مجتمع

أشبال النمور الآسيوية: قصة صعود العملاق الإندونيسي

تخطو إندونيسيا خطوات قوية في اتجاه تعظيم اقتصادها، وتُجاهد لتسبق عديدًا من الدول التي تربّعت على صدارة المشهد الدولي لفترة طويلة.

future منظر ليلي لمنطقة الأعمال المركزية سوديرمان، جاكرتا، إندونيسيا.

تحتل إندونيسيا المركز السادس عشر في ترتيب أكبر الاقتصادات حول العالم، والمركز الأول في جنوب شرقي آسيا، وهي رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وقد حقّقت جاكرتا نموًا اقتصاديًا مُبهرًا منذ التغلب على الأزمة المالية الآسيوية في أواخر التسعينيات؛ حيث تعافت منها وحقّقت تقدمًا كبيرًا في مكافحة الفقر، فخفّضت معدله بأكثر من النصف منذ نهاية التسعينيات، ليصل إلى أقل من 10% في عام 2019 قبل ظهور جائحة كوفيد-19 عام 2020.

الصعود الاقتصادي

انتهجت إندونيسيا خطة تنمية مدتها 20 عامًا، تمتد من عام 2005 إلى 2025، وهدفت المرحلة الأخيرة من تلك الخطة، التي تمتد لخمس سنوات بين عامي 2020 و2025، إلى زيادة تعزيز الاقتصاد من خلال تحسين رأس المال البشري والقدرة التنافسية في السوق العالمية.

وقد بلغ معدل نمو الاقتصاد خلال العام الماضي 5.05% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وهو معدل فاق التوقعات التي وضعتها المؤسسات الدولية. كما أحرزت تقدمًا كبيرًا في تصنيفها على مؤشر الابتكار العالمي (من المرتبة 75 إلى المرتبة 61)؛ إذ تفوّقت في مؤشرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وصُنّفت في المراتب العشرة الأولى عالميًا من حيث التعاون بين الجامعات وقطاع الصناعة في البحث والتطوير.

وقد اتجه الإندونيسيون إلى مواطن قوتهم، وهو امتلاكهم لأكبر احتياطي من النيكل في العالم، فركّزوا على تعظيم الاستفادة منه، ومحاولة تصدير الصورة الأكثر قيمة من تلك المواد بدلًا من تصديرها بصورتها الخام، وكذلك اجتذاب الشركات المستوردة للمواد الخام ودفعها للاستثمار في الداخل الإندونيسي من أجل توطين التكنولوجيا والصناعات المتقدمة.

ونتيجة الميزة النسبية التي تمتلكها إندونيسيا في النيكل، حاولت أن تصبح أكبر مُنتِج لبطاريات السيارات الكهربائية في العالم. وقد تحدت منظمة التجارة العالمية وحظرت تصدير المعادن عام 2020 رغم اعتراضات الاتحاد الأوروبي؛ إذ وجد الأوروبيون أنفسهم في مأزق لاعتماد مصانعهم على هذا المعدن في صناعات كهربائية ودفاعية وطبية.

كذلك تمتلك إندونيسيا البوكسيت الذي يُستخدم في تصنيع الطائرات والبطاريات، والقصدير الذي يدخل في صناعة الشاشات وأجهزة اللابتوب. وقد وقررت شركات أوروبية وآسيوية فتح فروع لمصانعها في إندونيسيا، وبذلك نجحت الأخيرة في إعطاء دفعة قوية للقطاع الصناعي بها وجذب المستثمرين الأجانب، مما يخدم هدفها المتمثل في الوصول لمرتبة خامس أكبر اقتصاد عالمي عام 2045.

وقد تنبأ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عام 2020 بأن إندونيسيا قد تصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2024، وهو ما لم يحدث، بل تراجع النمو الاقتصادي خلال أزمة فيروس كوفيد-19، لكن جاكرتا استعادت نشاطها بعد الأزمة من جديد.

وتُوصف إندونيسيا بأنها أحد أشبال النمور الآسيوية؛ وهي التسمية التي أُطلقت على دول جنوب شرقي آسيا الطامحة لمحاكاة تجارب تايوان وهونج كونج وسنغافورة وكوريا الجنوبية، التي ترتكز في اقتصاداتها على تصدير المصنوعات، لكن الفرق بين إندونيسيا والبقية هو ضخامة تعدادها السكاني، فمعدل نمو الطبقة الاستهلاكية لديها أسرع وأقوى من أي اقتصاد في العالم باستثناء الصين والهند، فالحقيقة هي أن الاستهلاك المحلي، وليس الصادرات فقط، هو محرك النمو بحسب بعض المراقبين.

وقد التزمت إندونيسيا بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، لكن لا يزال تحقيق التوازن بين الاعتبارات الاقتصادية وتحقيق هذا التحول الكبير يشكل عقبة رئيسية، بخاصة مع مشروع نقل العاصمة إلى جزيرة كاليمانتان، الذي يثير قلق المختصين بالبيئة من أن يشجع على إزالة مزيد من أراضي الغابات.

إندونيسيا في حلبة التنافس الدولي

تعد إندونيسيا لاعبًا كبيرًا في جنوب شرقي آسيا، وهي أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان، وباتت أخيرًا تطمح إلى لعب دور أكبر على المسرح العالمي. وباعتبارها قوة صاعدة حريصة على الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، فإن جاكرتا تشعر بقلق عميق إزاء حالة الاستقطاب الدولي وسط أجواء التنافس بين الولايات المتحدة والصين، فالأخيرة هي أكبر شريك تجاري لها وثاني أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي، مما يثنيها عن الانحياز إلى الولايات المتحدة التي تُعَد أكبر شريك أمني لها.

وخلال الأزمة الأوكرانية أعلنت جاكرتا أن موسكو وكييف صديقتان لها، ورفضت إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، مُشيرةً إلى أن دستورها يحظر تقديم المساعدات العسكرية لدول أخرى، وفي يونيو 2022، سافر الرئيس جوكو ويدودو إلى روسيا وأوكرانيا للوساطة ونجح في الحصول على ضمانات من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن التسليم الآمن للأغذية والأسمدة من منطقة الحرب. وقد اقترح وزير الدفاع برابوو سوبيانتو، بصفته الشخصية، خطة سلام أثارت انتقادات الدول الغربية لأنها لم تتطلب انسحابًا روسيًا كاملًا من الأراضي الأوكرانية.

ومن الجدير بالذكر، أن إندونيسيا خفّضت وارداتها من الأسلحة الروسية خلال السنوات الخمس الماضية بسبب العقوبات الغربية على روسيا، وزادت وارداتها العسكرية من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وفرنسا.

تسعى جاكرتا إلى الاستفادة من التنافس بين واشنطن وبكين، للحصول على دعم أمريكي للتحديث العسكري؛ ففي أغسطس 2023 التقى وزير الدفاع نظيره الأمريكي، وأصدرا بيانًا مشتركًا غير مسبوق ينتقد محاولات بكين التوسع في بحر الصين الجنوبي. وبعد فترة وجيزة قررت واشنطن بيع طائرات إف-15 ومروحيات بلاك هوك إلى جاكرتا، وهو مؤشر إلى أنها قد تكون قادرة على جني المكاسب من واشنطن رغم حفاظها عمليًا على علاقاتها مع بكين. وقد رفضت جاكرتا الانضمام إلى مجموعة البريكس التي تتصدرها الصين وروسيا، مما أوحى بأنها تخشى الانضمام إلى تجمع قد يُعرّف نفسه بأنه معارض للغرب.

برابوو يستكمل المسيرة

تعد عملية التحول الديمقراطي في إندونيسيا التي بدأت منذ عام 1998 تجربة ملهمة لعديد من دول العالم؛ فرغم ما صاحب هذا المخاض من آلام ومشاكل، فإن التجربة أثبتت أنها قادرة على إطلاق طاقات كبيرة في ظل سعي الجميع لكسب سباق التنافس على رضا الناخبين وخدمتهم.

وأثبت الشعب الإندونيسي تمسكه بمكتسبات هذه المرحلة، بخاصة عندما اندلعت تظاهرات نظّمها طلاب الجامعة ضد محاولات الرئيس جوكو ويدودو تمديد فترة بقائه في منصبه لأكثر من ولايتين مدة كل منهما خمس سنوات تنتهي الثانية منهما هذا العام (2024)، وعد كثيرون ذلك تهديداً للإصلاحات الديمقراطية.

وبالفعل تراجع ويدودو لكنه استعاض عن ذلك بإيصال نجله الأكبر، جبران، إلى منصب نائب الرئيس، وهو تصرف رغم كونه تم بطرق ديمقراطية شكلياً، لكنه أثار انتقادات واسعة باعتباره نوعاً من توريث السلطة، وخرقاً للتعهد الذي كان قد قطعه على نفسه بعدم إقامة سلالة حاكمة.

ومؤخراً أصدرت لجنة الانتخابات الوطنية النتيجة النهائية للانتخابات الرئاسية التي جرت في 20 مارس/آذار 2024، والتي فاز فيها وزير الدفاع برابوو سوبيانتو، ونائبه جبران، بانتصار ساحق بنحو 58% من إجمالي الأصوات.

ولا يمكن إنكار تأثير الرئيس في إنجاح برابوو ودعمه وصول ابنه جبران للسلطة، ولذلك قدم الخصوم طعوناً في نتيجة الانتخابات أمام المحكمة الدستورية، ومن المفترض أن تصدر المحكمة قرارها النهائي قبل التنصيب الرسمي في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.

وخلال الحملة الانتخابية، أكد المرشح برابوو ونائبه الحفاظ على إنجازات الرئيس ويدودو، وفي عديد من المناسبات، غالباً ما قدّم برابوو الأداء الاقتصادي لويدودو باعتباره الأساس الرئيسي لسياسته الاقتصادية بمجرد انتخابه رئيساً.

ويرى برابوو أن نسبة 8% هي الرقم المثالي لنسبة النمو الاقتصادي في عهده، ويؤكد أنه سيبدأ حقبة جديدة للبلاد، وأظهر التزاماً تجاه استحقاق الحفاظ على قوات عسكرية وأمنية جيدة الإدارة ومجهزة تجهيزاً جيداً. وأيضاً تعد إلى نظام عالمي جديد، لصالح الجنوب العالمي والدول النامية، جزءاً لا يتجزأ من سياسة برابوو الخارجية.

ومن الجدير بالذكر هنا أن إندونيسيا قد اختتمت بنجاح رئاسة مجموعة العشرين في نوفمبر 2022، وتولت رئاسة الآسيان في عام 2023، مما أظهر دورها القيادي وقدرتها على تمثيل مصالح الدول النامية.

ويبدو أنه سواء في عهد ويدودو الحالي أو خليفته المرتقب، فإن جاكرتا تسير وفق منهج تعويو مكانتها الاقتصادية أولًا ثم تعظيم ثقلها الدبلوماسي في منطقة جنوب شرقي آسيا، بل وخارجها أيضًا، ورغم أنها تجنبت إلزام نفسها صراحة بتحقيق هدف التحول إلى قوة عظمى عالمية، لكنها بالفعل قوة إقليمية بحكم الأمر الواقع، ولديها القدرة على أن تصبح قوة عظمى اقتصادية، وهي تخطو خطوات قوية في اتجاه تعظيم اقتصادها، وتُجاهد لتسبق عديدًا من الدول التي تربّعت في صدارة المشهد الدولي لفترة طويلة.

# إندونيسيا # اقتصاد # آسيا # جاكرتا

اقتصاد المؤثرين: كيف يقود المؤثرون قرارات الجمهور؟
إنفوجراف: ملخص الاستثمارات - أغسطس 2024
أبل: قمة الإبداعات وقبلة العملاء

مجتمع