يدخل فينيسيوس جونيور إلى نفق الملعب، تخترق أذنيه هتافات الجمهور المنافس التي تنتظره دون رحمة، هتافات صاخبة تقصده دون غيره بما فيها من كراهية وعنصرية بغيضة. ومع كل خطوة تجاه أرض الملعب يزداد صخب الجماهير وحنقهم، ويزداد توتر اللاعب وغضبه.
يتغير هذا المشهد الكريه بالكامل بمجرد أن يلمس كف اللاعب كفاً صغيراً، طفل يبتسم في وجهه وينظر إليه بفخر وهو لا يصدق نفسه أنه بحضرة لاعبه المفضل ممسكاً بيديه، تلك البراءة التي يمكنها أن تزيل أطناناً من الحقد بابتسامة عذبة.
يشبه الأمر التقنية السينمائية التي تُستخدم خلالها موسيقى هادئة في مشاهد مليئة بالعنف فيما يعرف بتنافر الموسيقى التصويرية، هذا التنافر الذي يُستخدم عمداً ليتمكن المشاهد من رؤية المشهد العنيف بشكل أعمق وبأبعاد أكثر إنسانية.
قد يكون مشهد الأطفال المرافقين للاعبي كرة القدم أثناء نزولهم الملعب مشهداً بسيطاً، لكنه في الآن نفسه يقودنا إلى رؤية المشهد المعقد لكرة قدم المال والعنصرية والغضب بشكل أكثر عمقاً، وكأن هذا التضاد يمنحنا رؤية أوسع للأحداث.
يُطلق عليهم مرافقو اللاعبين وأحياناً تمائم الملعب، وأياً كان ما يطلق عليهم فإنهم يستحقون أن نتناول وجودهم بشيء من التحليل، كيف بدأ الأمر؟ ولماذا يعتبره البعض مهماً للغاية؟
لم يكن هذا التقليد متبَعاً منذ زمن بعيد مثل بقية تقاليد مباريات كرة القدم، فقد بدأ عندما أعلن الفيفا في نهاية عام ،2001 وتحديداً قبل إقامة قرعة نهائيات كأس العالم 2002 في كوريا الجنوبية، أن تلك النسخة من كأس العالم ستُخصَّص للإشارة إلى قضية إنسانية كبرى، وهي قضية حقوق الأطفال؛ ولذا فقد أُطلقت حينئذٍ حملة بمشاركة اليونيسيف تحت عنوان: قل نعم للأطفال.
هدفت الحملة إلى تحسين حياة الأطفال وحمايتهم في جميع أنحاء العالم، والتأكيد على أن كرة القدم يمكنها صناعة الفارق في حياة أطفال العالم. ولم يجد المنظمون طريقة أكثر وضوحاً للترويج لتلك الحملة إلا مرافقة الأطفال اللاعبين إلى الملعب وهم يرتدون قمصاناً عليها شعارات الفيفا واليونيسيف وتحمل جملة: قل نعم، قبل كل مباراة في كأس العالم 2002.
«كرة القدم لعبة تمنح الأطفال الأمل، ثمانين في المائة من الذين يلعبون كرة القدم وعددهم 250 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، دون سن 18 عاماً.
رئيس الفيفا جوزيف بلاتر خلال مؤتمر إطلاق الحملة
طلبت الحملة آنذاك من الناس دعم عشرة مبادئ لحماية حياة الأطفال في جميع أنحاء العالم، وتتمثل المبادئ العشرة في:
حسناً، انتهت الحملة وانتهى معها إلزامية هذا التقليد بنهاية كأس العالم 2002، لكن ما زلنا نرى هذا التقليد إلى يومنا هذا، خاصة في المباريات الكبرى. والسبب بالطبع بعيد عن زيادة وعي القائمين على إدارة مسابقات كرة القدم بحقوق الأطفال، فالأمر - كما أوضحنا سلفاً - ليس بسيطاً كما يبدو.
ففي العام 2014 اتُّهم أكثر من نصف أندية الدوري الإنجليزي الممتاز باستبعاد أطفال العائلات الأكثر فقراً من مرافقة اللاعبين قبل بدء المباريات، وذلك بعد أن وجدت دراسة أجرتها صحيفة الجارديان أن عدداً من الأندية تتقاضى ما يصل إلى 450 جنيهاً إسترلينياً مقابل أن يرافق الأطفال اللاعبين، حيث بلغ أغلى مقابل ما يتحصل عليه نادي وست هام يونايتد، وهو 600 جنيه إسترليني للطفل الواحد.
هذا يعني أن فئة معينة من الأطفال لن يتمكنوا أبداً من أن يصبحوا تميمة فرقهم المفضلة، وهذا لأن آباءهم ببساطة لن يستطيعوا تحمل تكاليف مرافقتهم للاعبيهم المفضلين، بينما يزداد هؤلاء اللاعبون والفرق جمعاً للمال.
يمكنك الآن إعادة قراءة المبادئ العشرة للحملة، وتأمل كم مبدأ أُخِلَّ به بشكل قاسٍ خلال ما حدث في الدوري الإنجليزي. والأهم، تخيل أن يبدأ الأمر بحملة لدعم الأطفال وعشرة مبادئ إنسانية خالصة، وخلال 12 سنة فقط يُستغَل الأطفال على النقيض من المبادئ العشرة للحملة تماماً.
أما محلياً، فلفترة ليست بقصيرة أبداً، كان كل اللاعبين الذين يرافقون لاعبي منتخب مصر خلال المباريات الرسمية يُختارون من أكاديمية تابعة لأحد أعضاء مجلس اتحاد كرة القدم المصري، ألم أخبرك أن الأمر ليس بسيطاً أبداً؟!
يذهب البعض إلى ما هو أبعد من فكرة الربح المادي فقط كسبب لاستمرار هذا التقليد، حيث لا يستبعد البعض أن مرافقة الأطفال اللاعبين تتم من أجل حماية اللاعبين!، حيث إنه من غير المرجح أن يرمي المشجعون أشياء على اللاعبين إذا كان هناك أطفال بجوارهم مباشرة.
قد يكون هذا الرأي سوداوياً بعض الشيء، ففي الملاعب الأوروبية تحديداً ليس من المعتاد أن تلقي الجماهير بالمقذوفات على اللاعبين، لكن يمكننا تطوير الفكرة إلى ما هو أكثر منطقية، مثل تعديل هتافات الجماهير وجعلها أقل حدة، فمن الذي يمكنه السباب بشكل عنيف بينما يقف طفل أمامه!
في كل الأحوال تبدو الفكرة ثابتة، يستخدم الأطفال دروعاً بشرية لحماية اللاعبين وبدء المباراة في سلام دون عنف، وهو أمر غير مستبعد تماماً.
لم يدفع الأطفال المال من أجل مرافقة اللاعبين في مباريات كئوس العالم تحديداً، فهذا التقليد استمر خلال بطولات كأس العالم المتتالية منذ نسخة 2002 بعد ذلك؛ بسبب استمرار الشركة الراعية في تمويل الأمر، حيث تجري سحباً قبيل البطولات حول دول العالم لإرسال الأطفال لمرافقة اللاعبين.
تستفيد تلك الشركة تجارياً بالطبع، لكن ماذا عن الأطفال؟
إنها التجربة الأروع دون شك، تخيل أن تكون بهذا القرب من لاعبك المفضل، تخيل أن ترافق أسطورتك أمام الجميع، أن تحلم بأن تكون في مكانه يوماً ما وتستعيد أمام الجميع هذا المشهد لتقول إن تلك اللقطة كانت البداية، ولمَ لا؟ فصورة لامين يامال رضيعاً رفقة ميسي تقول إن القدر يخبئ دوماً الكثير.
هنا نصل إلى نقطة النهاية، هل كل ما سبق يعني أن مرافقة الأطفال للاعبي كرة القدم يجب أن تتوقف؟ الإجابة لا بالطبع؛ لأن تلك المشاهد التي ينتجها وجود الأطفال بما فيهم من براءة لا تقدر بثمن.
تتعدد المشاهد التي يفرضها وجود الأطفال، مثل اندفاع طفل للصورة الجماعية لفريق برشلونة فقط لأنه لا يريد ترك يد ميسي، أو رونالدو الذي كان يدلك كتفي الطفل المرافق له حتى يزول عنه التوتر. ناهيك عن تواجد أطفال من ذوي الإعاقة الجسدية أو العقلية كمرافقين للاعبين وأهمية الإشارة إلى وجودهم وحقوقهم في الحياة.
لم يذِعْ صيت لاعب الوسط الأسترالي مارك بريشيانو كلاعب كرة قدم عظيم، إلا أن انحناءَه قبيل بدء مباراة منتخبه ضد تشيلي في كأس العالم 2014 ليربط حذاء صبي صغير يقف مستنداً على عكازات تؤكد أنه إنسان عظيم.
من أجل كل هذا، يجب ألا يتوقف هذا التقليد الجميل أبداً؛ لأن كرة القدم مهما تحولت إلى صناعة شرسة لا تهتم إلا بالمال، فهي أيضاً لا تخلو من البراءة.