ربما لم تؤثر أي جالية في تاريخ مصر الحديث بمثل ما فعل المهاجرون الألبان، رغم عدم نيل تلك الجالية الشهرة والاهتمام بما يتناسب مع حجمها ودورها؛ إذ كانت خامس أكبر طائفة أجنبية في مصر، وأمسك أبناؤها بمقاليد السلطة لنحو قرن ونصف، قبل أن تتبخر وتصير نسياً منسياً وتُغفلها الكتابات اللاحقة بدوافع شتى.
وبين أيدينا كتاب «الجالية المخفية: فصول من تاريخ الألبان في مصر» الصادر عن «دار الشروق» للأكاديمي الكوسوفي محمد الأرناؤوط، وهو يتناول حجم وتأثير هذه الطائفة الأوروبية في مصر، ويتطرق لمواضيع مثيرة، مثل: ترشيح الملك فؤاد لتولي عرش ألبانيا قبل توليه حكم مصر، والدور المصري غير المشهور ضد الشيوعيين في أوروبا خلال الحرب الباردة، وفشل محاولات الملك فاروق لاسترجاع الخلافة الإسلامية.
وقد زار الكاتب مصر لهذا الغرض؛ حيث أراد مقابلة من بقي فيها من ذوي الأصول الألبانية، والاطلاع على الوثائق ذات الصلة، وزيارة الأماكن المرتبطة بموضوع بحثه. وقد نجح في تتبع مسيرة هذه الجالية منذ بدايات هجراتها إلى مصر، وحتى وصول الوجود الألباني إلى ذروته في الثلاثينات، ثم انحساره في الخمسينيات من القرن العشرين.
وضع الأرناؤوط في عنوان الكتاب عبارة «فصول من تاريخ الألبان في مصر»، لأن هناك فصولاً أخرى تستحق أن تُضاف إلى الكتاب في طبعة قادمة، قد تكشف عن جوانب أخرى من تاريخ هذه الجالية.
ترجع بدايات الوجود الألباني في مصر إلى عصر المماليك؛ حيث كان السلاطين الأتراك يشترون العبيد بهدف تربيتهم على الجندية من دول عديدة، وكان منهم بعض الأوروبيين من ألبانيا وغيرها، حتى وصل منهم إلى الحكم اثنان من السلاطين وهما: خشقدم (1460–1467)، وتمربغا الذي انقلب عليه قائد جيشه قايتباي عام 1468، بعد شهرين فقط من بداية حكمه.
خلال العصر العثماني وفد إلى مصر عديد من الألبان، وقد انقسموا إلى قسمين؛ الأول ضمن صفوف المماليك، والثاني تابع للإدارة العثمانية. واستمر ذلك الحال إلى وقت الحملة الفرنسية، حين جاء محمد علي إلى مصر جندياً ألبانياً متطوعاً للتصدي للحملة، ثم ترقى في المناصب حتى صار أكبر قائد ألباني في مصر.
أسس محمد علي سلالة حاكمة في القاهرة، ورغم اعتماده على بني جنسه في البداية، لكنه سعى للتخلص منهم بعد تمكنه من الحكم؛ فبعد مشاركتهم في مذبحة المماليك، طرد محمد علي وقتل كبار القادة الألبان، حتى لم يعد له منافس بينهم، ثم استدار إلى الجنود فشتتهم في حملات عسكرية قضت على الآلاف منهم حتى ذبلت قواهم، بينما استقدم هو وأتباعه أهاليهم من ألبانيا ليستقروا في مصر.
مع انتشار الألبان في أنحاء مصر في عهد أسرة محمد علي بدأت الروح القومية تنتشر بينهم، خصوصاً الروم الأرثوذكس منهم، الذين كانوا عماد الحركة القومية الألبانية الحديثة، وبدأوا في جمع التراث الشعبي الألباني كما في كتاب «النحلة الألبانية» لثيمو ميتكو الأديب الشهير الذي عاش في بني سويف، وكان له إسهام كبير في نشأة الثقافة الألبانية القومية، ووثق التراث الشفوي من أفواه أبناء الجالية في مصر.
كانت مصر من أهم مراكز الشتات الألباني، وشهدت إصدار عدد من الصحف والمجلات الألبانية، وكانت الأغلبية المسلمة في ألبانيا تكتب لغتها بالحروف العربية، واستخدم كاثوليك الشمال الأبجدية اللاتينية، واستخدم أرثوذكس الجنوب الأبجدية اليونانية، وعندما قرر القوميون توحيد الأبجدية الألبانية اختاروا لها الحروف اللاتينية تأثراً بأوروبا وكرهاً في الدولة العثمانية، ولا تزال تلك الأبجدية معتمدة حتى اليوم.
ويستعرض الأرناؤوط في كتابه أسماء مشاهير الكُتّاب الألبان في مصر ومساهماتهم الأدبية، إذ اختار الأدباء والمفكرون القوميون العيش في مصر للترويج لأفكارهم بعيداً عن الرقابة العثمانية، وكان يتم تهريب إنتاجهم الأدبي إلى المناطق الألبانية على يد دراويش التكية البكتاشية في القاهرة.
من المثير أن الملك أحمد فؤاد قبل توليه السلطة في مصر (عام 1917)، بويع في ألبانيا ليكون ملكاً عليها وكان أقوى المرشحين لهذا المنصب، إذ تمتع بمواصفات نادرة؛ فهو أمير مسلم من دولة عربية، وأيضاً ألباني العرق من أحفاد محمد علي باشا، كما أن ثقافته أوروبية بحكم نشأته في إيطاليا.
حصل الأمير فؤاد على دعم أوروبي خصوصاً من إيطاليا، التي كان لها تأثير كبير في البلقان، وكاد يُنصَّب كأول ملك ألباني لولا اعتراض النمسا بالأساس، ولم تشفع له علاقاته الأوروبية؛ حيث قررت القوى الكبرى اختيار أمير ألماني بدلاً منه، وهو ما رفضه الشعب الألباني، فثار عليه ولم يبق هناك سوى ثلاثة أشهر، حتى أُجبر على الرحيل، وذلك لأن الأغلبية المسلمة لم تتقبله، بخلاف الأمير فؤاد حينذاك الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة وقبول خارجي حتى من الأتراك.
وقعت القلاقل في ألبانيا وصارت محطاً لأطماع جيرانها إلى أن استقرت الأوضاع عام 1920 وحينها كان فؤاد قد تولى عرش مصر، وصعد في المقابل أحمد زاغو في ألبانيا وسيطر على البلاد حتى قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939، ثم ظل في المنفى سنوات إلى أن استقر به الحال في مصر.
تم تصنيف الجالية الألبانية في المرتبة الخامسة بين الأقليات في مصر من حيث التعداد؛ حيث استمر تدفق سكان الجنوب الألباني على مصر بدوافع اقتصادية حتى بعد تأسيس دولتهم عام 1912، وانتشروا في مدن الصعيد والدلتا والقاهرة.
وصل التوافد الألباني على مصر إلى ذروته في الثلاثينيات والأربعينيات؛ حيث تسبّبت القلاقل السياسية في ألبانيا، في قدوم رموز النخبة إلى القاهرة والإسكندرية، بخاصة مع وصول الشيوعيين إلى الحكم في بلادهم؛ حيث رحّب الملك فاروق بالملك الألباني المخلوع، أحمد زاغو، مع حاشيته ورجال دولته.
تواصل قدوم الألبان إلى مصر بعد صعود الشيوعيين، فلجأوا إلى أسرة محمد علي الألبانية، وقدمت القاهرة دعماً كبيراً لقضيتهم، وأرسلت مساعدات للاجئيهم في إيطاليا واليونان، واستضافت بعضهم، وأسهمت في نقل البعض لدول أخرى.
سعى الملك زاغو لحشد تأييد عربي إسلامي لاستعادة عرشه والقضاء على النظام الشيوعي الألباني، وسعى الملك فاروق ليس فقط لتحقيق الوحدة العربية، بل لاستعادة الخلافة الإسلامية، وأيّده في ذلك عبد الرحمن عزام، أول أمين لجامعة الدول العربية؛ إذ دافع في مقال له عن أهلية فاروق للخلافة، رداً على تشكيك البعض فيها بسبب أصله الألباني، فقال عزام في مقال له إن الألبان أصولهم عربية ترجع إلى جبلة بن الأيهم، آخر ملوك الغساسنة.
انتعشت تكية الطريقة البكتاشية في مصر التي يهيمن عليها مشايخ الألبان في عهد الملك فاروق؛ فبعد سيطرة الشيوعيين على ألبانيا، نقل البكتاشيون مقر قيادتهم العالمي إلى مصر؛ حيث لقوا رعاية كبيرة من الأسرة العلوية الحاكمة، وعملت التكية البكتاشية بمثابة بعثة دبلوماسية للمعارضة الألبانية، وتبنى شيخ الطريقة قضية التحرر من الشيوعيين، وبذل جهوداً للتواصل مع السفارات الغربية في مصر لهذا الغرض.
اتخذ أحمد زاغو من الإسكندرية مقراً لبلاطه الملكي، وأدار من قصره هناك محاولات الإطاحة بحكم الشيوعيين في ألبانيا بالتعاون مع مخابرات الولايات المتحدة وبريطانيا، وتدربت قواته في قاعدة عسكرية بريطانية في مالطا وقاعدة أمريكية في ألمانيا الغربية.
فشلت تلك المحاولات، وتم إعدام كثير من الموالين للملكية على يد الشيوعيين، وتخلت واشنطن ولندن عن العملية، ويأس زاغو من تلقي الدعم العربي لاستعادة عرشه بسبب استحواذ القضية الفلسطينية على اهتمام العرب، وهزيمة جيوشهم في حرب 1948.
بعد وصول الوجود الألباني إلى ذروته، أتت 23 يوليو 1952 لتطيح ليس بالملك فاروق فحسب، بل بالطائفة الألبانية الموالية له، ولاحقت الاتهامات أحمد زاغو بمساعدة الملك فاروق في تهريب ثروته، وتم احتجاز معظم ثروة الملك الألباني في البنوك المصرية ومداهمة مقر إقامته وتفتيشه، فغادر إلى فرنسا مع بعض حاشيته، وتبعه بعض مواطنيه باستثناء بعض العائلات التي ارتبطت بمصر.
أما الجمهورية الألبانية، فبقيت علاقاتها باردة مع مصر طوال العهد الشيوعي، وعاشت في عزلة عن العالم حتى عام 1990، عندما تم تعيين سفير ألباني في مصر بعد إنهاء احتكار الحزب الشيوعي للحكم.
انحسر الوجود الألباني في مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فإضافة إلى الهجرة العكسية بسبب سيطرة النظام الناصري، ذاب من تبقى منهم في النسيج المجتمعي المصري، فالدين شكل عاملاً مشتركاً وسبباً أساسياً لاندماجهم في محيطهم، خصوصاً بعد تصفية التكية البكتاشية بوفاة آخر شيوخها دده بابا سري عام 1965، ومغادرة آخر دراويشها إلى الخارج، وصار الوجود الألباني ذكرى تاريخية.
وهكذا كُتب فصل النهاية لجالية مهمة، أسهمت في بناء الدولة المصرية الحديثة، وانتقالها من ولاية تابعة للخلافة العثمانية إلى مملكة مستقلة ما لبثت أن خضعت للنفوذ الإنجليزي، وبتلك الجالية اختُتم عصر الأسر الحاكمة، وتركوا آثارهم العميقة التي لم يمحها الزمان بعد رحيلهم.