ريادة أعمال

اقتصاديات الانتباه وتعفن الدماغ: مصائب قوم عند قوم فوائد

أعلن قاموس أكسفورد أن كلمة عام 2024 هي «تعفن الدماغ»، فما المقصود منها؟ وما الآثار التي يمكن أن تنتج عن هذه الحالة؟ ولماذا قد تكون خطيرة؟

future صورة تعبيرية (اقتصاديات الانتباه وتعفن الدماغ)

أعلن قاموس أكسفورد مطلع الشهر الحالي أن كلمة عام 2024 هي «تعفن الدماغ - Brain rot»، والمقصود منه التدهور المزعوم للحالة العقلية أو الفكرية لشخص ما، غالباً نتيجة استهلاك مفرط للمحتوى التافه على الإنترنت، ويستخدم المصطلح كذلك لوصف أي شيء آخر يؤدي لحدوث هذا التدهور.

مصائب قوم عند قوم فوائد، هكذا يقول المثل الشهير؛ إذ وراء تعفن الدماغ يقف ما يمكننا مجازاً تسميته باقتصاد الانتباه، ونماذج أعمال شركات عديدة في مقدمتها مواقع التواصل الاجتماعي، ربما لا يمكننا الجزم بأن هدفها هو خلق حالة تعفن الدماغ، لكنها بلا شك الأكثر مساهمة في حدوثه والاستفادة من ذلك.

اقتصاد الانتباه: نموذج عمل قائم على التفاعل

تخيل أنك الآن تشاهد أحد الفيديوهات على منصة «تيك توك». بمجرد الانتهاء من الفيديو وجدت نفسك تنتقل إلى آخر، وكلما استمر تصفحك للمنصة ظهر لك المزيد من الفيديوهات المناسبة لذوقك، لتكتشف أنك قضيت وقتاً طويلاً على المنصة، لم تعد الدقائق فيه هي وسيلتك لحساب الوقت إنما عدد الفيديوهات التي تشاهدها، تقول لنفسك في كل مرة سأتوقف بعد الفيديو القادم، وتستمر في استخدام المنصة لساعات.

ما تفعله منصة «تيك توك» هنا هي توظيف خوارزمياتها للحفاظ على تفاعلك ووجودك في المنصة لأطول فترة ممكنة؛ إذ تحلل سلوكك في التصفح، واستناداً إلى تقنيات التعلم الآلي تتنبأ بما سيعجبك لاحقاً، وتقدم لك محتوى مخصصاً بدقة يلبي احتياجاتك ويبقيك في حالة تصفح مستمرة.

بالطبع لا يقتصر الأمر على «تيك توك» فقط، فهذا هو حال أغلب منصات التواصل الاجتماعي، فهذه المنصات تدرك أن أهم مورد لنجاحها هو قدرتها على جذب انتباهك لفترات طويلة، وبالطبع هذا المورد محدود وقيم للغاية نتيجة وجود العديد من المنصات والخيارات الأخرى المتاحة، فلا بد من تقديم شيء يجذبك فعلاً في المقابل للفوز بهذا المورد.

وماذا يحدث عندما تفوز باهتمامك؟ تستفيد منه المنصة في سياقات متنوعة، أهمها بالطبع عرض الإعلانات المتخصصة بين الفيديوهات، وجذب المعلنين الذين يستفيدون من وجود ملايين المتابعين لهذه المنصات، ومن هنا تأتي الربحية. ناهيك عن قيمة البيانات نفسها لهذه المنصات، وإمكانية استثمارها بصور مختلفة.

ليست منصات التواصل وحدها: الجميع يبحث عن اهتمامك في العالم الرقمي

الحقيقة أن منصات التواصل الاجتماعي ليست الوحيدة التي تسعى لسرقة انتباهك، صحيح هي المثال الأوضح دائماً، لكن توجد أمثلة أخرى بعضها يقترب في وضوحه منها، والبعض أقل وضوحاً، لكن في النهاية تُخلق نماذج أعمال مختلفة من ذلك. من أهم هذه الأمثلة:

منصات البث: نتفلكس نموذجاً

تقدم منصات البث مثل نتفلكس مميزات مثل التشغيل التلقائي والتوصيات المعتمدة على الخوارزميات، بهذا تضمن بقاء المشاهدين لأطول فترة ممكنة داخل المنصة. وبصفة عامة يشجعهم ذلك على الاستمرار في دفع الاشتراك طوال الوقت نظراً لوجود محتوى آخر يناسبهم ينتظر المتابعة.

شركات الألعاب: روبلوكس نموذجاً

لم تعد الألعاب مجرد نشاط ترفيهي، بل تسعى شركات الألعاب الإلكترونية للجمع بين عنصري الترفيه والتواصل الاجتماعي مثلما تفعل لعبة روبلوكس، وتشجع المستخدمين على إنشاء محتوى والتفاعل مع الآخرين، إلى جانب مميزات في اللعبة نفسها تطيل فترة استخدام المنصة، وفي حين قد تكون اللعبة نفسها مجانية، لكن الإضافات الداخلية في اللعبة تكون بمقابل مادي.

منصات التكنولوجيا التعليمية: دولينجو نموذجاً

تعتمد منصات التكنولوجيا التعليمية على مبدأ التلعيب في التعليم، وذلك لإبقاء المستخدمين في المنصة لأطول وقت ممكن، فمثلاً تعتمد دولينجو على الشارات ولوحات المتصدرين لتحفز المستخدمين على الاستخدام اليومي، وتربح في المقابل من الاشتراكات والإعلانات.

الطريق إلى تعفن الدماغ: كيف يتآكل عقلك؟

في حين يبدو الأمر أن هذه المنصات تسعى فقط لنجاح أعمالها، لكن في النهاية المشكلة الكبرى فيما تفعله المنصات، في المبدأ نفسه، إنها تعتمد على الانتباه لا الجودة، خصوصاً منصات التواصل الاجتماعي والبث، ومع تدفق لا ينتهي من المحتوى يظهر العديد من المشكلات:

1. الأثر السلبي على صحتك

تشير العديد من الدراسات إلى أن الاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي يؤثر على صحتك جسدياً ونفسياً بطريقة سيئة، فهو يقلل انتباهك ويضعف ذاكرتك على المدى البعيد، ويصعِّب فكرة العمل العميق والتركيز في أثناء المهام ما يؤثر سلباً على إنتاجيتك، كما يزيد من مشاعر الوحدة والقلق لديك.

2. التدهور المعرفي: ملخص أخبار العالم في ريل

إلى جانب الأثر السلبي لهذه المنصات، فإنها تساهم في حدوث حالة من الإرهاق المعرفي؛ إذ يُستنزف جهد المستخدمين من التعرض لكم كبير من المحتوى يومياً، ودون وعي بذلك يفقدون القدرة على استهلاك المحتوى الجيد. ويصبحون أكثر ميلًا للمحتوى السريع مثل الريلز والشورتس، بينما يعجزون عن متابعة المحتوى العميق، مثل مشاهدة دورة تعليمية أو قراءة كتاب.

3. السباق نحو القاع

في سباق جذب الانتباه، تعطي المنصات الأولوية للمحتوى الذي يثير ردود فعل عاطفية فورية، ولذلك ينتشر بسهولة مثلاً المحتوى المثير للجدل عن المحتوى التعليمي، وهذا ببساطة يؤدي إلى جعل المحتوى السطحي والمثير يتفوق على المحتوى العميق والهادف، والنتيجة هي بيئة رقمية يصبح فيها تعفن الدماغ القاعدة بدلاً من الاستثناء.

4. السلوكيات الإدمانية

تُصمم المنصات بطريقة تشجع على السلوكيات الإدمانية لها؛ إذ نتيجة للتوصيات المخصصة ومميزات مثل التشغيل التلقائي، فإن المستخدم قد يجد صعوبة في التوقف عن التصفح، فهو كلما شاهد محتوى أعجبه تكافئه المنصة بالمزيد منه.

إذا لم تدفع ثمن المنتج فأنت المنتج!

«بينما تحاول إنجلترا علاج تعفن البطاطس، ألا ينبغي لأحد أن يحاول علاج تعفن الدماغ الذي ينتشر على نطاق أوسع وأكثر فتكًا؟»

- هنري ديفيد ثورو، كتاب والدن، عام 1854.

المفارقة المزعجة أن الآثار السلبية التي تنتج عن تعفن الدماغ تدفع المستخدمين إلى البحث عن المزيد من المحتوى الرقمي بدلاً من التوقف عن استهلاكه. حالة من الهروب غير الواعي من التعامل مع المشكلة، وبينما تعمق الآثار السلبية على المستخدمين، فإن ذلك يعظم من المنفعة التي تحصدها المنصات.

لذا، رغم مضي حوالي 170 عاماً على اقتباس هنري، فإنه يطرح تساؤلاً مهماً عن ضرورة التفكير في حل لهذه المشكلة، وعدم الهروب من مواجهة الواقع.

قد يكون اختيار تعفن الدماغ مصطلحاً لهذا العام خطوة تلفت الانتباه لخطورة المسألة، ودعوة مهمة للناس لاستعادة السيطرة على عقولهم وحياتهم، واستيعاب أن نشاطاً بسيطاً مثل التصفح اليومي يسبب لهم ضرراً كبيراً. وتذكر أنك إذا لم تدفع ثمن المنتج، فأنت المنتج الحقيقي، وهذا أعلى ثمن يمكن أن تدفعه في حياتك.

# اقتصاد # ريادة أعمال

«الأب الغني والأب الفقير»: هل يستحق الضجة حقاً؟
هل المبادر الأول في السوق «First mover» الأكثر نجاحاً؟
5 استراتيجيات مهمة لاحتراف هندسة الأوامر

ريادة أعمال