رياضة

أمريكا الجنوبية: متى تحول الغش إلى مكر؟

الصورة النمطية المكونة عن فرق أمريكا الجنوبية بشكل عام، أن الغش والخداع جزء أصيل من ثقافة لعب كرة القدم. فما القصة؟

future هدف مارادونا الشهير ضد منتخب إنجلترا بكأس العالم 1986

في كوبا أمريكا 1979 كان منتخب تشيلي يحتاج لفوز على ضيفه القوي منتخب كولومبيا من أجل العبور لنصف النهائي، وحتى يتحقق ذلك كان على التشيليين أن يلجؤوا لحيلة ما لكنها تبدو غير مثالية على الإطلاق.

وصلت بعثة كولومبيا للعاصمة سانتياجو، حيث تم تسكينها داخل أفضل فنادق المدينة كاريرا، ومن أجل ضمان معاملة مثالية للضيوف، تقرر حضورهم لحفل خاص على مسبح الفندق ليلة المباراة.

كان لويس سانتيبانيز مدرب منتخب تشيلي قلقًا بشأن المباراة، لذا قرر أن يستأجر بعضًا من الفتيات لحضور الحفلة المخصصة لأعضاء المنتخب الكولومبي، بغرض تشتيت انتباههم. بالفعل التقط نجوم كولومبيا الطُعم وظلوا مستيقظين لساعات متأخرة من ليلة المباراة المصيرية.

أصر سانتيبانيز على إحكام خطته، إذ استأجر مصورًا محترفًا، نجح في التقاط صور لنجوم كولومبيا في أوضاع قد لا يفضلون إظهارها للعلن، وكانت الخطوة التالية هي ابتزازهم بهذه الصور قبل انطلاق المباراة بدقائق.

طبقًا لأحد لاعبي تشيلي، أُخبر لاعبو كولومبيا أن هذه الصور ستكون على أغلفة صحيفة إل تيمبو الكولومبية إذا لم تفُز تشيلي بالمباراة، وفي النهاية كان للتشيليين ما أرادوا، إذ انتهت المباراة بانتصار تشيلي بهدفين نظيفين.

من وجهة نظر تشيلية، ما حدث بالطبع يبدو مُحرجًا، لكنه كان عبارة عن رد على تاريخ طويل من الحوادث المشابهة التي تعرض لها منتخبهم عند اللعب في بوجوتا عاصمة كولومبيا.

في الحقيقة، يعتقد ليوناردو ڤيليز جناح تشيلي، أن الأمور تُدار هكذا في أمريكا الجنوبية: الأرجنتين، الأوروجواي، البرازيل والباراجواي يفعلون مثل تلك الأشياء دائمًا.

قد تتطابق هذه الرواية بالفعل مع الصورة النمطية المكونة عن فرق أمريكا الجنوبية بشكل عام، إذ الغش والخداع جزء أصيل من ثقافة لعب كرة القدم. فما القصة؟

غشاش بالفطرة؟

البرازيليون عباقرة في الغطس، الأرجنتينيون يمتلكون مارادونا الذي سرق الجميع في وضح النهار، الأوروجواي لديها لويس سواريز، وهذا كافٍ جدًا كبطاقة تعريف. يبدو أن الغش مقبول في ثقافات هذه الشعوب. صحيح؟

نقف الآن أمام أول مشكلة، وهي تعريف الغش في كرة القدم، وكي لا يختلط الحابل بالنابل، ربما علينا التفرقة ما بين الغش، كمحاولة لكسب أفضلية على المنافس بطريقة لا أخلاقية، وما بين استغلال الموقف. وما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا هو أن الخط الفاصل ما بين هذا وذاك ضبابي جدًا.

على سبيل المثال، يلعب منتخب بوليڤيا مبارياته على ملعب يرتفع نحو 12 ألف قدم عن سطح البحر، يلحق ذلك ضررًا مباشرًا على المنافسين، الذين بالكاد يستطيعون التنفس على أرض الملعب. مع ذلك حصلت بوليفيا على هذه الأفضلية بسبب ظروفها الجغرافية، التي تتحول في بعض الأحيان لأفضلية رياضية واضحة.

على النقيض تحايل البرازيلي ريڤالدو على حكم مباراة البرازيل ضد تركيا بدور المجموعات في كأس العالم 2002، عندما ادعى ارتطام كرة مسددة من أحد لاعبي تركيا في وجهه، على الرغم من أنها بالكاد اصطدمت بركبته، قبل أن يقرر الحكم طرد لاعب تركيا، بعد أن ابتلع الطعم.

يرفض ريڤالدو اتهامه بالغش ولا يرى أنه مضطر للتعبير عن أسفه، إذ يرى أن الطرد كان نتيجة منطقية لتعرضه للضرب داخل نفس الـ90 دقيقة.

يزعم عالم الاجتماع جيفري ليسر، أن الغش وإن كان سلوكًا مشينًا فقد يتم التسامح معه أحيانًا في بعض السياقات؛ لسبب مباشر جدًا وهو أن البشر بشكل عام يحبون الفوز، بالتالي إذا ما تحقق الفوز، ربما يتغاضى الجميع عما يمكن وصفه بالفعل غير الأخلاقي.

نحن نغش قليلًا في الأرجنتين، هذا هو أسلوبنا. إذا ما ولدت في بلدة فقيرة، كل ما عليك فعله هو تحدي الشرعية، كل ما تقوله لنفسك: ما لم يكتشفه الحكم، يظل خطأه.
— ريكي ڤيلا لاعب منتخب الأرجنتين الأسبق

كان هذا تعليق زميل مارادونا على هدفه الشهير ضد إنجلترا بكأس العالم 1986، الذي يمكن اعتباره محاولة لتبرير الغش، وإرجاعه لأسباب اجتماعية خاصة بنشأة هؤلاء اللاعبين.

وفي محاولة أكثر فداحة لتبرير الغش يعتقد دييجو أجيري مدرب منتخب شباب الأوروجواي الأسبق، أن سر مقارعة الألبيسيليستي للكبار يرجع في الأساس للبحث عن أي طريقة للفوز، حتى ولو كان عبر القيام بأي شيء، لكن الأهم ألا يكون ضمن الأشياء التي يعاقب عليها قانون اللعبة.

طبقًا لأجيري، أي سلوك بدءًا من الغطس وصولًا إلى الاستفزاز اللفظي أو الجسدي لا يجلب انتقادات لصاحبه داخل الأوروجواي، بينما قد تشعر جماهير إنجلترا مثلًا بالسوء إذا ما فاز المنتخب بسبب غطسة.

اللعب النظيف الذي أعرفه يكون في الحياة، أن تكون أبًا صالحًا وصديقًا جيدًا. في أمريكا الجنوبية، ينتقد الغش بشكل أقل، عكس البلاد الأنجلوساكسونيا. كرة القدم مثل البوكر، عليك دائمًا أن تحاول خداع خصمك.
— باولو مونتيرو مدافع منتخب الأوروجواي السابق

الغش لا وطن له

بعد انتهاء كأس العالم 2010 بجنوب أفريقيا حاول عالم النفس بجامعة شيفلد كريس سترايد، الإجابة على سؤال: هل تحتكر شريحة معينة من اللاعبين أو المنتخبات الغش في كرة القدم؟

حلل سترايد جميع مباريات كأس العالم الـ64، لمعرفة إذا ما كان الغش مرتبطًا باللاعب كفرد أو الفريق كمجموعة أو بالهوية الوطنية للبلد.

أحصى سترايد 390 حالة غش متعمدة، لم يبتلع الحكَّام 87% منها. كانت بعض الفرق بالفعل تحاول مخالفة القواعد أكثر من غيرها. فمثلًا امتلكت البرازيل أحد أعلى معدلات الأخطاء الاحترافية، وهي ارتكاب اللاعب خطأً متعمدًا لمنع المنافس من الوصول لمرماه، بينما اشتركت البرتغال وتشيلي وإيطاليا في محاولات الغش الكلاسيكي، أي ادعاء الإصابة أو التمثيل بغرض الحصول على ركلة جزاء.

أما من بين اللاعبين، فكان الإيڤواري عبدالقادر كيتا والمكسيكي كواوتيموك بلانكو والبرتغالي كريستيانو رونالدو أكثر من حاولوا خداع الحكام. يضعنا هذا أمام حقيقة جديدة، وهي أن الغش والخداع والتحايل ليس حكرًا على اللاتينيين أو على غيرهم.

في مقال بعنوان «لعبة الكسب: لماذا يغش نجوم الرياضة؟»، وضع الكندي ديك باوند رئيس منظمة WADA الأسبق خمسة أسباب تجعل الرياضي يلجأ للغش، بداية من ادعاء الإصابة وصولًا لتعاطي المنشطات، ليس منها بالطبع جنسيته.

كانت الخمسة أسباب الخاصة بباوند كالتالي: أولًا: الرغبة في الفوز تحت أي ظرف. ثانيًا: المكاسب الاقتصادية المترتبة على الفوز. ثالثًا: الضغط الواقع على الرياضي كممثل لوطنه. رابعًا: الضغوطات النفسية التي يتعرَّض لها الرياضي من المحيطين به. خامسًا: الثقة في أن خدعته لن تكتشف.

بهذه الطريقة ربما تستقيم الرواية، ليتضح أننا أحيانًا ننحاز للقصص المحبوكة مسبقًا، بالتالي لا نتطرق لمحاولة لاعب فرنسي التحايل على حكم المباراة للحصول على ركلة جزاء، حتى ولو اعترف بنفسه بذلك، وقد نتغاضى عن تقليص مدرب بريطاني لمساحة ملعب مباراته مع المنافس في يوم اللقاء.

البيضة أم الدجاجة؟

في الواقع، لا نعلم من بدأ هذه المتوالية، لكن ما نعرفه بشكل أكيد، هو أن كرة القدم التي نشأت بوصفها رياضة ذكورية، استبدلت على مدار تاريخها الرفس وتكسير العظام بالغش والحيل الماكرة، التي تهدف في النهاية لحصد أكبر قدر ممكن من الأرباح المتمثلة في الفوز بالمباريات.

أصبح الغش موجودًا في كل مكان، ولكل أسبابه. مع ذلك، يرى كاتب الجارديان البريطانية ويل هوتون، أن هناك تغييرًا مجتمعيًا أسهم في دفع عجلة الغش للأمام.

في الحقيقة من نلتقط محاولاتهم للغش والتحايل بكل الطرق هم صفوة المجتمع الرياضي، أيًا ما كانت جنسياتهم وخلفياتهم الاجتماعية والثقافية.

عند هذه اللحظة علينا أن نتوقف، لأنه مع تحول رياضة مثل كرة القدم لصناعة مليارية، اتسعت الفجوة بين الصفوة والبقية، وتم تقويض الإيمان بالمعاملة العادلة بين الأطراف المتنافسة، إذ أصبح من الصعب جدًا إقناع تيري هنري أن لمسة يده المتعمدة حرمت منتخبًا صغيرًا من تأهل تاريخي لكأس العالم، وفي المقابل يرى سواريز أن أمته المستضعفة تستحق الفوز حتى لو كلفه ذلك عَض منافسه.

# رياضة # كرة قدم # منتخب البرازيل # منتخب الأرجنتين # منتخب تشيلي # كوبا أمريكا # منتخب كولومبيا

التحرش وكرة القدم النسائية: الخطر الأكبر الذي يهدد اللعبة
كيف جمعت كرة القدم بين الخبث والجمال؟
كيف أتت الشركة الألمانية بنظام الدوري الجديد؟

رياضة