من رحم حرب أهلية طاحنة وُلدت دولة جنوب السودان. آثر أهلها الانفصال عن الشمال لوجود العديد من الاختلافات التي رأوها تجعل منهم شعباً مستقلاً. بعض تلك الفوارق تمتاز بها قبائل جنوب السودان منذ مئات السنوات، وأحياناً آلاف السنوات. ورغم أن ثمة ارتباطاً وجدانياً وثقافياً نشأ بين الشمال والجنوب في سنوات الوحدة، إلا أن العادات المتأصلة في القبائل ظلت راسخة دون أن تتماهى القبائل بعضها مع بعض.
جمهورية جنوب السودان بلد غير ساحلي، استقل حديثاً عن الشمال عام 2011. وتبلغ مساحته نحو 645 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانه 12.7 مليون شخص. وينص الدستور على أن الإنجليزية والعربية هما اللغتان الرسميتان للبلاد، على الرغم من أن الإنجليزية هي اللغة الرئيسية هناك. وبينما يمتاز السودان بالأغلبية المسلمة، فإن المسيحيين يمثلون حوالي 60% من سكان جنوب السودان، وبقية السكان عبارة عن مزيج من المسلمين وأولئك الذين يتبعون الديانات الأفريقية التقليدية.
تعصف الحروب الداخلية أيضاً بجنوب السودان؛ مما يتسبَّب في عدد من موجات النزوح والهجرة. لكن رغم حدوث تلك الهجرة فإن القبائل حين تنتقل من مكان لآخر فإنها تنقل معها عاداتها وأعرافها، ولا يتخلون عنها تحت وطأة النزوح أو الحرب.
ومن بين العادات التي تمتاز بها بعض قبائل جنوب السودان دفن الموتى في فناء منازلهم؛ فغالباً ما يُدفن الشخص على بعد أمتار قليلة من غرفة نومه. ومن أبرز القبائل التي تمارس تلك العادة قبيلة الباري، وهي من القبائل التي تسكن قريباً من عاصمة جنوب السودان، جوبا. يقول أبناء تلك القبيلة إن تلك العادة تصدر منهم كنوع من الوفاء للميت، كما أن دفن جثته في مكان يرونه يجعلهم يمتنعون عن ذكره بسوء، أو القيام بأي تصرف كان يرفضه حال حياته.
كذلك تقوم قبيلة الباري باحتفال ضخم للذكور حين يبلغون مرحلة الحُلُم أو النضج؛ إذ يقومون بتنظيم موكب ضخم يشارك فيه العديد من أفراد القبيلة، وينحرون الذبائح، ويُعد هذا الاحتفال إعلاناً بدخول صاحبه مرحلة الرجولة، وبالتالي يترتب على ذلك العديد من التغيرات في سلوكه اليومي، فيهجر عالم الأطفال إلى عالم الرجال وجلساتهم ومهامهم.
تتشارك قبيلة الباري، مع العديد من القبائل الأخرى في جنوب السودان، في عادة قديمة تُسمى التشليخ. والمقصود بها هو حفر علامات وشم دائمة على وجوه الشباب والفتيات باستخدام شفرات حادة. تشير تلك العادة إلى أن الفرد انتقل من الطفولة إلى النضج. وقد تتعدد مظاهر التشليخ؛ فمن مجرد خطوط عريضة على الجبهة، إلى وضع نقاط في أماكن مختلفة من الجسم.
هذه العادة تحديداً قامت حكومة جنوب السودان بوضع العديد من القوانين لمنعها وتجريمها. لكن لا زالت القبائل تمارسها سراً، فهي تؤمن بضرورتها، والأهم أن لكل قبيلة شكلاً معيناً في التشليخ، ما يعني أن تلك الوشوم الدائمة تُعرِّف الشخص، وتوضح إلى أي قبيلة ينتمي.
تلك الوشوم قد لا تكون دائماً على الجلد فحسب؛ حيث تقوم قبيلة تيمين في الجنوب برسم نقوش ورسوم مختلفة على أسنانهم. ويعتقدون أن تلك الوشوم تمثل زينة للشخص، وتجلب الحظ الجيد.
أما قبيلة دينكا، وهي من قبائل الجنوب ذات العدد الأكبر ومنها ينحدر معظم قادة جنوب السودان، فيُعرف أبناؤها باعتبارهم عمالقة العالم، ومنها تنحدر عشائر الشلك والنوير والأنواك.
تمتاز تلك القبيلة بمذهبها في فرض المهر الكبير على الزوج؛ حيث تقول إن ذلك المهر الكبير يُعتبر احتراماً للمرأة وتقديراً لها. وتزداد قيمة المهر، الذي غالباً ما يكون عبارة عن عدد محدد من الأبقار، كلما ازدادت مكانة المرأة أو زاد جمالها، ووفق معايير أخرى مثل طول قامة الفتاة ووزنها ودرجة سمرة بشرتها، فضلاً عن الوضع الاجتماعي لأسرة العروس، فمثلاً في مارس عام 2021 دفع رجل الأعمال، كور أجينق أتر، مهراً قدره 500 بقرة للزواج من ابنة رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت.
يرجع تقديس تلك القبيلة للفتيات ذوات البشرة الممعنة في السواد إلى الأسطورة التي يتناقلونها لنشأتهم. يقول المؤرخ، أحمد عبد الله آدم، مؤلف كتاب «قبائل السودان: نموذج التمازج والتعايش»، شارحاً تلك الأسطورة، إنه منذ زمن بعيد وفي يوم ماطر كثيف الغمام نزلت فتاة ممشوقة القوام، فارعة الطول، وسيمة الملامح، اسمها آلوت -وتعني بلغتهم بنت الغمام أو المطر- وكانت حبلى بارزة البطن، وضعت فور نزولها - وأثناء هطول المطر - مولوداً جميلاً مكتمل الأسنان، أبهر الجميع.
تجمَّع أفراد قبيلة الدينكا من كل مكان، ليستمعوا إلى نصائح آلوت والطفل الذي جاء معها من السماء، ووعدتهم بأنه سوف يحدثهم عن نفسه بنفسه، لكن بعد أن يذبحوا ثيراناً بيضاء ويعدِّوا الولائم والاحتفالات.
أخبرتهم آلوت أن الطفل اسمه دينج ديت، ويعني الأب الكبير، وأنه سيتكفل بحفظهم، ثم اختفت بعدها، وفي لحظة اشتدت فيها غزارة الأمطار والبرق والرعد، عادت آلوت إلى السماء وتركت لهم الغلام، دينج ديت، الذي عُرف كجد لهم، ليرشد الناس إلى مكارم الأخلاق والقيم الاجتماعية والروحية، ويحثهم على عدم السرقة وعلى الكرم والاحترام الشديد للنساء، بخاصة كبيرات السن، والبعد عن الزنا وزوجات الآخرين، وعدم الغدر والاهتمام بالغريب وإيوائه. وأخيراً اتخاذ الأبقار مهراً للزواج.
يقوم بعض أفراد قبيلة الدينكا بممارسة عادة الرواك؛ فحين يُقرِّر شاب وفتاة أن يتزوجا، أو يحب شابٌّ فتاة ما، فإنه يقوم باختطافها بعيداً عن أهلها، ويظلان معاً حتى إذا حملت، وشارفت على وضع المولود الأول، عادا لأهل الفتاة وتمَّما مراسم الزواج. وبخصوص عادات الزواج فإن غالبية قبائل الجنوب، وخصوصاً قبيلة الدينكا، فإنها تُزوِّج الأرملة لأحد إخوة زوجها المتوفى أو أحد أقربائه، بهدف الحفاظ على إرث العائلة.
ووفقاً لأعراف قبيلة النوير، فإنه حين يُتوفى الأب، فإن الابن الأكبر يعتبر كل زوجات أبيه ملكاً له، باستثناء والدته. كذلك إذا أنجب من زوجات أبيه بعد أن صاروا زوجات له، فإن المولود يُعرف باعتباره أخاً له، لا ابناً.
كذلك تمتاز قبيلة دابو، وقبائل المنداري، في جنوب السودان بعادة من أغرب العادات في أفريقيا؛ إذ يربون الأبقار، ويقدِّمون الدماء البشرية للأبقار لتشرب منها، اعتقاداً منهم أن هذه الممارسة تجعل الأبقار أقوى، وأكثر صحة. يرجع ذلك إلى أهمية الأبقار عندهم؛ فهم يستخدمون بول الأبقار كمُطهِّر من الأمراض، وأيضاً كمستحضر تجميلي؛ إذ يضعونه على الشعر ليُعطيه لونه البرتقالي. كما يُحرَق روث الأبقار ويُستخدم رماده دواءً يقي من ضربات الشمس الحادة.
أما قبيلة الزاندي، وهي إحدى القبائل الكبرى في جنوب السودان، فإن لحم القرود يُعتبر طعاماً مفضلاً لأفرادها، ويُقدمون ذراع القرد لكبار ضيوفهم ترحيباً بهم، ويقدمونها مطبوخة ومحاطة بالسمسم والفول السوداني.
ويمكن القول إنه في غالبية قبائل جنوب السودان لا يوجد اهتمام بتوثيق المواليد أو الوفيات، أو غالب الأنشطة الأخرى التي يفرض العالم الحديث توثيقها. ورغم أن الدولة تبذل جهداً لتقنين كل تلك التفاصيل، لكنها لم تزل بعيدة، نظراً لنمط حياة تلك القبائل دائمة الترحال، وحرصهم على الانغلاق على أنفسهم.
هذا الانغلاق هو ما يحفظ تلك القبائل من التأثر بالثقافات الأخرى والمعاصرة، ويجعلهم ينقلون تراثهم من جيل إلى جيل، ما يضمن ممارسة ذلك التراث بنفس الأدوات والطقوس التي مارسوه بها منذ مئات السنين. ويجعل العديد من تلك القبائل أشبه بمتاحف بشرية متحركة، وبقطع أثرية تحتفظ بتاريخها نابضاً، مهما كان الانطباع العام، والرأي العلمي أو المتحضر، حول هذا التاريخ، وتلك الطقوس.