مجتمع

أصداف ولآلئ: كابوس الثانوية العامة!

ثلاثون عامًا والكوابيس لم تنتهِ، لأننا لا نُقيّم العقول بل نُصنّفها.. لم يكن الكابوس في الامتحان، بل في نظرة المجتمع لما نحب وما نختار.

future صورة تعبيرية صنعت بواسطة chatGPT لمدرسة ثانوية بمصر فترة التسعينات

هُنَاكَ شَيءٌ فِي نُفُوسِنَا حَزِينٌ
قَدْ يَخْتَفِي وَلَا يَبِينُ
لَكِنَّهُ مَكْنُونٌ
شَيءٌ غَرِيبٌ... غَامِضٌ... حَنُونٌ

(من قصيدة «الشيء الحزين»، صلاح عبد الصبور)

لم أقصد هنا في عنوان هذا المقال أي نوع من المجاز، وأنا أتحدث عن كابوس الثانوية العامة!

فرغم أنني اجتزت هذه الشهادة، وحصلت على ليسانس الآداب بعدها، واجتزت أكثر من مرحلة في الدراسات العليا، ومارست التأليف، وَلِيَ ما يزيد على 20 كتابًا منشورًا، عدا الأبحاث والدراسات المتفرقة ومئات المقالات، فما زلت حتى اللحظة أقع تحت وطأة كابوس الثانوية العامة الذي لم يفارقني منذ كنت طالبًا بها، وحتى وقتنا هذا!

لا أجد لذلك تفسيرًا ولا معنى! فقط يُنغِّص عليّ هذا الكابوس نومي، ويوقظني مذعورًا مرتاعًا، يكاد قلبي يتوقف من الرعب؛ رعب أن يفوتني الامتحان، رعب ألا أستطيع الإجابة عن أسئلة الامتحان، رعب أنني لم أُذاكر، وأن كل ما ذاكرتُه قد تبخّر!

لا تسلني عن أي تفاصيل؛ هذه هي الحقيقة التي أعيشها منذ ثلاثين عامًا بالتمام والكمال، ولا ذنب لي في ذلك والله العظيم!

لماذا أستعيد ذلك الآن؟ وما مناسبته؟

منذ يومين فقط، أُعلنت نتيجة الثانوية العامة للعام الدراسي (2024/ 2025). أعادني هذا الإعلان ثلاثة عقود إلى الوراء! يعني 30 سنة تقريبًا! عُمرٌ بحاله!

وما دخل ذكرياتي أنا في هذه المناسبة السعيدة لناس، والحزينة لآخرين، والقاتلة لفئات أخرى؟

ولماذا دائمًا تحشر نفسك – يا إيهاب – فيما لا يخصك ولا يعنيك، وقد اجتزتها على أية حال؟

الحقيقة: أنا لم أقصد لا التدخّل، ولا الحشر، ولا الزجّ بذكرياتي في الموضوع! كل ما هنالك أنني استرجعتُ ما جرى لي قبل ثلاثين عامًا في نظامٍ تعليمي قاسٍ، شديد القسوة (وما زال)، وفي ثقافة اجتماعية لا تحترم آدميتك، ولا اختيارك الحر، وتفرض عليك مساراتٍ وطرقًا تجعلك تخسر أعوامًا من عمرك في سبيل تعديل المسار، واتخاذ القرار، والبحث عن الطريق!

كنت من طلاب القسم العلمي، ولا أعلم لماذا؟

أنا أحب الأدب، وأحب التاريخ والفلسفة، وأميل إلى الإنسانيات ميلًا شديدًا، فلماذا ألتحق بالقسم العلمي وأدرس الكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات؟! لماذا؟!

ببساطة، لأن المزاج العام للمجتمع المصري في ذلك الوقت، وفي بنية وتكوين العائلات والأسر المصرية، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، صاروا ينظرون إلى قِسمة العلمي والأدبي كمعيار للحُكم والتصنيف والنظرة العنصرية!

الالتحاق بالقسم العلمي يعني أنك إنسان سَوِيّ، شاطر، متفوق، يُنظر لك الأقربون والمجتمع كله نظرة إكبار، لأنك قررتَ التسابق على كلية من كليات القمة (الطب والهندسة والصيدلة).

الالتحاق بالقسم الأدبي يعني أنك حرفيًّا فاشل! اخترتَ طريق الفاشلين، ضعفاء الذكاء والقدرات! تهرب من مواجهة الفيزياء والكيمياء والرياضيات إلى الفلسفة وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا.. هذه المواد التي لا تليق إلا بالفاشلين، وبالذين لا يقدرون على تبعات الدراسة بكليات القمة.. تخيّل!!

هذه هي النظرة التي كانت سائدة، وظلّت سائدة، ويبدو أن هناك اتجاهًا صارمًا لتسييدها لفترات طويلة قادمة.. للأسف الشديد!

هذه النظرة التي حذّر من تسييدها وتحكّمها في رقاب المصريين الدكتور لويس عوض قبل أربعين سنة كاملة، ولم يهتم أحد بما قال، ولم يكترث أحد لتحذيره، فكانت النتيجة: انفجار قنابل جهل وتخلّف وضلال إنساني وحضاري في وجوهنا وفوق رؤوسنا.

تسييد هذه النظرة أوصلنا إلى توصيف لويس عوض الموجع: «الأمية [الثقافية] هي أمّ البلاء»! وكأن لويس عوض يسمع ويرى ويحلّل مصيبتنا منذ نصف قرن أو يزيد.. هي هي!

«فعندما أظهرت الحكومات المتعاقبة منذ خمسينيات القرن الماضي انحيازًا للعلوم التطبيقية دون العلـوم النظرية، في أوائل عهد الثورة، كانت النظرية: بما أننا في حاجة إلى التصنيع، فنحن لسنا في حاجة إلى علماء متقدمين في العلم، ولكننـا بحاجة إلى أسطوات، ولذلك ألغت الحكومة البعثات طويلة الأجل! وكانت الطامة، بل المصيبة، أنها ألغت أيضًا البعثات في العلوم النظرية، وفي الآداب والإنسانيات، وأصبحت تقريبًا غير موجودة، وأصبح التركيز كله على إيفاد الخريجين من شباب الجامعة إلى ألمانيا، والبلاد الأخرى، لتلقي دورات تدريبية في العلوم التكنولوجية. كان هذا في الفترة التي كان فيها السيد كمال الدين حسين مهيمنًا على التعليم كله في مصر، وكانت هذه هي العقلية السائدة، وكان القصد منها – قصدًا شريفًا ولكنه مغلوط – لأن التطرّف في أي اتجاه لا ينتج عنه إلا الشطط، فنتج عـن هذا أن مصر ضَمر عقلها المُفكر من جهة، وأصبح العلم العالي لفترة طويلة مقصورًا على هذه الدراسات التدريبية، وكانوا مهتمين بـأن يُجهّزوا مهندسًا يدير المصنع أكثر من أن يُجهّزوا أستاذًا بالجامعــة كمشرفة أو أحمد زكي أو طه حسين، يستطيع بعلمه أو بأدبه أن يُعطـي البلاد علمًا وفكرًا. أنا أعتقد أننا ما زلنا في هذه المرحلة من الصراع بين هذه القيم، وهذا الصراع لم يُحلّ حتى الآن، والدليل على هذا: قضية التعليم التي تُثار الآن، ليس هناك مواطنان يختلفان على أن الأمية هي أسُّ البلاء».

(من محاضرة لـ لويس عوض في مؤتمر «نحو مشروع حضاري تربوي لمصر»، نظّمته رابطة التربية الحديثة بكلية التربية – جامعة عين شمس، عام 1987)

لا أريد أن أستطرد أو أستفيض فيما تسبّبت فيه هذه النظرة من مشكلات وآلام وجروح على المستوى الشخصي!

لكن فقط أشير إلى أنني بذلت جهدًا فائقًا، وكبيرًا جدًّا، للتغلب على تلك العذابات والمرارات، بجهدٍ جهيد، وتعبٍ، وكفاحٍ مرير، حقيقة!

في أي مجتمع حرّ الرأي والفكر، وفي أي مجتمع لا تحكمه نظرات الاستعلاء والأوامر والنواهي (سواء كانت دينية أم حكومية أم سلطوية من أي نوع)، لا توجد حاجة لبذل هذا الجهد من الأساس، لأن أفراد هذا المجتمع يُولدون وهم يتمتعون بهذا الحق مطلقًا ودونما انتقاص!

عامان كاملان قضيتهما في محاولة لَمّ الشّتات، والتغلب على الطعنات التي أصابت روحي ونفسي وعقلي.. تحرّرت من وطأة كل ذلك بعد أن شربتُ الكأس حتى الثمالة!

فماذا يحدث لك إن وقع عليك الأسوأ فعلًا!

عندما يتعرض إنسانٌ للإيذاء، ويتعرض لأبشع ألوان الألم النفسي، فإنه في لحظة بعينها ينتفي إحساسه تمامًا! غالبًا، مع تعاظم الألم ووصوله إلى ذروته، يموت العَصَب! بالضبط مثل عملية إماتة العصب في حشو الضروس المعطوبة، والأسنان المتسوسة!

ثلاثون سنة، وأنا أحاول أن أتخلص من مرارات وآلام لم يكن هناك أي داعٍ لها!

وماذا كان يحدث لو أدركنا – أو لم يغب عن إدراكنا أو إدراك السادة المسؤولين عن التعليم في مصر – أنه ليس هناك أي ارتباط عميق وحقيقي بين درجة الوعي وكفاءة عمليات التفكير ومستوى التعليم الحاصل.. ربّ أشخاص حاصلون على أعلى الدرجات العلمية، ومستوى وعيهم أقل من مقبول!

وأن أي نسبة مئوية لمجاميع الثانوية العامة لا تعكس أبدًا المستوى الحقيقي للتفوق والابتكار الأصيل.. واسألوا عن المائة الأوائل على الثانوية العامة في الخمسين سنة الأخيرة.. أين هم؟ وإلام صاروا؟ وكم منهم ثبت نبوغه وتفوقه على الحقيقة لا المجاز؟

ثلاثون سنة، وكل يوم تترسخ قناعتي بأنه ليست هناك كليات قمة وكليات قاع.. والله العظيم! هذه أكذوبة كبرى! أكذوبة من الأكاذيب التي تُكبّلنا وتشلّنا وتجعلنا دائمًا في «مزرطة الخلاط» (مع الاعتذار للفنان محمد سعد!)

كنتُ أحدث نفسي قائلًا: «ثِقْ أنك أنت الذي تصنع بإرادتك الحرة ووعيك اليقظ "قمة" أو "قاع" دراستك إذا شئت».

من الأوهام القارّة الراسخة في الثقافة المصرية: ترديد مقولة «قاع وقمة».. والفصل الغبي المتعسف بين «علمي» و«أدبي».. وتسييد فكرة أن الملتحق بالقسم العلمي هو الأكثر ذكاءً ونباهة وتفوقًا!! وأن القسم الأدبي «جراج» لإلحاق أنصاف الموهوبين والعجَزة وضعيفي التحصيل!!

وإذا لم تُصدّقوني فهاتوا الدفاتر المنسية، وراجعوا أرقام ودرجات وتقديرات من اعتبرتموهم متفوقين وفق نظام التربية والتعليم...

لسنا دولة مؤسسات متقدمة، ولمّا نصل إليها بعد! وبالتالي، فالمقدرة والتفوق، وإثبات كفاءة حقيقية، قرينةٌ بالفرد و«الفردية»، وبكفاحه الذاتي، وتحصيله الشخصي، ونمو وعيه، وتفكيره العقلاني من عدمه. ومن يعوّل على غير ذلك فلن يُحقق شيئًا (أو هكذا أظن!).

بين كل مائة يقومون على العملية التعليمية والتدريس للطلاب، لن تجد ما يزيد على أصابع اليد الواحدة يُحقق نموذج «الأستاذ» و«المدرس» كما نتمناه ونحلم به.. الجامعات والمعاهد مكدّسة بآلاف ممن يسبق أسماءهم حرفُ الدال، وأتحدّى أن يكون عشرة في المائة منهم مستوفين لِلوازم ومقتضيات التدريس بالمفهوم الدقيق؛ نفسيًّا، وعصبيًّا، وذهنيًّا، وأن يكونوا مؤهلين كامل التأهيل، بما في ذلك: القدرة على التفاعل مع الطلاب، والتواصل معهم، والتعبير عن الذات، والانفتاح على دوائر معرفية خارج دائرة تخصصه!

والحديث ذو شجون...

# تعليم # الثانوية العامة # مجتمع

ظلال أمريكية على ثورة يوليو
الأدب والثورة؟ ثورة يوليو نموذجًا
نجيب محفوظ بين ثورة 1919 وثورة يوليو

مجتمع