فن

«الحياة بعد سهام»: حين تصير الذاكرة مونتاجًا للحب والغياب

في مواجهة الفقد والموت معا٠٠ كيف تتحول الكاميرا إلى أداة للتأمل ولإعادة اكتشاف الذات؟ وكيف تتجاوز نقل الحقيقة كما هي، لتصوغ رؤية للعالم تنبع من عين من يقف خلفها؟

future مشهد من فيلم «الحياة بعد سهام»

«ربما ما يؤلم في موت أحدهم هو أنه يبقى سؤالًا، سؤالًا مُعلقًا وموجَّهًا إلينا بلا توقف!»

- 33 عن الفقد والرُهاب، مينا ناجي

فيلم «الحياة بعد سهام» 2025 للمخرج نمير عبد المسيح هو من تلك التجارب التي يصعب تصنيفها داخل قوالب جاهزة، لأنه يتحرك بين الوثائقي والروائي كما يتحرك صاحبه بين الذاكرة والاكتشاف.

 في الظاهر يبدو الفيلم عن الفقد، حدث موت الأم سهام، لكنه في العمق بحث عن الذات عبر مرآة الأم، وعن الكيفية التي يمكن أن تصبح بها الكاميرا وسيلة للحداد والفهم والاكتشاف في آنٍ واحد.

يمتلك الفيلم تلك الخفة النادرة التي تتيح له لمس أي مشاهد يراه؛ إذ يخرج صانعه نمير عبد المسيح من دائرة الخاص إلى العام، فيحول تجربته الشخصية إلى تجربة جماعية، نتشاركها جميعًا بوصفنا بشرًا نحاول التصالح مع الغياب.

عرض الفيلم للمرة الأولى خلال الدورة الثامنة والسبعين من مهرجان كان السينمائي، ثم شارك لاحقًا في الدورة الثامنة لمهرجان الجونة السينمائي الدولي 2025، ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الدولية، حيث حصد جائزة نجمة الجونة الفضية.

«حين ينتابنا الحنين نطلق الصور»

- سوزان سونتاج 

سوزان سونتاج، في كتابها عن الفوتوغراف ترى أن التصوير ليس مجرد تسجيل لما هو كائن، بل طريقة لامتلاكه، لتثبيت اللحظة كي نصبح قادرين على فهمها ومواجهتها. فالكاميرا لا تنقل الحقيقة كما هي، بل تصوغ رؤية للعالم تنبع من عين من يقف خلفها.

هذه الفكرة تتجاوز الفوتوغراف لتشمل السينما أيضًا، حيث تتحول الكاميرا إلى أداة للتأمل، وللحداد، ولإعادة اكتشاف الذات. وهكذا يفعل نمير عبد المسيح في الحياة بعد سهام: يستخدم الكاميرا لا لتوثيق جنازة والدته، بل لإعادة بناء عالمه الداخلي، ولخلق فضاء بصري يجد فيه طريقة لمواجهة الفقد، ومصالحة ما تبقى منه مع ما رحل.

مشهد من فيلم «الحياة بعد سهام»

 نمير الذي قدم قبل ذلك فيلم «أنا والأقباط والعذراء» عام 2011، يذهب هنا إلى أكثر الأماكن هشاشة: علاقته بوالدته الراحلة. يبدأ الفيلم من الماضي من لحظة الفقد، حين قرر نمير أن يوثق جنازة والدته بعدسة المصور السينمائي نيكولا دوشين، كأنه يحاول مواجهة الموت  بالكاميرا على أنغام أغنية يا مسافر وحدك، ثم يعود إلى الحاضر عبر تفكيك الذاكرة نفسها.

من خلال  الصور، التسجيلات القديمة، والأحاديث العائلية التي تتحول إلى شظايا تحاول إعادة بناء الحكاية، وأثناء عملية التصوير والمشاهدة معًا، يكتشف نمير — ومعه المتفرج — حكايات لم يكن يعرفها عن والديه وعن نفسه. وكأن الفيلم يخلق ماضيه أثناء صنعه، وفي الوقت نفسه يؤسس لعالم ما بعد سهام، العالم الذي لا يمكن استعادته إلا عبر الكاميرا.

 يتعامل نمير مع الماضي كقطع متناثرة من البازل، يحاول جمعها بعناية: سهام تحكي، الأب وجيه  يتذكر، والخالة عنايات تستعيد ما غاب رغم ضعف ذاكرتها فيما تضيف الرسائل المتبادلة بين الوالدين طبقة أخرى من الحنين والالتباس. كل رواية تكمل الأخرى، أو تناقضها ، لتخلق من مجموعها صورة أكبر من الذاكرة الشخصية. 

هذه المفارقة هي أجمل ما في التجربة أن الكاميرا لا توثق فقط، بل تكتشف. الفيلم إذًا ليس مجرد مرثية، بل عمل وجودي يتساءل عن معنى أن تكون الابن  بعد رحيل الأم، وكيف يغير الفقد علاقتك بالزمن وبالحقيقة الشخصية خصوصا  ان استجابتنا للموت في الواقع تظل محملة بالرهبة والأسئلة المعلقة.

في لقاء مع المخرج نمير عبد المسيح  يعترف إن موت والدته جعله يدرك فكرة الموت في ذاتها، لا كحدث يخصها وحدها، بل كخَفَّةٍ حتمية ستمسه هو وكل من يحب. لقد تحول الفقد لديه من مأساة شخصية إلى وعي هادئ بفناءٍ يطال الجميع.

«ما بعد سهام ما بعد وجيه ما بعد نمير، بعدنا كلنا… هتفضل الحياة يا بابا، إحنا ابتدينا الحكاية وهم من بعدنا هيكملوها».

مشهد آخر من فيلم «الحياة بعد سهام»

لكن جمال الفيلم لا يتوقف عند البناء العائلي. فالمخرج يذهب خطوة أبعد حين يسقط التاريخ الشخصي لوالديه على سينما يوسف شاهين، رابطًا بين أفلام شاهين التي تناولت السجن، والمنفى، والبحث عن الحرية مثل «عودة الابن الضال 1976» و«فجر يوم جديد» 1965، وبين سيرة والده الذي دخل المعتقل ثم عمل في مؤسسة السينما — معلومة كانت مجهولة لنمير. وكأن حياة الأب والأم انعكاس لخيال شاهيني قديم.

بهذا الدمج الذكي بين الذاكرة الفردية و الخيال الجمعي، يمنح الفيلم بعدًا شعريًا يربط بين الحكاية الشخصية والخيال السينمائي، ويحول السيرة الذاتية إلى تجربة تأملية تتجاوز القالب الوثائقي التقليدي.

في مستوى آخر، يلجأ نمير إلى شكل بصري أقرب إلى السينما الصامتة: يكتب تعليقاته الشخصية على الشاشة، فيعبر عن مشاعره من دون صوت، بل بنصوص تظهر بين اللقطات. ويحوله إلى حوار داخلي بين المخرج ونفسه، حيث تتقاطع ثلاث حيوات: حياة الأم التي رحلت، حياة الأب التي يكتشفها من جديد، وحياته هو كمخرج يعيد اكتشاف ذاته أثناء التصوير.

من اللافت أن الحياة بعد سهام يُكمل مسارًا بدأه جيل من السينمائيين العرب الذين استخدموا الفيلم الوثائقي كمساحة للاعتراف الذاتي ومواجهة قضايا الفقد والهجرة والاغتراب، من بين هؤلاء يبرز فيلم «50 متر» للمخرجة المصرية يمنى خطاب، المعروض في الدورة نفسها من مهرجان الجونة 2025، وفيلم «باي باي طبريا» للجزائرية لينا سوالم، الذي عُرض في دورة المهرجان عام 2023 ومع ذلك، يحتفظ فيلم نمير بخصوصيته المصرية، في حسه بالفكاهة الخفيفة، وميوله نحو المونولوج الداخلي الذي يمنح السرد طابعًا تأمليًا حميمًا، ويحول التجربة الشخصية إلى فضاء يشارك فيه المشاهد الألم والحنين والاكتشاف.

# سينما # مهرجان الجونة # سينما مصرية

كولونيا: رائحة الماضي
مهرجان الجونة- «مجرد حادث» لجعفر بناهي.. لغز السعفة الذهبية
أسئلة الحب والعلاقات في السينما

فن