لا يزال العاشر من رمضان، وسيظل إلى وقت طويل، من الأحداث التي يؤرخ بها في تاريخ العرب والمسلمين كعلامة على طريق التجرد والتحول والانتقال من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع… وهو كذلك بالنسبة للاستراتيجية العالمية وللاستعمار وللصهيونية موقف حاسم يتوقف المراقبون والباحثون والمؤرخون عنده طويلًا، يدرسونه ويحللونه ويستنتجون منه نتائج مختلفة، تتركز جميعًا بلا استثناء على حقيقة أساسية تنقض كل ما كان يقال ويذاع ويكتب عن قدرة العرب القتالية وكفاءة الجندي المصري واستيعابه لكل المنجزات المصرية والآلات التكنولوجية بكفاية واقتدار.
لقد صدرت عشرات الكتب والبحوث والدراسات، ونُشرت مئات المقالات في الصحف العالمية. وفي مصر صدرت مجموعة من الكتب حرصت على استيعاب ذلك الحدث من وجهاته المختلفة ومن نواحيه المتعددة. وكان أغلب ما كتب إنما يمثّل محاولة لاستعراض وقائع حرب العاشر من رمضان تفصيلًا وآثارها العامة وما حققت من نتائج، وتكاد هذه الدراسات جميعًا تتفق على عدة عناصر أساسية أمكن أن تتحقق بالفعل وأن تُحدث تغييرًا واسعًا في مجالات السياسة والمجتمع والاستراتيجية العالمية، هي:
أولا: كانت سببًا في وحدة عربية شاملة، وحققت موقفًا عربيًا موحدًا لم يشهده العالم من قبل.
ثانيا: عززت الوحدة الوطنية بصورة لم تشهدها مصر سابقًا.
ثالثا: أعادت إلى القوات المسلحة المصرية ثقتها بنفسها، كما أعادت لشعب مصر ثقته بقواته المسلحة.
رابعا: قضت على أسطورة جيش اسرائيل الذي لا يقهر.
خامسا: غيّرت الاستراتيجية العسكرية في العالم كله.
سادسا: قلبت الموازين العسكرية في العالم.
سابعا: حرّكت أزمة الشرق الأوسط بدرجة لم تحدث في أي وقت مضى.
هذه هي أبرز النتائج التي أحدثتها حرب العاشر من رمضان (6 أكتوبر) كما تصوّرها أغلب الدارسين.
كتب عربية عن حرب رمضان
«حرب رمضان: (الجولة العربية الاسرائيلية الرابعة)» حسن البدري - طه المجدوب - ضياء الدين زهدي.
«المفاجأة: دور المخابرات في حرب الشرق الأوسط» ماهر عبدالحميد.
«حرب أكتوبر: دراسات في الجوانب الاجتماعية والسياسية» - (الأهرام).
«وتحطمت الأسطورة عند الظهر» أحمد بهاء الدين.
«6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية» د. جمال حمدان.
«حرب الساعات الست» دكتور عبدالكريم درويش وليلى تكلا.
ومن أبرز ما عُنيت به هذه المؤلفات وحشدت له اهتمامًا كبيرًا: كفاءة المقاتل العربي.
وكان أبرز ما تكشّفت عنه حرب رمضان، في تقدير الباحثين والكتاب جميعًا، هو كفاءة المقاتل العربي، وقد صوّرها دكتور عبدالكريم درويش في كتابه «حرب الساعات الست» تصويرًا صافيًا حين قال:
«بعد ست ساعات من القتال بدأ العالم يرى المقاتل المصري والمقاتل العربي في صورة أخرى، وقالت مجلة «نيوزويك»: إن الأساطير التي قامت منذ انتصار اسرائيل الخاطف في حرب 1967 قد تداعت يومًا بعد يوم، أو على الأقل شُوّهت بصورة بشعة، ولقد كانت هناك خرافة تقول إن العرب ليسوا محاربين على الإطلاق، حيث طمست أحداث حرب 1967 من ذكريات الناس أن المحاربين العرب نشروا يومًا ما دعوة الاسلام في كل مكان، فاتحين وغازين نصف العالم المتحضر حينئذ».
وقالت صحيفة «دير شبيجل» الألمانية: «إن الجنود العرب قد قاتلوا هذه المرة بصورة لم نعهدها فيهم، ولم يتوقعها العالم منهم». لقد عاد العربي فعلًا بعد قرون من الكبت والاحتلال والاستغلال، عاد العربي إلى أصله وأصالته كمحارب قدير يدافع بايمانه ويؤمن بما يدافع عنه، وثبت أنه إذا توفرت له الظروف والامكانيات استبسل وضحى بنفسه بلا تردد وحقق الكثير.
وخرجت قصص بطولات يفوق بعضها الخيال، وأعادت إلى الأذهان ذكرى غزوة بدر وغزوة أحد ومعارك القادسية واليرموك وحطين وعين جالوت وفتح العرب لمصر والمغرب والاندلس. وبدأت صحافة العالم تتذكر وتذكر بفتوحات العرب وقدراتهم العسكرية، بدأت تتكلم عن المصري الذي صنع من نفسه قنبلة تنفجر أمام دبابات ليؤخر تقدم العدو، أو لينقذ رفاقه، وتتحدث عن الجندي السوري الذي غادر المستشفى قبل اتمام علاجه ليعود إلى جبهة القتال.
وقال مراسل مجلة «تايم»: «إن روح المقاتل العربي كانت عالية جدا، وكأن المصريون يلوحون لنا فرحين وهم ينادون (الله أكبر)، ورغم أننا كنا نسمع صوت المعركة الرهيبة التي تدور قريبًا منا، إلا أن الفرحة والسعادة كانت تغمر القوات المصرية بصورة واضحة، ولم يبدُ عليها القلق، بل كانت تشير بكل فخر إلى العلم المصري وهو يرفرف على خط بارليف، وأمام هذا العلم ومن أجله، نسي المقاتل نفسه، وأسرته، ومصالحه، لم يفكر إلا في مصر».
ويروي مراسل «تايم» في سيناء أن قائد المنطقة المصري قال له بكل فخر واعتزاز: «إن أفضل سلاح عندنا هو شجاعة المصري». وقال: «إن الجندي الاسرائيلي يحارب من دبابته، أما نحن فإننا نحارب على أرجلنا».
لقد تمكن المقاتل العربي خلال ربع قرن أن يقفز من القرون الوسطى إلى القرن العشرين، واستوعب العصر ومعداته بصورة انتزعت إعجاب العالم. إن المقاتل العربي في هذه الحرب قد استوعب الجوانب التكنولوجية تصاحبها بسالة وفدائية، وهو الازدواج الذي لم يتوفر لنا عام 1967 لضرورة الانتصار، ذلك أن الحرب في جوهرها عادة وروح، قوة وقدرة، إرادة ورغبة، سلاح ودافع، وعندما يتوفر الجانبان معًا يمكن للانسان أن يحقق المعجزات والعجائب بالآلة، ولا يمكن للآلة أن توصل الإنسان إلى تحقيق أهدافه.
إن قصص البطولة التي كتبها العربي المقاتل يمكن أن تملأ مجلدات ومجلدات، وهي قصص لم تُعرف كلها بعد، وهي إذا جُمعت ستكون أجمل صفحة في كتاب مصر الحديثة. إن المقاتل العربي كان مقاتلًا ورائدًا ومحررًا وسفيرًا. هؤلاء الأبطال الذين خرجوا من هذا الشعب، من هذه الأمة، في فترة حالكة ساد فيها الظلام، ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق، حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء.
صيحة الله أكبر
ولقد وجدت صيحة «الله أكبر» اهتمامًا كبيرًا من الكتاب ذوي الأصالة والمقدرة على فهم نفسية المقاتل العربي الذي ينطوي على ايمان صادق بالله، والذي يتقدم وهو مؤمن بأنه يقاتل في سبيل الله حقًا. وهذا ما يصوره صاحب كتاب «حرب الساعات الست» حين يقول: «هناك بوادر عودة الحضارة العربية بجوانبها العلمية، وهذه مؤشرات لعودة الحضارة في جوانبها الانسانية والروحية».
لقد كان الايمان بالله سلاحًا في المعركة، وكانت صيحة «الله أكبر» التي أطلقها الجنود وهم يعبرون وتتردد أصداؤها في جنبات سيناء، وتشق عنان السماء، أبلغ دليل على تمسك مجتمعنا بالمباديء والقيم الدينية، وأقوى برهان على عقم ما أراد العالم أن يصفنا به بأننا شعوب قد تخلت عن العقائد الدينية وتبنت مذاهب سياسية معروفة بجفائها الروحي، محرومة من قوة الايمان.
لقد أجملت تلك الصيحة المبكرة في كلمتين عظيمتين: الروح التي سادت المقاتلين خلال قتالهم وأشعت نبضاتها على الجبهة الداخلية، فردّد كل عربي هذا النداء في وحدة وطنية رائعة: «الله أكبر، الله أكبر». ومما يضاف إلى ما أورده الكتاب تلك الأخبار التي تواترت من أن معاهد الاستراتيجية العليا الغربية تدرس الآن «الله أكبر» بوصفها سلاحًا كونيًا غيّر مجرى الأحداث.
الصوم
وتحدثت صحيفة «الجارديان»، فيما أشار إليه كتاب «حرب الساعات الست» عن الجوانب الروحية والانسانية، قائلة: «إن المقاتل العربي المسلم الذي قاتل في شهر رمضان استمر في صيامه رغم السماح له بالافطار، والأغرب من ذلك أن زميله المقاتل المسيحي قد شاركه بدوره في هذا الصيام. لقد اندثرت تمامًا من ذكرى العرب جميعًا أصداء ذلك الشقاق الطائفي.
لقد حاولت إذاعة إسرائيل خلال الأيام الأولى من المعركة أن تشعل فتنة بين العرب وأن تشعل شقاقًا طائفيًا، ولكن محاولتها هذه وُلِدت ميتة. وقد حارب عربي المشرق مع عربي المغرب، وقاتل العربي الأبيض بجانب العربي الأسمر، واستُشهد العربي المسلم بجانب أخيه المسيحي. كذلك براءة حرب رمضان من أعمال الإبادة والعدوان. فلم تصدر أي بادرة تنم عن التشفي باليهود».
استيعاب فنون الحرب الالكترونية
وأشارت دراسات الكتاب إلى ما حققته حرب العاشر من رمضان في دحض شبهة التخلف الحضاري، واستعرضت هذه الدراسات صور الحرب النفسية التي شنها العدو بعد حرب 1967 عما أطلق عليه (الفجوة الحضارية)، ولقد قضت حرب رمضان فيما قضت على تلك الأفكار، فقد كشفت عن قدرة العرب على استيعاب فنون الحرب الالكترونية، وإحراز التقدم التكنولوجي بأبعاده من المعارف العلمية الأساسية والقدرة الادارية العصرية. يقول الأستاذ جمال درويش:
«إن المحارب المصري لم يكن عامر القلب بالايمان مملوءا بالثقة بالنفس والاصرار فحسب، ولم يكن شجاعا وحسب، وإنما كان أيضا عند أعلى مستوى من المهارة والحنق والتدريب والقدرة أيضا على مستوى الأداء تحت كل الظروف والتعامل المقتدر مع كل الأسلحة والعتاد المصري والالكتروني الذي في حوزته».
وإلى جانب هذا كان المقاتل المصري، برغم ظروف الحرب وتحت ضراوتها ووسط أتونها، قادرًا على إخضاع نفسه للنظام، والتحلي بمسلك منضبط استرعى الانتباه.
بدر كلمة السر
وقد عنى حسن البدري وطه المجدوب وضياء الدين زهدي في كتابهم «حرب رمضان» أن يرسموا صورة رائعة لبطولة العبور: «لقد كانت الساعة الثانية وخمس دقائق هي ساعة البدء بعد الظهر 10 رمضان (6 أكتوبر)، عندما عبرت طائرات سوريا ومصر خطوط المواجهة مع اسرائيل، واتجهت نحو أهدافها المحددة، ثم هدرت مدافع الحرب على طول الجبهتين الشمالية والجنوبية في أقوى تمهيد نيراني شهده الشرق الأوسط.
فعلى الجبهة المصرية، انطلقت مائتا طائرة مصرية تشق عنان السماء في طريقها المرسوم إلى عمق سيناء لتنفيذ الضربة الجوية المركزة التي كان عليها تحطيم ثلاثة مطارات وقواعد صواريخ هوك وثلاثة مراكز قيادة وسيطرة وإعاقة الكتروني، بالإضافة إلى عدد من محطات الرادار. وعندما أشارت عقارب الساعة إلى الثانية والثلث كانت الأفواج الأولى من طائراتنا تعبر القناة عائدة من مهامها الناجحة، بعد أن قصفت أهدافها في عمق سيناء حتى حطمتها.
وفي نفس اللحظة، امتلأ المكان بصيحات ثمانية آلاف من المقاتلين البواسل، هم مهجة مصر وفلذة كبدها، يصرخون بأعذب الكلمات وأسماها: «الله أكبر، الله أكبر». وامتلأت صفحة الماء بقوارب المطاط، واندفعت موجات الاقتحام الأولى، والعيون تتحرق في المقل شوقًا إلى الرمال الذهبية الحبيبة التي أمض القلوب لوعة الحنين إليها. وعندما وصل الرجال إلى الضفة الشرقية كانت اللحظة وكان الحدث اللذان طال انتظارهما».
بطولة العبور المجيد
وأشار مؤلف كتاب «المفاجأة» إلى أن كلمة السر في معركة العاشر من رمضان هي «بدر»، ومنذ اللحظة الأولى للمعركة حملت جميع أجهزة اللاسلكي وجميع الموجات كلمة «بدر». وسمع كل من كان بالقرب من جهاز استقبال هذه الكلمة تتكرر ثلاث مرات بوضوح تام. وبدأت كل الأسلحة: المدفعية، والمدرعات، والقاذفات، والوحدات البحرية تطلق النار.
أبرز ما حققته معركة العاشر من رمضان، تصحيح المفاهيم وإعادة تأكيد الحقيقة، وهذا ما يجمله الدكتور جمال حمدان في سبع نقاط:
أولا: أن المعركة قد أثبتت أول وآخر وأخطر ما انبثّت الروح القتالية العالية المندفعة والطاقة في الجندي العربي، وأكدت فدائية المقاتل العربي واستبساله وإقدامه بلا تردد، لا ينكص ولا يتراجع عن تحقيق هدفه مهما كان السلاح الذي يواجهه.
ثانيا: أثبتت المعركة قدرة المقاتل العربي على استيعاب أعقد الأسلحة الحديثة والمتطورة، والسيطرة عليها بكل كفاءة واقتدار، وتطويع التكنولوجيا وتكييفها والتكيف معها، والتعامل بها على كل المستويات.
ثالثا: التفوق في كل فنون القتال: التخطيط، التنفيذ، المناورة، الحركة.
رابعا: أثبتت المعركة خطأ الاتهام الذي روجه العدو عنا من أن العرب لا يجيدون القتال إلا من المواقع الثابتة، فأكدت للعالم تقدمهم بنجاح تام من القتال الثابت إلى القتال المتحرك.
خامسا: نسخت الحرب ونسفت إلى الأبد كل الأساطير والدعايات الشوهاء الظالمة الكاذبة التي ركز العدو عليها كل جهوده وأبواقه لإلصاقها بالمقاتل العربي ونوعيته؛ أولًا ليثبتها في نفسه هو، ثم ثانيًا لترسيخها في عقلية العالم، كما عبر عن ذلك كاتب أوربي كبير حين قال: «إن ما هو خطير في تدمير خط بارليف وحصون الجولان ليس تحرير جزء جزء من الجزء العربي المحتل، وإنما هو في تدمير صورة ثابتة عن الانسان العربي كانت رائجة عندنا».
سادسا: كانت حرب رمضان أول اختبار حقيقي ميداني حاسم لنوعية المقاتل المصري والسوري كجندي محارب، وقد تحطمت خرافة العسكرية الاسرائيلية، وانكشفت حقيقة المقاتل الصهيوني. وأثبت الجندي العربي وجوده وتفوقه بلا حدود.
سابعا: أعاد العدو اكتشاف حقيقة معدن المقاتل والإنسان العربي. قال الجنرال «ميتا هوبليد»:
«من الواضح حتى الآن أن الجندي المصري يظهر روحًا قتالية قوية، ولم يفقد إرادته على مواصلة القتال. إننا نعرف هذه الظاهرة جيدًا منذ حرب 1948 وخلال حرب سيناء 1956».