فن

أسرار البشتختة: صندوق العجائب الذي حفظ الوثائق واللآلئ

صندوق عجيب لا يعرف كثيرون أنه لا يظل هناك، يصنع على مهل بمقاييس وتفاصيل خاصة، لا يحوي مجوهرات وأغراضاً نفيسة وإنما أسراراً وأوراقاً وتفاصيل، فما قصته؟

future صورة للبشتختة

في ورشته الخاصة بمنطقة الأزهر يواصل عادل جمعة حسن صناعة التحف النادرة، ومن بينها البشتختة، ذلك الصندوق العجيب الذي لا يعرف كثيرون أنه ما يزال هناك، يُصنَع على مهل بمقاييس وتفاصيل خاصة جداً، هي القطعة نفسها التي يتم بها تعريف التاريخ بدول عديدة، لا يحوي المجوهرات والأغراض النفيسة، ولكنه أيضا يحوي أسراراً وأوراقاً وتفاصيل، فما قصة البشتختة؟

ما البشتختة؟

البشتختة المعروضة في متحف قطر الوطني - مصدر الصورة من الصفحة الرسمية للمتحف

في كتابه تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية يذكر المؤرخ العلامة الماروني طوبيا العنيسي لفظ بشتختة باعتباره لفظاً دخيلاً على اللغة العربية الفصحى، وصفه بأنه عامي، ويعني الصندوق الصغير، وأصله فارسي مركب من بيش أي أمام، وتختة أي لوح.

أما الباحث والفنان الكويتي حميد إسماعيل خزعل فيعرف البشتختة في كتابه تراث في الفن التشكيلي الكويتي بقوله: «البشتختة صندوق خشبي لحفظ الأشياء الثمينة، يُصنَع في الهند من خشب السيسم (الأبنوس) وفيها جيوب وزوايا يستخدمها أصحاب المجوهرات لحفظ اللآلئ، ويستخدمها الطالب لوضع أدواته الكتابية، والكلمة أصلها تركي، من باشا تخته، أي الطاولة الملوكية، وقيل فارسي، من بنج تخته، أي الرفوف الخمس».

ورغم تنوع أشكالها وألوانها وتفاصيلها وحتى زخارفها، بين البساطة الشديدة، والزخرفة الفاخرة، والتفاصيل الدقيقة، تبقى البشتختة جزءاً من التاريخ، تصنعه حيناً ويصنعها حيناً، وبين هذه وتلك يظل ما تبقى منها شاهداً على ذكريات وحكايات استثنائية.

ربما لهذا اختارت الباحثة نهى جميل محمد، المدرسة في كلية الآثار بجامعة القاهرة، أن تذهب بحثاً عن مجموعة من أجمل قطع البشتختة التي ما تزال متوفرة في متحف قصر ستار ماهر خاص ببخارى، المؤرخة بالقرنين الـ 13 و14 الهجريين والـ 19 و20 الميلاديين، حيث وصفتها في دراسة منشورة في العدد السادس والعشرين من مجلة كلية الآثار بتاريخ يناير 2023، تقول: «كانت الصناديق محل الدراسة تُستخدَم لحفظ الحلي الخاصة بالمرأة الأوزبكية، حيث كانت صناعة مشهورة هناك، كما كانت في كل من خيوة وسمرقند، وطشقند».

وقد تناولت في بحثها ست علب تميزت بالثراء الزخرفي والخصائص الفنية من حفر بارز وآخر مسطح لزخارف نباتية وهندسية، مع نقوش كتابية باللغتين العربية والفارسية، مع ترصيع بالمينا والزجاج الملون، وكذلك أسلوب التخريم الذي استُخدِم كطابع زخرفي، وقد صُنعت جميعاً من النحاس الأصفر.

ويبدو أن لفظ بشتختة أُطلق في السياق نفسه على الصناديق المزخرفة، وإن اختلفت وظيفتها، ففي كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز يصف رفاعة الطهطاوي البيوت الفرنسية، وفي معرض وصفه ذكر ما أسماه بساعة بشتختة بقوله: «رأيت ساعة بشتختة وحول الساعة من الجهتين آنية من تقليد الرخام الأبيض أو من البلور، فيها أزهار أو تقليد أزهار، وحول هذا من الجهتين القناديل الإفرنجية الدولابية التي لا يدرك صورتها حقيقة إلا من رآها موقودة».

أقفال استثنائية لصندوق الأسرار

البشتختة

حظيت البشتختة بعناية استثنائية في إعداد أقفال خاصة، لا يمكن فتحها إلا بصعوبة، ربما لهذا تشير كاملة بنت عبد الله بن علي القاسمي، في كتابها تاريخ لنجة، إلى قصة الرجل الذي تخصص في فتح الأقفال الصعبة، فتقول: «دخل الرجل بيته وجاء ببشتختته، وقال: «من فضلك افتح لي هذه البشتختة لأنها غرقت، وجميع السندات والوثائق فيها».»

ما يزال عادل جمعة، ينتج تلك القطعة الفنية، ولكن على طريقته الخاصة، وهو يعلم أنه يصنع تحفة لا يطلبها سوى قلة قليلة، تلك التي تقدر قيمتها وقدرها، ولكن بعيداً عن الزخارف النباتية، يقول لكروم: «أصنعها من النحاس المطعم بالفضة، أو من الخشب المطعم بالصدف في ورشتي المخصصة لصناعة التحف».

مهنة ورثها أباً عن جد في منطقة خان الخليلي، يواصل ممارستها، رغم عمله موظفاً في الأزهر الشريف صباحاً، لكنه لا ينكر عشقه لمهنة صناعة التحف على غرار تلك الأصلية المحفوظة في متحف الفن الإسلامي، وعلى طريقة المدرسة القديمة التي تعامل من خلالها الأجداد، يقول: «لا أستخدم سوى قلم حديد وشاكوش».

الفنان المصري عادل جمعة

في ورشته ستجد نماذج طبق الأصل لصندوق حفظ المصحف المجزَّأ الخاص بالناصر برقوق، عادل البالغ من العمر 57 عامًا صنع أيضاً نسخة من مقعد عشاء السلطان محمد بن قلاوون، وعلبة دواء طبيب صلاح الدين، وغيرها العديد من القطع الفنية النادرة. صحيح أن المهنة قاربت على الاختفاء، لكن عادل يسعى لتوريثها أبناءه الذين يشاركونه العمل بالفعل داخل ورشته.

عالم بشتختتات الخليج

البشتختة بالشكل السداسي

في كتاب تراث الأجداد: تراث لجوانب مختلفة من تاريخ مأثوراتنا الشعبية يصف المؤلف البشتختة، باعتبارها واحدة من الأدوات البحرية القديمة لدى العاملين في مجال جمع اللآلئ، ويقول: «هي عبارة عن صندوق من الخشب الجيد، مزخرفة بزخارف جمالية غاية في الدقة والروعة، كانت هذه الأداة شائعة في الزمن الماضي بكثرة، خاصة أيام الغوص».

الحق أن البشتختة ارتبطت بسكان الخليج بصفة خاصة، ربما لهذا اعتبرت قطر اكتشاف بشتختة تاريخية حدثاً مهمًّا، حتى إنهم أشاروا إلى أن البشتختة، التي يُعتقَد أنها تعود إلى القرن التاسع عشر، أحد المعالم الرئيسية التي تُعرَض في القسم الخاص بالزيارة في متحف قطر الوطني.

وقد تنوعت استخدامات البشتختة في طول الخليج، حيث لم تكن وسيلة لحفظ المجوهرات وحسب، ولكن لحفظ كل نفيس، كلٌّ بحسب مهنته، ومجال عمله، ففي كتابه لؤلؤ الخليج: ذاكرة القرن العشرين يذكر خالج عبد الله عبد العزيز كيف أن أي طواش - الطواشة هي مهنة المتاجرة باللؤلؤ - لا يستغني عن أدواته الخاصة التي تظل مخزونة في صندوق خاص به، يطلق عليه البشتختة، وهو مصنوع من خشب السيسم الخاص، قوي، مقاوم يتحمل عوامل الزمن، حتى إن بعضها يصل عمره إلى 300 سنة، دون أن يحدث له أي تغيير، وتتفاوت غالباً نوعيات البشتختة من طواش إلى آخر، ويلازم هذا الصندوق في مجلسه وأماكن استقراره، ولا يفارقه أبداً.

مع ذلك يعترف الخليجيون أن اللفظ لا ينتمي إليهم، ففي كتابه الجهيل في لهجة أهل الخليج يشير أحمد عبد القادر شاذلي إلى معنى بشتختة، وأنها صندوق صغير يستعمله التجار لحفظ النقود وأدوات الكتابة.

ثمن بشتختة المحب بن فاخر وزبيب

البشتختة بنقوشات إسلامية

كانت البشتختة واحدة من الهدايا المعتبرة التي يرسل الناس في طلبها، يشهد على ذلك رسالة لم يُذكر اسم مرسلها، وفيها: «وانظروا لأخيكم بشتختة محكمة التركيب مثل التي اشتراها الزنبور من الصرهنج الحاج مغرور، وإذا وجدتم أحسن منها فهو المراد، لكن الطول والعرض كتلك البشتختة لا نحب أن تكون أطول منها أو أعرض، ومثلكم لا يحتاج إلى تأكيد … ثم إن الصادر إليكم على سبيل المحبة والوداد فرسلتان من البن الفاخر في زنبيلين، ورسلتان من الزبيب في زنبيل واحد، صحبة المحب محمود بن مسعود، تفضلوا بقبوله والله يرعاكم، وبلغوا سلامنا إلى سائر المحبين». هكذا كان الأثرياء يرسلون في طلبها، من البلاد البعيدة، بحسب كتاب قراءة في اللغة العربية الجديدة للمستشرق النمساوي أدولف فارموند، الذي يضم مجموعة من المراسلات العربية القديمة، والصادر في أبريل 1880، إحداها مراسلة بين اثنين من التجار.

فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية
هل المبادر الأول في السوق «First mover» الأكثر نجاحاً؟
My Favourite Cake: الحياة كعكة ساخنة في انتظار رفقة

فن