضمن لها تحقيق النصر إلا في حال وظفها القادة السياسيون في إطار استراتيجية شاملة، وهو ما لا يبدو أن بنيامين نتنياهو ووزراءه المتطرفين قادرين على فعله في الوقت الحالي، كما يقول الإسرئيليون أنفسهم.