معرفة

الجنس عند البشر: للمتعة أم للتكاثر؟

كيف بدأت ممارسة الجنس وأين كانت بدايته؟ مقارنة بين ممارسة الجنس لدى البشر وسائر الكائنات الحية

future صورة تعبيرية: الجنس عند البشر:للمتعة أم للتكاثر

دعنا نتخيل أن الكلاب امتلكت عقولًا كخاصتنا وصار بإمكانها التحدث، وفي جلسة هادئة مع كلبك قررت أن تسأله عن رأيه في الحياة الجنسانية للبشر، تخيل معي ماذا سيقول؟

«هؤلاء البشر المقززون يمارسون الجنس في أي يوم من الشهر، تريد المرأة ممارسته وهي تعلم أنها غير جاهزة للإخصاب، ويتوق له زوجها حتى إذا كانت جهوده لن تثمر عن طفل، الشيء المقزز حقًّا أنه يفعل ذلك حتى لو كانت زوجته حاملًا، حتى إنهم يفعلون الشيء نفسه حين تبلغ المرأة ما يُسمَّى عندهم بسن اليأس! لكن إليك أغرب شيء على الإطلاق: إنهم يغلقون خلفهم الباب ويمارسون الجنس بسرية تامة بدلًا من فعل ذلك أمام أصدقائهم مثل أي كلبٍ محترمٍ»!

هكذا استهل جاريد دايموند كتابه «لماذا الجنس للمتعة؟» الذي أجرى فيه مقارنة ضمنية بين الإنسان وغيره من الثدييات، ليس الكلاب فقط وإنما الكائنات الحية بأكملها، فلو أخذنا مُمثلًا من كل نوع وجلسنا جميعًا إلى طاولة نقاشات جنبًا إلى جنب مع بقية الـ 6500 نوع من الثدييات لوضع قواعد للحياة الجنسانية، فإن أول من يُقصى بسبب غرابة قواعده سيكون الإنسان. لكن على العكس تمامًا، فإن الإنسان يعطي نفسه ما يكفي من الاستحقاقية لوصف أي نشاط جنساني لأي كائن آخر بالغريب، جاعلًا من نفسه بكل غرور محور ارتكاز لشتى القواعد، لكن مع دراسة الحياة الحيوانية نجد أن كل هذا التكبُّر يذهب هباءً.

إذا شرعنا في تحليل وجهة نظر الكلب في موضوع حياة الإنسان الجنسانية، فسنجد أنه ركز على عدة نقاط بعينها:

  • لماذا يبقى الرجل مع المرأة حتى بعد إخصابها مضحيًا بفرصة انتشار حيواناته المنوية؟
  • لماذا يفعلان ذلك حتى بعد أن تصبح زوجته حاملًا وقد حققا غرضهما بالفعل؟
  • لماذا تمر النساء بفترات انقطاع الطمث؟
  • لماذا يفعلان ذلك في الخفاء؟ 
  •  لماذا يختار الرجل زوجته بعينها ليعيش معها، لماذا تسود أحادية العلاقات حتى في مجتمعات تعدد الزوجات؟

الجنس لدى البشر.. للمتعة أم للتكاثر؟

حدث أول تكاثر جنسي منذ بليوني سنة، ويشيع الآن هذا النمط من التكاثر - عن التكاثر اللاجنسي - لدرجة أن نسبة 99.99% من الكائنات حقيقيات النواة تقوم به. وما زال سبب شيوعه لهذا الحد غامضًا. البعض يُفسر تفضيل الكائنات له أنه ممتع، لكن من ناحية تطورية فهذا السبب لن يفسر سوى اللحظات الأخيرة فقط في تطور الكائنات.

كان أول من مارست الجنس طلائع وحيدة الخلية منذ بليوني عام، ولم تتطور الحيوانات ذات الأعصاب القادرة على الوصول للنشوة قبل مرور 1.3 بليون عام.

مارست البكتيريا البدائية ونظيراتها الموجودة حاليًّا الجنس من أجل التنوع الجيني، ولم تكن المتعة أبدًا ضمن نطاق خبرتها. لأصدقك القول، استغرق الأمر بليونًا ونصف بليون عام منذ أول عملية تكاثر جنسي للوصول إلى «العلاقة الجنسية» بمعناها الحالي عند الفقاريات، والتي تشمل عضوًا ذكريًّا مخترقًا ومنطقية أنثوية مستقبلة، وعليه تتقابل الحيوانات المنوية مع البويضات داخل جسم الأنثى فيما يُعرف بالإخصاب الداخلي، ويبلغ عمر تلك العملية تطوريًّا نحو 400 مليون عام.

مُؤرخةً بنحو 380 مليون سنة، رصد العلماء بقايا متحجرة لجنين سمكة لا زال متصلًا بأمه. سابقًا، زعم العلماء أن بقايا الحيوانات الصغيرة بداخل أخرى أكبر ما هي إلا وجبة العشاء الأخير التي لم تُهضم، لكن هذا الاكتشاف الذي قام به العلماء عام 2008 أعاد استكشاف حفريات أخرى في المتاحف، وعُدت الحفرية تلك، والتي عُرفت باسم Materpiscis أي السمكة الأم، أول دليل على نمو الجنين داخل جسم الأم، ومنه على الإخصاب الداخلي.

ينتشر الإخصاب الخارجي لدى الأسماك حيث تضع السمكة الأم بويضاتها في المياه، لكن مع حفرية السمكة الأم وغيرها من الحفريات التي اكتشفت لاحقًا، بدأ العلماء في البحث عن أعضاء أو زوائد خارجية في جسد الأسماك يمكن أن تساعدهم في العملية الجنسية على غرار تلك التي نعرفها.

كيف يمكن لقضيب سمكة أن يكون دليلًا على الجنس الممتع؟ هل يمكن للسمكة أن تشعر بالمتعة؟ وهل معرفة الأمر على قدرٍ من الأهمية؟ هل إجاباتنا عن سؤال السمكة ستُطابق إجابتنا عن سؤال الإنسان؟ أيسير التطور الجنسي كله على طريق واحد، أم ينحرف في طريقه قبل أن يصل إلى الإنسان؟

الأورانغوتان والزرافات ومحكمة الأسرة

هل نسدي معروفًا للحيوانات إذا قررنا فجأة إنشاء مراكز لتنظيم قوانين الأسرة وتحديد مسئولية الآباء تجاه النسل عند الانفصال؟ حسنًا افعل الأمر وستجده الحيوانات مضيعةً للوقت! 

يبدو أن هذه نقطة اختلاف رئيسة بين الإنسان ومعظم الحيوانات؛ إذ تقوم الحيوانات بما يشبه لعبة الدجاجة للاعتناء بالنسل.

تتجه سيارتان بسرعة نحو بعضهما مباشرة، وعلى أحد السائقين أن يضحي ويتحرك ليمنع الاصطدام، ويُسمى في هذه الحالة الدجاجة؛ لأنه استسلم وتحرك. يلعب الذكر والأنثى نفس اللعبة حين يتعلق الأمر برعاية الأبناء، يرغب كل منهما في ترك الأبناء والذهاب لإيجاد شريك آخر من أجل نشر أكبر قدر ممكن من جيناته، وليست تلك أنانية إنما هي صفة مزروعة في جيناتهم تطورت مع تطور نوعهم.

في الزرافات والأورانغوتان ومعظم الأنواع الثديية، لا تمتلك ذكور معظمها أي علاقة بنسلها أو بأمهات نسلها بعد إخصابها، بل ينشغلون بالبحث عن إناث أخرى لتخصيبها.

طائر المخطاف الأحمر الذكر يقوم بحضانة البيض بينما تذهب الأنثى للبحث عن ذكر آخر، مصدر الصورة

 مع ذلك ثمة استثناءات قليلة لهذا النمط، فطيور مثل المخطاف والطيطوي المرقط يقوم الذكر بحضانة البيض ورعاية الفراخ، بينما تمضي الأنثى في طريقها باحثة عن ذكر آخر يخصبها ويرعى بيضها الجديد!

وترعى ذكور بعض أنواع الأسماك، كفرس البحر وأبي شوكة، البيض في الماء. تعتمد عملية اختيار من يعتني بالنسل على أسباب عدة، كمَن قدم القدر الأكبر من الاستثمار؟ فمثلًا في حالة الإخصاب الداخلي، ترعى الأم الجنين وتمده بالغذاء لفترة من الزمن؛ مما يزيد من حجم استثمارها ويجعل من تركها للنسل بعد ذلك خسارة فادحة بالنسبة للذكر الذي لم يشارك سوى بضعة ملليمترات من الحيوانات المنوية.

سبب آخر هو الثقة في الأبوة، ففي حالة بعض الأسماك تُلقي الإناث بويضاتها في الماء وتقوم الذكور بإنزال الحيوانات المنوية عليها، حينما يكون من الأفضل للذكر أن يهتم بالبويضات المخصبة قبل أن تقع أمام ذكر آخر مما يضمن أبوته وانتقال جيناته. تُنفذ الكائنات الحية الحيلة تلك من أجل ضمان انتقال جيناتها؛ لأن الحياة كحلقة وسط في السلسلة الغذائية، تحمل الكثير من المخاطر وتوجب على الكائن الحي تلقي الحذر.

مع تطور الحضارة، لم يعد ضروريًّا أن يستميت الكائن الحي في نشر جيناته إلى هذا الحد، فمع الوصول للإنسان أصبح من السهل حماية النسل، إذ لا مفترسات في الجوار، وصارت مهنة رعاية النسل مهمة مشتركة بين كلا الأبوين، وتُشيد لها المنظمات لضمان حقوق الأطفال، لكن لا يبدو أن هذا هو الدليل الوحيد على تطور الإنسان.

إنتاج أقل.. امتلاك أكثر

عام 1910، ضرب إعصار «هونجي كينجي» جزيرة رينيل، وقد كان من أشد الأعاصير تدميرًا وأكثرها تعلقًا في أذهان الناس هناك.

لقد دمر الإعصار غابات الجزيرة وحطم الحدائق ودفع الناس إلى حافة المجاعة؛ مما اضطر الناجين إلى تناول أنواع النباتات البرية التي لم تؤكل عادةً وتتطلب معرفة مفصلة عن النباتات السامة وعن طرق إزالة السم.

في ذلك الوقت، فُقدت معظم العائلات ولم يتبقَّ سوى عدد صغير من كبار السن والأطفال، ولأن كبار السن حينئذٍ كانوا قد عاصروا الإعصار السابق لهونجي كينجي، فقد كانوا على دراية بأي أنواع النباتات يمكن الاعتماد عليها في تلك الظروف، وقد نقلوا خبرتهم تلك إلى الأطفال، الذين كبروا بدورهم وكانوا على أهبة الاستعداد لإنقاذ قومهم إذا ما قادتهم الظروف إلى مجاعة أخرى.

يمكن لرواية واحدة أن تستمر لأجيال، تواجه المجتمعات البشرية كوارث طبيعية أو حروبًا قبلية، وقتها يعتمد نجاتها على خبرة كبار السن الذين بقوا منذ الكارثة السابقة. 

يعد انقطاع الطمث الذي تشهده إناث البشر مُعضلة فكرية في وجه علماء البيولوجيا التطورية، فالبشر هم النوع الوحيد الذي تشهد إناثه انخفاضًا متدرجًا في الخصوبة يتبعه انعدامًا لها، ويُرجَح أن تلك الظاهرة قد ظهرت خلال العشرة آلاف سنة الماضية في حياة الإنسان ولم تكن موجودة قبل ذلك.

وتتعدد الأسباب التي يمكن أن تُفسرها، منها ما يقول إن التطور البشري قام بالتخلص من النساء اللاتي لم يطورن انقطاعًا للطمث؛ لأنه يعرض كبار السن للخطر الناجم من الولادة، أو المسئوليات المهلكة للإرضاع والعناية بالأطفال، ونحن بحاجة لكبار السن لإنقاذ المتبقي من المجتمع وقت الأزمات.

سبب آخر يُرجع الأمر إلى حاجة نسلها إليها، فلا نُنكر الدور الذي يلعبه كبار السن في رعاية أبنائهم وأحفادهم؛ مما يساهم بشكل غير مباشر في زيادة نسلها من الأحفاد، ويُفسر الفترة الطويلة التي يعتمد فيها أبناء البشر على الأبوين.

تعدد الزوجات والأزواج 

يعود الرقم القياسي لإنجاب أكبر عدد من النسل إلى إمبراطور المغرب «إسماعيل بن الشريف»، الذي أنجب 700 ذكر وعددًا لا يُحصى من البنات.

إذا نظرنا لمفهوم تعدد الأزواج أو الزوجات من وجهة نظر بيولوجية، فسنجده يخدم هدف التطور للرجل فقط عبر نشر جيناته، ومن ثم قد نستنتج أنه ذو أهمية تطورية سواء قديمًا أو في الوقت الراهن، إلا أن العلم يخبرنا أنه نشأ لفترة وجيزة من الزمن في حياة البشر واندثر بعدها ولا وجود له أبدًا ضمن أهداف الانتقاء الطبيعي.

يمكننا اختصار أحد أوجه الطبيعة الجنسانية للفرد - وهو عدد الشركاء - في ثلاثة أنواع، علاقة فردية يكون للفرد فيها شريك واحد، أو علاقة تعددية يكون لأحد طرفيها فقط - رجلًا كان أو امرأة - عدة شركاء ويُشتَهر ضمن القردة العليا باسم «نظام الحريم»، أو نوع ثالث يكون لطرفي العلاقة على حد سواء كامل الحرية في الانخراط في أكثر من علاقة في الوقت نفسه فيما يُعرف باسم «النظام المختلط».

بالرجوع عدة ملايين من السنين إلى الخلف، وتحديدًا إلى الأسلاف المشتركة للإنسان مع أقاربه، نجد أن أقرب أقرباء الإنسان من القردة العليا، الشمبانزي والبونوبو، بفارق 1.6% فقط من المادة الوراثية، قد انفصل أسلافنا المشتركة عن أسلافهم قبل نحو 7 ملايين سنة، بينما الغوريلا ثم الأورانغوتان قبل نحو 9 و14 مليون سنة على الترتيب، بزيادة فارق اختلاف الـ DNA بين مادتينا الوراثية. تمتلك الغوريلا نظام الحريم، بينما يسود النظام الاختلاطي في الشمبانزي، وما زال نظام السلف المشترك محل شكوك.

تختلف النظريات حول نظام السلف المشترك، البعض يقول إنه امتلك نظامًا اختلاطيًّا، والآخر يقدم أدلة على كونه نظام الحريم. وعلى كلٍّ، فلم تبرح المجتمعات البشرية أن كونت النظام الأحادي واستخدمته طوال تاريخها.

في المجتمعات البشرية، أصبح التطور يسير في اتجاه تكوين أُسر صغيرة، يقوم كلا الأبوين فيها على رعاية أبنائهما في مقابل تقليل عدد الأبناء، ومساعدة الجدود والجدات، وفي وجود قوانين مجتمعية تضمن مشاركة الآباء على حد سواء والتزامهم نحو شركائهم.

هل يمكن أن نمارس الجنس من أجل المتعة؟

الإجابة هي نعم، ولطالما كانت نعم. لو لم يمنح الجنس المتعة لما استمرت كل تلك الأنواع في التناسل حتى يومنا هذا. يمنح الجنس متعةً منذ أبد الدهر على الأقل لشريك واحد.

تطورت المتعة لدى بعض الأنواع عبر الانتقاء الطبيعي حين يكون في وقت الإخصاب، فمثلًا تشعر الكلاب بالمتعة طالما ستُمرر جيناتها إلى الجيل التالي، وإذا كنا سنأخذ من مدة الجماع مقياسًا للاستمتاع، فلا بد أن نلحظ الفئران الجرابية التي تصل مدة جماعها إلى 12 ساعة. لكن على عكس الكلاب، تمارس قرود البونوبو الجنس خارج نطاق الإخصاب، إذ تمارسه الذكور مع الإناث الحوامل.

تملك إناث الدلافين حزمًا عصبية وأنسجة للانتصاب تمكنها من بلوغ النشوة، ولطالما لوحظت إناث قرود المكاك اليابانية تمارس الاستمناء رغم أن معظم تلك الأمثلة لا تضيف قيمة تكاثرية، لكنها تُقدم دليلًا داعمًا أن الجنس لدى الحيوانات يمكن أن يُمارس من أجل المتعة.

أما الإنسان فلا نعلم على وجه التحديد النقطة تحديدًا التي انبثق منها استمتاعه بالجنس، لكن تشريحية الجسد البشري لم تختلف على مدى الـ 100 عام المنصرمة؛ لذا من الآمن القول إن الإنسان استمتع بالجنس على مدى الـ 100 عام الأخيرة.

لماذا الجنس للمتعة؟ ما زال العلماء في حيرة من أمرهم، خاصةً أن ذلك لا يخدم هدفًا تطوريًا مباشرة، وما زالوا يبحثون عن أسباب خفية، قد يكون الجنس للمتعة لأن ذلك هو السبيل الوحيد لترغيب الأنواع فيه لضمان استمرار أجيال أخرى من البشر قد يتمكنون في المستقبل من تقصي الأمر واكتشاف لماذا الجنس للمتعة؟

# الجنس # بيولوجي # كائنات حية

معرفة