معرفة

الأعراب والمماليك: خنجر في ظهر الدولة

كيف كانت علاقة البدو في مصر بالشعب والدولة، هل كانوا يرون أنفسهم أحق بالسلطة ويجب معاملتهم كونهم طبقة مميزة، كيف ضغطوا على الدولة للحصول على امتيازات؟

future صورة تعبيرية: شن المماليك تجريدات على العربان لكبح عنفهم

سقوط السلطنة المملوكية المصرية واحتلال مصر من الدولة العثمانية التركية كان أحد أسبابه خيانة البدو (العربان) للسلطان طومان باي، وربما مثلت واقعة القبض عليه عنوانًا لهذه الخيانة، بعد أن أرشد عن مكانه للعثمانيين حسن بن مرعي زعيم قبيلة محارب العربية، بحسب ما ذكر ابن زنبل الرمال في «آخرة المماليك»، رغم أنه كان صديقًا لطومان باي، بحسب ما يفهم من الروايات.

العرب البدو في مصر أو العربان كما كان يطلق عليهم في العصر المملوكي لم تكن علاقتهم بالدولة المملوكية جيدة، بل كانت في أغلبها علاقة عداء في ما عدا استثناءات.

ولكن قبل المماليك كانت علاقتهم بالسلطة متأرجحة وفقًا للمرحلة السياسية، ففي أغلب الوقت كانوا على وفاق معها، وفي أوقات أخرى كانوا في عداء، خصوصًا حين يكون الحاكم لمصر أو الوالي غير عربي، وفي هذه الحالة كان يحتاج إلى بذل مجهود كبير لاسترضائهم، بحسب ما توضح إيمان مصطفى عبدالعظيم في دراستها «العربان في مصر بين الولاء والاعتداء».

ويمكن القول إن علاقتهم بالسلطة كانت على مستوى مقبول أو جيد وأحيانًا ممتاز في الفترة من صدر الإسلام وحتى الدولة الأيوبية، حتى جاء المماليك إلى الحكم فاتخذ أغلب العربان منهم موقفًا عدائيًا، باعتبار أن المماليك كانوا في ما سبق عبيدًا، وهو أمر نظر إليه العربان باستحقار، واعتبروه إهانة لهم، بحسب ما يرى الدكتور جمال كمال محمود في دراسته «هجمات البدو وآثارها الاقتصادية والاجتماعية في ريف الدلتا في العصر العثماني».

ولكن في مرحلة لاحقة انضوى بعضهم تحت لواء الدولة في مقابل صفقة معها، بحسب ما توضح الروايات التاريخية.

كيف كانت علاقة البدو في مصر بالشعب والدولة طيلة العهود الإسلامية، هل كانوا دائمًا يرون أنفسهم أحق بالسلطة، هل كانوا يرون أنفسهم فوق السلطة ويجب معاملتهم بوصفهم طبقة مميزة، كيف ضغطوا على الدولة للحصول على امتيازات؟ هذا ما نوضحه في ما يلي.

قبل الإسلام وحتى العصر المملوكي: طبقة منعزلة أو مميزة

يوضح الدكتور أحمد مختار عمر في كتابه «تاريخ اللغة العربية في مصر» أن الهجرات العربية إلى مصر بدأت قبل الإسلام، ولكن بشكل فردي بسيط بحثًا عن الماء والزرع، وكان العربان الرُحل دائمًا يستوطنون المناطق الصحراوية شرقي مصر، سواء في سيناء أو شرقي الدلتا وغربي سيناء كما في مناطق مثل محافظات الشرقية والإسماعيلية والسويس الحالية، أو على ساحل البحر الأحمر، شرقي صعيد مصر كما في القصير الواقعة بمحافظة البحر الأحمر.. وفي كل الأحوال كانوا منعزلين جغرافيًا وإنسانيًا لا يختلطون إلا نادرًا بالمصريين الذين يختلفون معهم ثقافة ولغة.

فالمصريون كانوا أهل زراعة في المقام الأول، وأغلبهم مستقر حول ماء النيل، ويتكلمون القبطية، أما البدو فكانوا عربًا ويعملون رعاة للحيوانات، بعضهم دائم التنقل والترحال، وبعضهم شبه مستقر في الأودية التي تحتوي على الماء والزرع، وهذا النوع شبه المستقر بدأ يحترف الزراعة هو الآخر، وأطلِق عليهم البدو المزارعين.

ومع دخول العرب مصر بعد انتصارهم على الروم (20هـ - 641م) بدأت أولى موجات الهجرة العربية الكبيرة المنظمة لمصر، ثم توالت الهجرات طيلة العهود الأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية، حتى توقفت في العهد المملوكي، بحسب ما نفهم من ألفريد بتلر في كتابه «فتح العرب لمصر».

وكان دخول الجيوش العربية عاملًا أساسيًا في ذلك، فالمحارب العربي الذي كان ينضم للجيش المتجه لمصر كان في الغالب يصحب عائلته معه، ويستقر بمصر، ولم يحدث ذلك في الفتح فقط، ولكن الولاة الذين كانت دولة الخلافة في المدينة المنورة أو دمشق أو بغداد تعيّنهم، كانوا في الغالب يصحبون معهم قبائلهم للعيش في مصر، إضافة إلى الجنود الذين يأتون معهم لتدعيم موقفهم.

ظل هؤلاء الوافدون العرب، في الغالب، معزولين عن المجتمع المصري، سواء من استقروا على أطراف وادي النيل أو الصحاري، أو من تمركزوا في مدينة الفسطاط التي بناها الوالي المسلم عمرو بن العاص أو الإسكندرية والجيزة.

الأغلبية استقروا في الفسطاط، وكانت في البداية مدينة عربية خالصة ليس بها مصريون، وعدد أقل منهم استقر بالإسكندرية وفي الجيزة، ومن عاش منهم بالإسكندرية أو الجيزة كان يعيش بين الناس، ولم يتقوقع داخل خطط أحياء سكنية بعينها، بحسب ما نفهم من «القبائل العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى» لعبدالله خورشيد البري.

البدو الذين ظلوا على أطراف وادي النيل بطول مصر، ظلوا منعزلين جغرافيًا وإنسانيًا عن المصريين، أما من استقروا في المدن فكانوا منعزلين إنسانيًا فقط، حيث كانوا هم طبقة الحكم الأرستقراطية المميزة عن المجتمع، بحسب دراسة إيمان مصطفى عبد العظيم.

وتوضح إيمان أن الاندماج الكامل بين العرب المقيمين في المدن والمصريين لم يحدث إلا في القرن الثالث الهجري، حين قرر الخليفة العباسي المعتصم (توفي 227هـ) قطع الأموال والعطايا التي كان يحصل عليها العرب المقيمون في مصر من بيت المال، وهنا بدأ العرب يعملون كالمصريين، ويتحول أغلبهم من طبقة أرستقراطية مهمتها الحرب والسياسة فقط، إلى طبقة عاملة.

أما العرب الذين عاشوا على أطراف وادي النيل فقد بدأ جزء منهم، لا سيما هؤلاء الذين احترفوا الزراعة، يندمج مع الفلاحين المصريين، إن لم يكن بسبب بدء المصريين اعتناق الإسلام فبسبب المصالح المتبادلة في ما بينهم التي تطورت إلى المصاهرة.

ولكن بقي قطاع من العربان ليس بالقليل مصرًا على عاداته وتقاليده، ومصرًا على العيش في البيئة الصحراوية، محترفًا رعي الحيوانات والقتال، وهؤلاء كانت تستغلهم الدولة في تأمين الطرق وتوفير الدعم لقوافل المسافرين أو الجيوش التي تتحرك بينهم بين حين وآخر لأسباب مختلفة، وبعضهم كان كثيرًا ما يتمرد على الدولة ويحترف السلب والنهب والإغارة على المدن والقرى المصرية.

والملاحظ أن العربان دائمًا كانوا متعصبين ضد أي حاكم غير عربي بحسب ما نفهم من خورشيد البري، واتضح ذلك في العصر العباسي الثاني، مع تولية الأسرة الطولونية ولاية مصر (868م حتى 905م)، حيث كانوا ينظرون إلى الوالي الطولوني بازدراء باعتباره تركيًا، أي إنه من طبقة أقل منهم، وليس له الحق في الحكم، وفي هذا العصر قامت عدة ثورات للعربان ضد الدولة، ومثلوا تهديدًا كبيرًا لها، فكان أحمد بن طولون ومن بعده ابنه خمارويه يخضعونهم مرة بالقتال وأخرى بالترضية والمهادنة.

وفي العهد الإخشيدي (935 حتى 969م)، استرضت الدولة العربان خصوصًا بعد أن نصبت نقيبًا عربيًا علويًا زعيمًا للأشراف (أحفاد علي بن أبي طالب) وأعطتهم مزايا كبيرة، وصار نقيب الأشراف متحكمًا في ولاء العربان للدولة، بحسب ما يوضح ممدوح عبدالرحمن الريطي في «دور القبائل العربية في صعيد مصر».

وحين جاءت الدولة الفاطمية (969 حتى 1171م) استمر هذا الهدوء بل جرى تشجيع العرب على القدوم لمصر بكثافة، وبعد الفاطميين جاء الأيوبيون (1171 حتى 1250م) الذين أعطوا للعربان مزايا أكبر، وجعلوهم جزءًا من الدولة، وخصصوا موظفًا لإدارة شؤونهم وقبائلهم يسمى الحمداني، وجعلوا لهم شأنًا داخل الجيش، بحسب ما يذكر المقريزي في «اتعاظ الحنفاء».

ولكن حين انتهت الدولة الأيوبية، وقامت الدولة المملوكية في مصر (1250 حتى 1517م)، دخل العربان في حالة عداء مع الدولة، لأنهم نظروا للمماليك نظرة ازدراء، باعتبار أنهم كانوا بالأمس عبيدًا، ولا يصح أن يكونوا حكامًا، بحسب إيمان مصطفى عبدالعظيم.

وشاع هذا الإحساس خصوصًا بين تلك القبائل التي كانت تسكن على الأطراف في الصحاري أو في تخوم المحافظات في الوادي والدلتا وهم في الغالب المقصود بهم العربان، أما من كانوا يسكنون المدن فالأغلبية منهم إن لم يكن جميعهم اندمجوا في المجتمع المصري.

الدولة المملوكية: ثورات العربان ضد الدولة

تحول إحساس الازدراء تجاه المماليك إلى ثورات مسلحة وتمرد، بحسب ما وثق الدكتور سعيد عاشور في كتابه «المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك»، وأول ثورات العربان ضد الدولة في العصر المملوكي كانت بزعامة حصن الدين بن تغلب، شيخ قبيلة بني تغلب في الصعيد، الذي قال حين جرت تولية عز الدين أيبك سلطانًا للبلاد: نحن أصحاب البلاد، وأحق بالملك من المماليك، وكفى أنا خدمنا بني أيوب، وهم– يقصد المماليك- خوارج، خرجوا على هذه البلاد.

وأعلن بن تغلب خروجه على المماليك وتأسيس دولة مستقلة عاصمتها قرية ذروة سريام أو ذروة الشريف بالفيوم، واتصل بالملك الناصر يوسف (الأيوبي) حاكم حلب يطلب منه محاربة عز الدين أيبك، لكن الناصر لم يستجب له لأنه كان يدرك قوة المماليك، بحسب ما نفهم من المقريزي في كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك».

خرج ابن تغلب من الصعيد إلى الصحراء الشرقية، وحشد جيشًا من العربان قوامه 12 ألف فارس، بالقرب من بلبيس بمحافظة الشرقية، وهناك قابلتهم قوة من جيش المماليك لم يزد قوامها على خمسة آلاف جندي بقيادي فارس الدين أقطاي، وكان ذلك عام 1253م.

ورغم التفوق العددي للعربان استطاع أقطاي هزيمتهم، بحسب المقريزي، نظرًا للمهارة الحربية الفائقة للماليك، وبعد هذه الهزيمة أمر السلطان أيبك بالتنكيل بالعربان في عموم مصر، وفرض مزيدًا من الضرائب عليهم، عقابًا لهم وكذلك كي لا يفكروا مرة أخرى في التمرد على الدولة.

على مدار العصر المملوكي لم ينقطع العداء بين الدولة والعربان، بل صار عنوانًا للمرحلة، ولم تهدأ الثورات، وظلت العلاقة متوترة بينهما طيلة العهد المملوكي، واستمر الحال كذلك حتى هاجم العثمانيون مصر، وانضم كثير من العربان إليهم مكايدة في المماليك.

كان ابن تغلب قد فلت من الموت أمام أقطاي، وبعد رحيل أيبك وقطز وتولي السلطان الظاهر بيبرس الحكم، عاد للتمرد وظهر من جديد، ولكن قوات بيبرس ألقت القبض عليه، وأمر بإعدامه شنقًا في الإسكندرية عام 1261م، بحسب المقريزي.

تمرُّد ابن تغلب ثم الإجراءات المتشددة التي اتخذها أيبك ضد العربان، ثم شنق ابن تغلب، صارت عنوانًا للمرحلة، فعلى مدار العصر المملوكي لم ينقطع العداء، ولم تهدأ الثورات، وظلت العلاقة متوترة بين العربان والدولة، وهناك وقائع كثيرة حول ذلك.

منها، ما حدث عام 1290م، حين ثار العربان على حكم المنصور قلاوون، وانتهى الأمر بهزيمتهم والقبض على عدد كبير منهم قرب مدينة قوص، وسلب 100 ألف رأس غنم و1000 جمل، و200 فرس من أملاكهم.

وحين مرض السلطان قلاوون في نفس العام ثار العربان من جديد في قوص، وأعدَّ الأمير طرنطاي نائب السلطنة حملة عسكرية، وذهب إليهم وألحق بهم هزيمة جديدة، بحسب ما ذكر المقريزي وابن إياس.

وتكررت وقائع شبيهة في عهود مملوكية مختلفة كانت تنتهي لصالح الدولة وأرَّخت لها تقريبًا كل المصادر التاريخية المملوكية، منها ما جرى في عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون عام 1301م، حين فرض العربان إتاوات وضرائب على الباعة في عدد من مناطق الصعيد وسخروا من الأمراء المماليك، بحسب ما ذكر ابن إياس.

وكذلك ما حدث في عهد ابنه السلطان الصالح صلاح الدين عام 1353م، حين تمرد ابن الأحدب شيخ قبيلة عرك، وفي عام 1383 حين هجم العربان على الفيوم بقيادة سلام بن التركية لنهبها، وبعد عامين (1385م) حين هجموا على أسوان ونهبوها، وبعد عامين (1387م) حين هجموا على البحيرة بقيادة بدر بن سلام، الذي دخل في معارك عسكرية مع جيش المماليك في الوجه البحري انتهت بقتله وتسليم رأسه لقصر السلطنة، بحسب ما نفهم من ابن إياس.

وهكذا طيلة العهد المملوكي، لا يكاد يمر عام أو عامان إلا ونجد واقعة تمرد أو سلب ونهب يقوم بها العربان، ويواجهها جنود السلطنة، وتنتهي في الغالب بانتصار جنود السلطنة المصرية، واستمر الحال كذلك حتى هاجم العثمانيون مصر، وانضم كثير من العربان إليهم مكايدة في المماليك.

العربان خنجر في ظهر الدولة: خيانة وقت قتال الأعداء

ومن تتابع الأحداث التي وثقها المقريزي وابن إياس وابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة»، نفهم أن هذا العداء الشديد بدأه العربان، فرد عليه المماليك بعداء أشد؛ فكما ذكرنا كانت بداية العداء مع الدولة سببها عنصرية العربان والنظر لأنفسهم كعرق أنقى وأعلى مكانة من المماليك، وهو ما دعاهم إلى رؤية أنفسهم أحق بالحكم، ومن هنا بدأت الكراهية الشديدة من الدولة المملوكية لهم بل والقسوة عليهم.

هذه الكراهية توارثتها الأجيال جيلًا بعد جيل، ومع الوقت تحول الأمر إلى نسيان رابطة الدين الإسلامي التي كانت أساسًا لوجود العربان أو المماليك على أرض ليست بأرض أجدادهم من الأساس سواء هذا الفريق أو ذاك؛ فرغم أن الطرفين مسلمان ويفترض أن أيهما يسعى إلى الحكم وفقًا للدين الإسلامي فإن هذا الأمر ليس حاضرًا في خلافاتهما وحروبهما.

لكن العربان كانوا لا يوجهون قسوتهم إلى المماليك دائمًا، بل كانوا يختارون الطرف الأضعف وهم المصريون البسطاء وخصوصًا من الفلاحين للانتقام منهم، رغم أن هؤلاء الفلاحين كانوا لا يحبون المماليك أيضًا، ولكن العربان كانوا ينظرون إلى الفلاحين وكأنهم ممتلكات للمماليك.

احترف العربان قطع الطرق والسرقة بالإكراه والإغارة على قرى كاملة ونهبها وحرقها أحيانًا، وقتل من يعترضهم من الفلاحين المصريين الأبرياء المدافعين عن أنفسهم وممتلكاتهم.

ووصل الأمر بهم إلى قطع طرق الحجاج إلى البيت الحرام في الصحراء الشرقية، وسلب ونهب قوافلهم، وأقل أذى لقوافل الحجاج كان فرض الإتاوات عليهم مقابل مرورهم من دون التنكيل بهم.

وكثيرًا كان زعماؤهم يغيرون على القرى المجاورة للصحاري التي يقيم بها العربان، ويفرضون إتاوات على الفلاحين من أهل تلك القرى وكأنها ضرائب يجب عليهم دفعها، وكأن العربان هم الدولة، وإلا كان جزاء الفلاحين سلب ونهب ممتلكاتهم أو حرق محاصيلهم، بل وذبحهم، بحسب ما نفهم من المصادر التي أشرنا إليها.

ووصل الأمر بالعربان حد الهجوم على المدن الكبرى كالإسكندرية وأسيوط، بل القاهرة نفسها أحيانًا أو أطرافها، وكانت غارات سريعة هدفها السلب والنهب ثم الهرب.

وكانوا يختارون توقيتات لهذه الغارات بها كثير من الانتهازية إن لم تكن الخيانة، كحدوث فيضان النيل؛ ففي هذه الفترة تمتلئ القرى بالطين وتتعطل الطرق، ووقتها كانوا يهجمون على قرى الفلاحين، لأن جند المماليك لن يستطيعوا نجدتهم.

خلقت القسوة والقسوة المضادة أو الكراهية والكراهية المضادة، هوة بين الدولة والعربان، فمن ناحية كانت تنظر الدولة دائمًا للعربان بريبة وشك وتخوين، وفي المقابل كان العربان طيلة الوقت يتمنون زوال الدولة، وكانوا دائمًا خنجرًا في ظهرها.

وفي المقابل كان الانتقام المملوكي دائمًا بشعًا قاسيًا، واستخدموا ضد العربان أساليب للموت في منتهى القسوة، مثل التوسيط، حيث يشطر الجسم من المنتصف إلى جزأين بالسيف، والسلخ، بأن يسلخ جلد الرجل وهو حي ويُترك ينزف ويتألم حتى يموت، والعصر، بأن يوضع الرجل بين كماشتين من الحديد ويعصر جسده بينهما، وغيرها من أساليب في التعذيب حتى الموت، بحسب ما يفهم من المصادر.

هذه القسوة والقسوة المضادة أو الكراهية والكراهية المضادة، خلقت هوة بين الطرفين، فمن ناحية كانت تنظر الدولة دائمًا للعربان بريبة وشك وتخوين، وفي المقابل كان العربان طيلة الوقت يتمنون زوال الدولة، وكانوا دائمًا خنجرًا في ظهرها؛ ويتبين ذلك في مجموعة مواقف، منها ما يلي:

-حين هجم جيش القبارصة على الإسكندرية في 1366م، كان العربان في ظهرهم، حيث دخلوا المدينة ونهبوا ممتلكات أهلها ليلًا.

- حين خرج المماليك بقيادة قطز إلى ملاقاة المغول في عين جالوت، كان حصن الدين بن تغلب شيخ قبيلة بني تغلب يقوي موقفه ويجمع قواته لإعلان سلطنته على الدولة، ولكنه لم يستطع إذ عاد المماليك وهزموه وألقوا القبض عليه وأعدموه شنقًا، بحسب المقريزي.

- حين خرج السلطان قنصوه الغوري لملاقاة العثمانيين بقيادة سليم الأول في مرج دابق، فكر في تجنيد العربان في الجيش المملوكي، بحسب ما يذكر ابن إياس في «بدائع الزهور» ولكن مستشاريه نصحوه بعدم الإقدام على ذلك لأنهم لا أمان لهم، ونفس الأمر تكرر مع طومان باي، حين خرج لملاقاة العثمانيين في الريدانية، حيث تراجع عن تجنيد 20 ألفًا منهم.

وكان عدم تجنيدهم قرارًا صائبًا فحين مر طومان باي على عرب غزالة وهو في طريقه لملاقاة العثمانيين، سبوه وشتموه، وقالوا له: «ارجع عن محاربة السلطان سليم وإلا كلنا كنا عليك»، بحسب ما ذكر ابن زنبل الرمال في «آخرة المماليك».

وبعد أن انهزم طومان باي واختبأ وبدأ يخوض هجمات خاطفة وحرب عصابات ضد العثمانيين، خانه حسن بن مرعي، زعيم قبيلة محارب الذي كان يعرف مكانه، ودل العثمانيين على مكانه، بحسب ابن زنبل.

العربان الموالون للدولة: أعطني سلطة ومالاً أعطك الأمان

رغم كل ما ذكرناه كان هناك فريق من العربان قد انضوى تحت لواء الدولة المملوكية، ولكن مقابل امتيازات يحصلون عليها، فانصياع البدوي للدولة لا بد أن يكون وفقًا لصفقة، بحسب ما تشير الوقائع.

كان المماليك يمنحون بعض القبائل، لا سيما من تلك التي تسكن على أطراف المحافظات بالقرب من الفلاحين المصريين، إقطاعات من الأراضي الزراعية، في مقابل اعتبار هذه القبائل من الفرق العسكرية التابعة للدولة، وكانت هذه الفرق تقوم بتأمين الطرق وتحفظ الأمن في النطاق الجغرافي التابع لها، وكان زعيم الفرقة البدوية العربانية يطلق عليه لقب شيخ العرب، وهؤلاء كانوا مؤيدين للسلطان المملوكي طومان باي، وقيل إن عددهم بلغ سبعة آلاف رجل، رغم أن القطاع الأكبر من العربان كان ضد الدولة المملوكية.

وبعد دخول العثمانيين حاول السلطان سليم الأول استمالتهم بنفس الأسلوب وأرسل لبعض مشايخهم هدايا، ومنحهم امتيازات على الأراضي الزراعية، وهو ما عرف بعادة العربان، في مقابل القيام بنفس الدور، وهو تأمين الطرق وحفظ الأمن في نطاق جغرافي معين، بحسب دراسة الدكتور جمال كمال محمود.

وكانت عادة العربان في العهد العثماني عبارة عن ضريبة تدفع لهم من الفلاحين المصريين، عن كل فدان أرض يزرعه الفلاح، ويقع ضمن نطاق عمل فرق العربان المسلحة.

إن العربان في العهود الإسلامية كانت لهم طبيعة شرسة صحراوية، تقبل بالعيش وسط أجواء صعبة، لهم عاداتهم وتقاليدهم التي تختلف عن عموم المصريين، وهذه الطبيعة الانعزالية الخشنة غير القابلة بالاندماج في الدولة والمجتمع جعلتهم دائمًا مؤهلين إلى أن يكونوا شوكة في ظهر الدولة

ورغم ذلك ظل العثمانيون حذرون منهم، ونصَّ ما عرف بقانون نامة العثماني على التحذير من غدر العربان، والتنبيه على ما عرف بالكشافين المسؤولين عن أمن الأقاليم بتتبع العصاة من هؤلاء البدو وقتلهم.

ومن انضم من العربان إلى هذه الصيغة من التعامل أطلق عليهم «العربان المدركين»، ولكن كثيرًا منهم لم يدخل ضمن هذه الصيغة، وكانوا يسمون العربان العصاة، وهؤلاء كثيرًا ما قاموا بأعمال سلب ونهب وقتل على نفس عادة ما كان يحدث في زمن السلطنة المملوكية، بحسب جمال كمال محمود.

في النهاية يمكن القول، إن العربان في العهود الإسلامية كانت لهم طبيعة شرسة صحراوية، تقبل بالعيش وسط أجواء صعبة، لهم عاداتهم وتقاليدهم التي تختلف عن عموم المصريين، وهذه الطبيعة الانعزالية الخشنة غير القابلة بالاندماج في الدولة والمجتمع جعلتهم دائمًا مؤهلين إلى أن يكونوا شوكة في ظهر الدولة، إلا لو هادنتهم الدولة وأعطتهم مقابلًا لهذه المهادنة.

# تاريخ # تاريخ مصر # المماليك # الدولة العثمانية # البدو

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
هدد بقاء الإمبراطورية: التعصب الرياضي في القسطنطينية
من «دقسة» إلى «أرسلان»: رحلة الدروز من محاربة الاستعمار للدفاع عنه

معرفة